لماذا قررت الحكومة البريطانية تأجيل مشاركتها في الموجة الأولى لدول قمة بروكسل 11 دولة متوخية التريث لعل تجربة منطقة "اليورو" تفتح الأبواب لمزيد من نجاح التعاون بين 15 دولة يمثل اتحادها انقلاباً في حجم الكتل الاقتصادية العالمية؟ وهل صحيح ان سلاح الاتحاد الأوروبي الذي شهره طوني بلير في الانتخابات ضد حزب المحافظين، يمكن ان يسقطه اذا فشل في تسويق مزايا العملة الموحدة؟ الثابت من مؤشرات الاستفتاء العام ان الغالبية في بريطانيا تعارض الانضمام الى نظام العملة الأوروبية الموحدة، لأسباب تتعلق بالسياسة المالية المستقلة التي تحمي المصرف المركزي في لندن من مخاطر تسييس المصرف المركزي الأوروبي في فرانكفورت. يضاف الى هذه المعارضة الشعبية ظهور ديبلوماسية محاذرة داخل وزارة الخارجية تفضل ان يقتصر دور بريطانيا على مراكز القمم مثل عضوية مجلس الأمن والانتساب الى قمة الدول الصناعية الثماني. مقابل هذا التيار المتحفظ يتخوف فريق آخر من مخاطر عزلة بريطانيا ومن الاذى الذي سيلحق بدورها الأوروبي على الصعيدين السياسي والاقتصادي. لذلك يشجع هذا الفريق دعوة مشاركة احدى عشرة دولة الاحتفال بولادة المصرف المركزي الأوروبي في 1/1/1999 وعدم الانتظار أربع سنوات اخرى، اي حين الغاء العملات المتداولة والاستعاضة عنها بعملة موحدة أول تموز/ يوليو 2002. يقول خبراء الاسواق المالية وشركات الاستثمار ان القرار البريطاني المحاذر يستند الى خلفية سياسية اكثر من استناده الى اسباب اقتصادية. ولقد تدخل القرار السياسي مرات عدة ليعرقل مسيرة الوحدة الاقتصادية الأوروبية التي ولدت في شهر كانون الثاني يناير 1958 مع معاهدة روما. يومها اتفقت كل من المانيا الغربية وهولندا وبلجيكا وفرنسا وإيطاليا ولوكسمبورغ على انشاء سوق مشتركة. وكان الحافز الأساسي لتحقيق الاندماج الاقتصادي يرتكز الى فكرة الغاء النزاعات العرقية والقومية التي افرزت حربين عالميتين خلال هذا القرن. وفي كل مرة كان زعماء السوق الأوروبية يجتمعون لتوسيع اطار المشاركة، كانت الحكومات البريطانية تطرح تحفظات جديدة، تارة باسم المحافظة على قيمة الجنيه الممتاز... وطوراً باسم حماية موقع "السيتي" - شارع المال - حيث وصلت عمليات التداول اليومي بالعملات الاجنبية الى 400 بليون دولار. ولكن هذه التحفظات لا توفر الاسباب المقنعة التي تلجم الموقف البريطاني وتمنعه من مشاركة الأوروبيين الآخرين في مسيرة الوحدة الاقتصادية. الأسباب في عمقها ترجع الى عام 1914 عندما ساندت الولاياتالمتحدةبريطانيا، وقدمت لها الدعم المالي المطلوب لتأمين احتياجات الحرب العالمية الأولى بواسطة شركة "جي بي. مورغان". ولقد اعانت مورغان لندن بقرض خيالي وصلت قيمته عام 1919 الى أربعة بلايين و700 مليون دولار. وهو مبلغ ضخم اذا ما قيس بالقوة الشرائية للدولار مطلع هذا القرن. ولكن هذه الديون أمنت لبريطانيا التفوق العسكري بواسطة كميات الاسلحة، وحققت لها الفوز على المانيا، الأمر الذي وفّر لها حصة