وزّع العداء المغربي الفذّ هشام الكرّوج القبلات يميناً ويساراً، وراح يرقص "كأنه يعزف على الغيتار"، ودعا منافسيه إلى الاحتفال معه بالفوز في سباق 1500م ضمن بطولة العالم التاسعة لألعاب القوى المقامة حالياً في ضاحية سان دوني الباريسية. وبدا احتفال الكرّوج منطقياً جداً، كونه فرض نفسه على السباق، وقاد بقية العدائين وفق الإيقاع الذي يناسبه، على رغم عدم وجود "أرنب" يواكبه، أو مواطن يعينه على ملمّات الأحوال الدراماتيكية التصاعدية في هذه المسافة، التي يتقن احتكار ألقابها. أحرز الكرّوج اللقب العالمي للمرة الرابعة على التوالي، وهو إنجاز لم يسبقه إليه أحد، وأبقى الميدالية الذهب في عنق عربي للمرة الثامنة على التوالي... و"طيّر" القبلات موجهاً شكره إلى الجميع، لا سيما مؤازريه الكثر في "استاد دو فرانس"، ومئات تجمهروا قبل ساعات من موعد المواجهة المنتظرة في ساحات باريسية عدة يحملون اليافطات ويدعون له بالتوفيق. وحين جاب المضمار ملتفاً بالعلم المغربي ليحيي المتفرجين، رنّ الهاتف الخلوي خاصته الذي كان في حوزة مدربه عبدالقادر قادة فأسرع نحوه ل"يوصله" بالملك المغربي محمد السادس الذي حرص على تهنئته، على عادته في كل مرة يحرز "أمير المسافات المتوسطة" إنجازاً جديداً. والفوز الباريسي الأخير ثبّت مجدداً جدارة الكروج الذي لم يخسر في هذه المسافة منذ ست سنوات في نحو 70 سباقاً سوى مرتين كانتا في الدورتين الأولمبيتين الأخيرتين في آتلانتا 1996 وسيدني 2000، وكسر حاجز 3.30 دقائق أكثر من 30 مرة. أول من أمس كان الكروج أمام تحدي المحافظة على تركيزه حتى النهاية، "لأن الفرنسيين كانوا كلهم ضدي طالما أن عداءهم مهدي باعلا - وهو من أصل عربي - كان منافسي المباشر. الصحف هنا قامت بحملة مركّزة لتزعزع ثقتي وترفع من معنوياته. لذا كنت أركض ضده وفي مواجهة 62 ألف فرنسي. لكنني لم أشك لحظة واحدة بأنني لن أتوج بطلاً، وعدتهم أن أخوض سباقاً يمتعهم على غرار ما قمت به أمام الجمهور الإسباني في البطولة السابعة عام 1999 في أشبيلية، حين كان منافساي المباشران فيرمين كاشو وريس أستيفيس"... يومها ألهب الكروج المدرجات وبات "أمير القلوب". ولا عجب في ذلك إذ إن الإطراء المباشر جاء من باعلا شخصياً عقب السباق الأخير حينما علّق قائلاً: "حاولت أن أضغط عليه من دون نجاح، لكنني سعيد جداً بالميدالية الفضة... إن روحه الرائعة وإنسانيته تعتبر مثالاً لنا جميعاً". ويؤكد المخرج الفرنسي ريجيس فارنييه الذي أعدّ فيلماً وثائقياً عن الكروج قبيل مونديال القوى حيث أمضى أياماً معه في إيفران مقر إعداد العدائين المغاربة في جبال أطلس، أنه طيب وودود، "ومن خلال انتصاراته يدخل الأمل في صدور الشباب الساعي إلى مستقبل أفضل". وعلى غرار بقية أترابه "جرى" الكروج خلف كرة القدم في سنواته الأولى وكان أفضل حارس مرمى في فريق حيه، لكن والدته تمنّت عليه أن يختار رياضة أخرى بعدما أنهكها غسل ثيابه المتسخة بالتراب والوحل بعد المباريات، ولأن موازنتها المتواضعة لا تتحمل نفقات إضافية... فجرّب الجري وبرز سريعاً في المسابقات المدرسية، فحُوّل إلى مركز إعداد في الرباط. يومها كانت "موضة" العدو رائجة بعد الانتصار الأولمبي الذي حققه مواطناه سعيد عويطة ونوال المتوكل. ويعتبر الكروج الفوز بمثابة الهواء الذي يتنشقه، "وكل إنجاز يحفزني إلى تحقيق آخر، لكن لا شيء في العالم يوازي الذهب الأولمبي"، هذا الحلم الذي "تبخّر مرتين" وطموحه القبض عليه في دورة أثينا عام 2004، والمتابعة بعدها حتى بطولة العالم المقبلة في هلسنكي عام 2005 "أنوي خوض سباق 5 آلاف متر، وإذا حالفني التوفيق سأواصل مسيرتي حتى دورة بكين الأولمبية 2008، حينها أكون في سن ال33 عاماً". وإذا أخفق - لا سمح الله - سيضع حداً لمسيرته، و"سأترك ألعاب القوى نهائياً". ويكشف الكروج أنه سيتزوج بعد عامين، وهو تقلّد ذهب بطولة العالم من مواطنته المتوكل، عضو الاتحاد الدولي لألعاب القوى، وعلّق بقوله: "سررت بذلك كثيراً، كانت والعويطة الشعلة وها هي المسيرة تتواصل". وزميل المتوكل في الاتحاد الدولي البريطاني سيباستيان كو، أول بطل للعالم في المسافة، يصف الكروج بأنه "فتى استثنائي، يتجاوز العدائين الكبار وكأنهم أشخاص عاديون، في أشبيلية، وعلى رغم أن السباق كان ضمن بطولة العالم والمفروض أن يكون بطيئاً عموماً لأن المتنافسين حذرون، فقد حلّق بعيداً وسجل 65،27،3 دقائق، وكاد أن يحطم الرقم العالمي لولا انشغاله في توزيع القبلات".