Simon Serfaty. La france vue par les Etats-Unis: Reflexions sur la Franco Phobie a Washington. فرنسا من منظور الولاياتالمتحدة: تأملات حول رُهاب فرنسا في واشنطن. Ifri, Paris. 2003. 116 pages.يكاد لا يُنسى المشهد الذي تناقلته شبكات التلفزيون العالمية قبيل بدء الحرب الأميركية التي عارضتها فرنسا ضد عراق صدام حسين: مشهد جموع صغيرة من الأميركيين، المحتشدين في الساحات العامة، وهم يسفحون على الأرض زجاجات الخمر الفرنسية ويدوسون بأقدامهم على مأكولات وسلع استهلاكية تحمل ماركات فرنسية. هذه التظاهرات التي عمت أكثر من مدينة أميركية، وأخذت أيضاً شكل مقاطعة معلنة للبضائع والمطاعم الفرنسية، سرعان ما جرى تعميدها باسم "الفرانكوفوبيا"، أي حرفياً الرُهاب أو الخوف المرضي من كل ما هو فرنسي. ما سر هذه المعاداة الأميركية لفرنسا؟ أهي محض رد فعل على الموقف المعارض للحرب العراقية الذي وقفته الحكومة الفرنسية بتأييد واسع من قطاعات الشعب الفرنسي؟ أم هي الوجه الآخر من ميدالية "معاداة أميركا" المتأصلة هي الأخرى في الوجدان الفرنسي، على ما يفترض بعض المحللين، لا سيما في أوساط النخبة المثقفة الفرنسية التي وجدت أخيراً، بلسان الكاتب الفرنسي جان فرانسوا ريفيل، من يتهمها بأنها واقعة تقليدياً تحت هيمنة "وسواس العداء لأميركا"؟ ما يحاوله مؤلف هذه "التأملات" عن الفرانكوبيا الأميركية هو أن يتخطى ما هو ظرفي وطارئ ليقرأ هذه الظاهرة النفسية الانتروبولوجية في سياقها التاريخي والاستراتيجي معاً. أول ما يلاحظه سيمون صرفاتي - وهو بالمناسبة أميركي يكتب بالفرنسية ومدير للدرسات الأوروبية في معهد واشنطن للبحوث الاستراتيجية والدولية - ان "الفرانكوبيا" كانت في أصلها "فرانكوفيليا"، وذلك قبل أن ينقلب الحب الى كره طبقاً لآليات معروفة في الحياة النفسية للشعوب كما للأفراد. فالأميركيون، الذين خاضوا عام 1775 حرب استقلالهم ضد بريطانيا، كانوا يكنّون حباً خاصاً لعدوتها التقليدية، فرنسا، التي قدمت لهم في حينه مساعدة مادية ورمزية معاً تمثلت في قتال الجنرال الفرنسي لافاييت الى جانب الاستقلاليين الأميركيين. وقد صرح أكثر من واحد، من "آباء أميركا المؤسسين"، بحبه لفرنسا والفرنسيين. جون آدمز، ثاني رئيس للولايات المتحدة، كان يقول: "هناك إجماع على أن الصداقة بين فرنسا وأميركا هي في مصلحة البلدين، وليس أحب الى الشعب من تحالفنا". ابنه البكر جون كوينسي، الذي سيصير سادس رئيس للولايات المتحدة، صرح عقب نهاية حرب الاستقلال مباشرة: "لا استطيع أن أمتنع عن حب هذا الشعب الذي جمع بين التهذيب والأناقة والرهافة معاً: فصفاته تفوق كل وصف". وبدوره سيضيف توماس جفرسون، محرر اعلان الاستقلال الأميركي وثالث رئيس للولايات المتحدة: "لو سألت أي مسافر، كائناً ما كانت جنسيته، أي البلاد أحب اليك عيشاً، لأجاب بكل تأكيد: بلدي. ولو سألته: ما خياره الثاني؟ لأجاب بكل تأكيد أيضاً: فرنسا". هذه الصورة الايجابية الأميركية عن فرنسا لم تشرع بالانقلاب الى صورة سلبية إلا عندما شرعت الولاياتالمتحدة نفسها بالتحول الى دولة عظمى تدخل في منافسة مع فرنسا على السياسات الاقليمية داخل أوروبا. فغداة الحرب العالمية الأولى، التي خرجت منها فرنسا مظفرة ومتعجرفة قومياً في آن معاً، اصطدمت رغبة الأميركان في ان يكون لهم وجود فاعل ومهدّئ في أوروبا بمعارضة الفرنسيين. فضداً على "سلم الأقوياء" الذي فرضته معاهدة فرساي 1919 المذلة للألمان، سعت الديبلوماسية الأميركية، ولكن بدون جدوى، الى إقرار "سلم العدلاء". وقد جاءت تجربة الحرب العالمية الثانية لتوجد من جديد مناخات اللاثقة بين أميركا وفرنسا. فعلى رغم ان فرنسا خرجت من هذه الحرب مهزومة ودائنة بتحررها بالذات للأميركان، فإنها هي التي قادت عن طريق ديبلوماسية الخفاء حملة الارتياب والتشكيك في الزعامة الأميركية التي قبلت بها حينذاك أكثر بلدان أوروبا الغربية. وقد اعتبر الأميركيون ان من دلائل "المكر الفرنسي" مبادرة الجنرال ديغول الى التصالح مع موريس توريز، زعيم الحزب الشيوعي الفرنسي، عشية لقائه مع ستالين في تشرين الثاني نوفمبر 1944، ثم الى توقيع معاهدة صداقة بين باريسوموسكو في وقت كان فيه الرئيس الأميركي فرانكلن روزفلت بدأ يتساءل عن مستقبل "التحالف الكبير" مع الاتحاد السوفياتي الذي كانت قد أملته ظروف المواجهة مع المانيا الهتلرية. وقد ظهر أول خلاف علني بين واشنطنوباريس في "حملة السويس" عام 1956 التي وضع الحد لها في الحقيقة لا الانذار السوفياتي، بل الانذار الأميركي. ثم ان الحرب الفرنسية في الجزائر والحرب الأميركية في فيتنام كانتا مسرحين لصراع مديد، علني وخفي معاً، بين الديبلوماسيتين الأميركية والفرنسية. وفي عهد "الجمهورية الخامسة" - وهي جمهورية غير محببة اجمالاً الى قلوب الأميركيين - أخذ الصراع بُعداً جيوبوليتيكياً حقيقياً مع قرار ديغول الانسحاب عام 1966 من القيادة العسكرية الموحدة لحلف شمال الأطلسي ودعوته الى قيام استقلالية أوروبية من الأطلسي الى الأورال، أي عملياً الى قيام أوروبا منعتقة من الوصاية الأميركية. ومنذئذ غدت الديغولية رمزاً مجسداً لما سيسميه الأميركيون في ما بينهم ب"العجرفة الفرنسية". وحتى بعد رحيل ديغول ظلت فرنسا متهمة، في نظر الديبلوماسية الأميركية، بأنها تمارس "ديغولية بلا ديغول"، وهو التعبير الذي استخدمته كوندوليزا رايس في روايتها عن المفاوضات مع موسكو بصدد المسألة الألمانية في نهاية الثمانينات الماضية. ولم يخف مستشار الأمن القومي والخبير الكبير بالشؤون الفرنسية الذي كانه برنت سكوكروفت خيبة أمله من سياسة "إحياء الأحقاد القديمة" التي ما زالت فرنسا مصرة على اتباعها حتى ذلك التاريخ، من دون ان تقيم اعتباراً للسياسة الأميركية النقيضة التي كانت تسعى، على العكس، الى اعادة دمج المانيا في أوروبا الغربية لتحقيق نوع من توازن جيوبوليتيكي بين باريس ولندن وبرلين. وقد كتب سكوكروفت يقول: "لقد