المنتصر في مؤتمر فرساي. وبفضل ذلك الانتصار وضعت لندن ما عُرف باستراتيجية الاعمدة الثلاثة لبسط نفوذها الاستعماري، وملخصها: أولاً - التحكم بالنظام النقدي والمصرفي في العالم. ثانياً - التحكم بممرات البحار ومنافذها. ثالثاً - التحكم بالمواد والمصادر الحيوية وفي طليعتها النفط. بعد نزاع متواصل لاحكام قبضتها على الطرق البحرية والمصادر الحيوية، اقتنعت بريطانيا بضرورة مشاركة الولاياتالمتحدة اقتسام الاحتكارات النفطية بواسطة الشركات المعروفة باسم "الاخوات السبع". ووقعت الدولتان اتفاقية اقتسام الحصص النفطية عام 1927 في اسكوتلندا حيث تمثلت كبريات شركات النفط في حينه بأقوى مؤسسة احتكارية عالمية ظلت تتحكم بكميات الانتاج والاسعار والتوزيع حتى عام 1939. ومع مكاسب الانتصارات التي حققتها بريطانيا وأميركا خلال الحرب العالمية الثانية، خرجت الدولتان عام 1945 بمزيد من السيطرة على مصادر النفط، ان كان بواسطة الشركات ام بواسطة المصارف الكبرى. وكان من الطبيعي ان يعزز التعاون الذي كرسته العلاقات المميزة بين روزفلت وتشرشل عوامل الثقة التي اكدها وثبتها وطورها زعماء الدولتين في مراحل مختلفة، ان كان في عهد ريغان وثاتشر ام في عهد بوش وميجور ام في عهد كلينتون وبلير. وكان واضحاً ان سياسة بريطانيا الخارجية اكثر ميلاً نحو اميركا منها الى أوروبا. وكثيراً ما كانت الدولتان المتعاونتان دائماً عبر سياسة العلاقات الخاصة، تشتركان في اصدار مقررات بعيدة عن الاجماع الأوروبي بحيث ان ديغول كان يرى في سياسة بريطانيا داخل المجموعة الأوروبية صوتاً منشزاً لا ينسجم مع صوت محيطها. وعليه فان التحالف الفرنسي - الالماني بقيادة شارل ديغول وكونراد اديناور كان يؤسس لقيام تعاون سياسي واقتصادي اوروبي يمنع مشاركة بريطانيا. وهناك الكثير من الأدلة التي تثبت انتماء بريطانيا الى المحور الاميركي كالتنسيق المتواصل لحماية الدولة الاسرائيلية بعدما تعاونت واشنطنولندن على زرعها في منطقة الشرق الأوسط. حتى العمليات العسكرية كانت تتم بالتعاون بينهما على اعتبار ان ما ينفع الواحدة يفيد الاخرى. وليس ادل على تنسيقهما المتواصل من العملية السرية التي تعاونت مخابرات البلدين على تنفيذها والمسماة "اجاكس". ذلك ان الدولتين اتفقتا على ارجاع الشاه من منفاه اغسطس/ آب 1953 واسقاط مصدق الذي اعلن تأميم شركات النفط الاجنبية المستثمرة في ايران. ومن آخر الامثلة على هذا التنسيق القرار الذي اتخذته ثاتشر اثناء موافقتها على استقبال الطائرات الحربية الاميركية التي انطلقت من مطارات بريطانيا لتضرب ليبيا. وكان ذلك القرار بمثابة التحدي لجميع الدول الأوروبية التي اعلنت رفضها المشاركة في عملية تأديب الرئيس القذافي. كما كان القرار الذي اتخذه كل من جون ميجور وطوني بلير بالنسبة لاستئناف العقوبات ضد العراق، مثلاً آخر على سياسة دعم واشنطن بدون تحفظ. وبمثل هذه المعايير كان رؤساء اميركا يقيسون علاقاتهم الخاصة والمميزة مع بريطانيا بدليل ان ريغان