هل أحكي اليوم قصة السفر والغربة، أم أحكي قصة الأمل والحزن، أم أسترسل في قصة الأمل والفرحة؟! نعم إنها متناقضات لكنها اجتمعت في كثير من رحلاتي، سواء الشخصية أو الإعلامية، فلا تفرح في نقطة وصول إلا وتحزن في النقطة التي تليها، ولا تذكر أحد المواقف المحزنة إلا ويقشع غبارها ضحكة مجلجلة تذكراً لموقف آخر، وتلك عادة الأيام والدهور. حكاياتي هذه ليست ضرباً من الخيال، أو نسجاً من الأوهام، بل هي مشاهد رأيتها بأم عيني، فحاولت أن أنقلها لكم لتكون بداية لتأريخ رحلات كثيرة لمن يحملون هم نقل المشاعل إلى الغير. سأبدأ رحلتي هذه، بأن أذكركم بأنها لن تكون كما يريد الكثيرون، بل هي نسج قلم لا أتدخل فيها كثيراً، أدع القلم يكتب ثم أعود لأنقحها لغوياً وفكرياً، وقليلاً ما أتدخل في صلب العملية حتى أكون منصفاً لعقلي العزيز. عندما أبدأ التجهيز للسفر، كالعادة أبدأ في التخطيط الباكر لموعد سفري، وأحاول أن أقرأ كثيراً في المكان المراد حتى أعرف تاريخ هذه المنطقة، لأضع تصوراً معيناً لها في كيفية التعاطي مع هذه الزيارات، التي لا تتعدى في العادة 15 يوماً. المرحلة الأخيرة في التخطيط تكون باللقاء مع بعض الزملاء والمعارف، الذين زاروا هذه المنطقة، فيعطونك تصورات شبه متكملة عن هذه المنطقة، وينصحونك بنصائح لا تقدر بثمن. هذه المرة الرحلة كانت إلى أثيوبيا، ذهبنا إليها في مشروع إعلامي كبير، يحاول أن يوثق لأرشفة إعلامية لكل مراحل انتشار العرق العربي هناك، وطرق توزعه في تلك البلاد القصية. كانت الرحلة من الرياض إلى أديس أبابا «عاصمة أثيوبيا»، وليس في الرحلة شيء يُذكر، ولكن عند الوصول اكتشفنا أن درجة الحرارة كانت 12 درجة مئوية، ونحن مقبلين من الرياض، التي درجة الحرارة 45 درجة، وهذه قمة المفارقة. كان وصولنا إلى أديس أبابا في آخر الليل، فلم نرَ شيئاً يذكر، ولكن منذ صباحها رأينا مجموعة من الأمور، أولاها: الجو المنعش الذي تعيش فيه هذه المدينة، فالأجواء لديهم باردة طوال العام، والأمطار لا تتوقف إلا أياماً وتعود أقوى مما ذهبت، وهذا يعود لارتفاعها بأكثر من 4500 كم عن سطح البحر، في ما يعرف باسم هضبة الحبشة، وللمعلومة فاسم الحبشة، كما تذكر المصادر، مشتق من قبيلة «حبشت» اليمنية، التي هاجرت إلى هذه المنطقة في القرن الخامس قبل الميلاد، وغلب اسمها على كل الضواحي. «أديس» المدينة الحالمة بأجوائها التي تدع كل شيء بها جميلاً، كجبل «أنتوتوا»، إذ هي منطقة من أجمل مناطق الأرض، فهذا الجبل الذي يرتفع عن أديس قريباً من 1000م هو تحفة طبيعية من صنع الباري، وكانت هي المنطقة التي يسكنها الإمبراطور «هيلاسيلاسي»، الذي حكم البلاد قريباً من نصف قرن، وكان يعيش بهذه المنطقة هو وحاشيته، وليست مفتوحة للعامة، ولم تفتح إلا قبل نحو 20 عاماً تقريباً، فأصبح المصيف الأول، والصعود إليها متعب، لأنه في طريق وعر، ومن الأمور الغريبة التي رأيتها هناك، مجموعة النساء اللاتي ينزلن بالقش والحطب من أعلى الجبل إلى الأرض على ظهورهن في مسافة تقدر بعشرة كيلومترات، ليكسبن في النهاية «عشرة بر»، أي ما بعادل «أربعة ريالات»، في صورة بائسة من الفقر الإنساني المدقع، الذي يتضح في هذا البلد بشكل واضح. ومن الصور الأخرى التي رأيناها عند الصعود لهذا الجبل، هي مفاجأة اعترتنا بعد أن أشار المرافق لنا إلى أن هذا المكان سيمطر بعد قرابة الساعة، فضحكنا عليه وقلنا الجو صحو، والمطر والشمس لا يجتمعان، ولكن بعد ساعة صدق حديثه فهطل مطر غزير لا يعرف أوله من آخره، وجعلنا نلجأ لشقوق الصخور في انتظار توقف المطر الذي لم يتوقف إلا بعد ساعتين تقريباً، وهذه قمة المفاجأة. في هذا الجبل هناك مناطق بكر بها الكثير من الأشجار المعمرة، والسهول المخضرة، التي أظن أنها لا توجد إلا في هذه الدولة، التي لا يعرف قدرها إلا الغربيون الذين يأتون فرادى وجماعات، وفي عشرة أيام يرون كل هذا البلد، بواقع يومين لكل مدينة، ويركزون كما رأيت على مناطق الوجود المسيحي ك «قندر وأكسوم» التي هي عاصمة الملك النجاشي، وهذه قصتها في مكان آخر. «أديس» تقع على مرتفع عالٍ، ويذكر المتخصصون أنها تقع على أنقاض مملكة «شوا» الإسلامية، التي يعتقد أنها من أوائل الممالك الإسلامية، التي لم تنقطع عن هذه البلاد. الصورة التي لا تفارق العين من كل الرحلات هي تلك الصورة الشبيهة بصورة الغرابة التي يحكيها الجد لأطفاله قبل النوم، وهذه الغرابة أمر متكاثر في رحلاتك، لأنها مهما تكون أُلفتها تكون غريبة على العين للمرة الأولى. [email protected]