كنت آمل أن تعي فرنسا أن الوقائع تغيرت، وأن تعدل بالتالي استراتيجيتها إزاء الولاياتالمتحدة والحلف الأطلسي وأن تقبل بأداء دورها كثقل مقابل لألمانيا المعاد توحيدها... لكن الفرنسيين مصرون على ما يبدو على السير في الاتجاه المعاكس، والولاياتالمتحدة غائبة عن حساباتهم على المدى الطويل في ما يخص أوروبا". والواقع ان اليمين الأميركي الجديد وكوندوليزا رايس غير بعيدة كثيراً عنه، والذي سيغدو هو فريق عمل الرئيس بوش الابن في البيت الأبيض ابتداء من مطلع 2001، لا يكن لفرنسا وداً كبيراً. فريتشارد بيرل، عراب هذا اليمين الجديد، لم يجد حرجاً في أن يصرح منذ 1999: "فلنكن صرحاء ولنقل اننا لا نثق بالفرنسيين... وعلى كل حال ينبغي أن نتوقف عن تدليلهم". وزميل ريشارد بيرل وظله في وزارة الخارجية الأميركية، جون بولتون، لا يوفر كلماته ضد فرنسا والفرنسيين. فهو يرى ان الحرب ضد محور الشر يجب أن تبدأ من فرنسا نفسها، لأن الفرنسيين "الحسودين والمصابين بعصاب الحنين الى الماضي" لا يسعون الى الوحدة الأوروبية إلا ليجعلوا من أوروبا قطباً مضاداً لأميركا. وذلك هو أيضاً رأي بيتر رودمان، "زلمة" كيسينجر الذي تم تعيينه في الادارة البوشية نائباً لوزير الدفاع لشؤون الأمن الدولي. ففي خطاب له أمام لجنة الشؤون الأوروبية التابعة لمجلس الشيوخ الأميركي قال: "منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وأوروبا تسرع عملية اندماجها كيما تبني ثقلاً مقابلاً لما تعتبره هيمنة اميركية. وأكثر الأوروبيين حماسة لهذا المشروع هم الفرنسيون". وبدوره يضيف كوري شيك الذي تم تعيينه عضواً في مجلس الأمن القومي الأميركي ان "الجهود الفرنسية لاصطناع مواجهة بين الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي لا تستأهل سوى التجاهل. ففرنسا لا تستطيع إجبار أوروبا على التقيد بأجندتها. ولو رددنا على كل اهانة وعلى كل اقتراح فرنسي لضخمنا من حجمها في الاتحاد الأوروبي. وخير رد هو اللامبالاة". لكن هذه "اللامبالاة" هي بالضبط ما لم يعد ممكناً بعد ضربة 11/9 التي أصابت الولاياتالمتحدة في الصميم وأفقدتها، بكل ما في الكلمة من معنى، بكارة حرمة ترابها القومي. فمنذ 11/9 بات كل من ليس مع أميركا ضدها، كما صرح الرئيس بوش. والحال ان فرنسا ليست ضد أميركا، لكنها لا تستطيع ان تكون معها على طول الخط، وبلا شروط. وهذا ما تجلى واضحاً في موقفها من الحرب الأميركية في العراق التي كتب سيمون صرفاتي تأملاته حول الفرانكوبيا الاميركية قبل وقوعها. ولقد كان في تأملاته هذه متفائلاً إذ توقع أن أميركا لا بد ان تفلح في خاتمة المطاف في إقناع فرنسا بخوض الحرب معها ضد عراق صدام حسين يداً بيد، بما من شأنه ان يستأصل تلك الفرانكوبيا من جذورها. ولئن يكن قد أخطأ في توقعه هذا، فلقد أصاب في المقابل عندما تنبأ بأن أميركا ستكون قادرة بمفردها على أن تكسب الحرب، لكنها لن تكون قادرة، من دون شراكة فرنسا، على أن تكسب السلم.