اساء الى علاقات بلاده مع الارجنتين ودول اميركا اللاتينية لأنه لم يستطع اخفاء تأييده لموقف ثاتشر في حرب الفوكلاند. السؤال الذي يطرح نفسه في ظل خلفية العلاقات الاقتصادية - السياسية - العسكرية التي تجمع بين بريطانياوالولاياتالمتحدة - اضافة الى عامل اللغة المشتركة - يتعلق بدوافع الانعطاف الذي أقدمت عليه لندن... وما اذا كانت فعلاً ستنضم الى أوروبا عام 2002 وتقطع رباطها التاريخي مع واشنطن؟! المحللون في العواصم الكبرى يتطلعون الى الموقف البريطاني المحاذر بكثير من الريبة والخوف. وهم يتوقعون ان تكون السنوات الأربع المقبلة فترة اختبار وتأمل بانتظار ما تسفر عنه هذه التجربة الخطيرة، خصوصاً وان هناك العديد ممن يشككون في نجاحها مثل عالم الاجتماع الفرنسي ايمانويل تود الذي تنبأ بسقوط الاتحاد السوفياتي في كتابه "الانهيار الاخير". وهو يحذر من عواقب الاسترسال في تضخيم الحلم الأوروبي لاعتقاده بأن هذه الوحدة قد تنتهي عكس ما أراد لها صاحبا فكرتها جان مونيه وروبرت شومان، اي بخطأ جسيم لا يدانيه في الأهمية سوى خطأ التورط في الحرب العالمية الأولى عام 1914. وفي رأيه ان نظرية العملة الموحدة هي نظرية كاذبة لأن المجتمعات الأوروبية ليست متجانسة، بحيث يصعب التنسيق بينها. وعليه فهو يتوقع اختفاء "اليورو" من الاسواق عام 2005. ويدعم الخبير الاقتصادي في جامعة "هارفرد" مارتن فالدشتاين نظرية العالم الفرنسي محذراً "ان الاتحاد الأوروبي سيقود دول هذه القارة الى نزاع داخلي... الواحدة ضد الاخرى... والكل ضد الولاياتالمتحدة. وتكون النتيجة اندلاع حرب اوروبية جديدة". ولقد ايده في مخاوفه المستشار الألماني هيلموت كول الذي وصف قرار اعتماد "اليورو" عملة موحدة بأنه يمثل قرار الحرب او السلام في القرن الواحد والعشرين. وفي رأيه ان نجاح هذه التجربة سيؤمن الاستقرار الاجتماعي والرفاهية والحرية للشعب الألماني اولاً، ولشعوب أوروبا ثانياً. المتفائلون بمستقبل "اليورو" يؤكدون ان العملة الموحدة ستكون الجسر الذي يربط بين 15 دولة تمثل أرقى تجمع صناعي - اقتصادي في العالم، اضافة الى ولادة كتلة بشرية تضم اكثر من 371 مليون نسمة. ويرى هؤلاء ان قرارها السياسي سيزاحم الولاياتالمتحدة على زعامة الدول. وبما ان الاتحاد السوفياتي قد انهار الى غير رجعة... وبما ان الصين لن تدخل باب المزاحمة الحقيقية قبل عشر سنوات، فان انفراط الحلف الاطلسي يصبح نتيجة حتمية لانعدام وجود قوة عسكرية معادية تستطيع تهديد أوروبا. الصحف الاميركية بدأت تهاجم الاتحاد الأوروبي بطريقة غير مباشرة مدعية انه قد يحمل بذور نظام سياسي بسبب تجانس أنظمة دوله، ولكنه قطعاً لن يكون دولة واحدة موحدة شبيهة بالولاياتالمتحدة. والسبب في رأي الخبراء ان "الولاياتالمتحدة الأوروبية" تفتقر الى مقومات اساسية موجودة في "الولاياتالمتحدة الاميركية" بينها: الدولة الواحدة، والعاصمة السياسية الواحدة، والعلم الواحد واللغة الواحدة. ويرفض الرئيس الفرنسي الاسبق جيسكار ديستان هذه الحجج مؤكداً ان الدولة السويسرية الاتحادية تضم شعباً واحداًً يتكلم ثلاث لغات، وان فرانكفورت ستكون العاصمة المالية، بانتظار ولادة عاصمة سياسية. وتشكك مجلة "تايم" في امكان ولادة هذه العاصمة لأن الزعماء الأوروبيين يخضعون الاقتصاد للسياسة وللعصبيات القومية الضيقة. وهي تشير الى النقاش الحاد الذي استمر عشر ساعات لأن جاك شيراك اراد ان يفرض فرنسياً على رئاسة المصرف المركزي الأوروبي. والسبب ان هناك تفاوتاً في مستويات الاداء السياسي يباعد بين دولة وأخرى، الامر الذي يجعل عملية الانصهار السياسي مهمة صعبة التحقيق في المرحلة الأولى. مثال ذلك ان البريطانيين مهووسون بخصوصيتهم السياسية المتميزة، وهم متخوفون من احتمال فقدانها في ظل الاقتصاد الموحد. بقي السؤال المهم: هل تسمح الولاياتالمتحدة الاميركية بانشاء هذا التجمع القاري المنافس الذي يؤدي نموه الى تهديد سلطة الدولار المطلقة؟ القرائن السابقة لا تشير الى ارتياح الولاياتالمتحدة لولادة هذا الاتحاد. وليس ادل على معارضتها للفكرة من التدخل الذي قامت به اجهزتها وعناصرها وشركاتها من اجل ازاحة المستشار كونراد ادنياور من الحكم يوم اعلن تحالفه مع شارل ديغول كخطوة اولى للتخلص من الهيمنة الاميركية في أوروبا. وخلال مدة قصيرة جداً نجح التدخل الاميركي في التخلص من اديناور واستبداله بصديق واشنطن المستشار ارهارد في تشرين الأول اكتوبر 1963. اما مصير العملاق الفرنسي شارل ديغول فقد قررته التظاهرات التي قادها بانديت كوهين. يدافع الاميركيون عن سياستهم تجاه اوروبا بتقديم سلسلة ادلة مناقضة لهذه المزاعم تثبت عكس ما تقوله صحف فرنسا وألمانيا. وهم يذكرون انهم تدخلوا اقتصادياً وعسكرياً خلال الحربين العالميتين لانقاذ أوروبا، كما انقذوها اثناء الحرب الباردة من التمدد السوفياتي بواسطة الحلف الاطلسي. وتفخر الادارات الاميركية بمشروع جورج مارشال الذي تعتبره الجرعة الاقتصادية الحيوية التي انعشت أوروبا الغربية وأمنت لها مقومات العافية بعد ان دمرتها الحرب العالمية الثانية. ولكن الأوروبيين لا يغفرون لمارشال شروطه الملزمة والمقيدة بضرورة استيراد السلع الاميركية واستخدام عشرة في المئة من المساعدات لشراء النفط بواسطة الشركات الاميركية. كما انهم لا يغفرون المطاردة الشرسة التي قامت بها منذ عام 1970 "لتكنيس" المصالح البريطانية والفرنسية من الشرق الاوسط وأفريقيا. وربما تكون سياسة الانتشار العسكري الاميركي بعد تحرير الكويت هي التي دفعت بريطانيا الى اعادة النظر في دورها الاوروبي، خصوصاً بعدما رفضت اميركا مشاركتها في التواجد العسكري وسوق بيع الاسلحة. على كل حال، ان الوحدة الاقتصادية الأوروبية ستفرض اصلاحات حيوية كان من المتعذر تحقيقها بواسطة السياسة والحكومات التي عجزت عن معالجتها. ومن المؤكد ان ولادة الاتحاد الأوروبي مطلع القرن المقبل تعتبر اكبر نقلة نوعية سيعرفها النظام المالي العالمي، خصوصاً اذا نجح "اليورو" في انزال الدولار عن عرشه!