الخبر النازف كتابها الثاني عن الصور لا يضم صورة واحدة مثل سابقه الذي صدر في 1977. في "النظر الى آلام الآخرين" الصادر في بريطانيا عن دار هاميش هلتون تتحدث سوزان سونتاغ عن انتهاك الصور خصوصية الآخرين وإزاحتها الحقيقة وجماليتها التي تأتي في غير موضعها. وسائل الإعلام الجديدة تلتذ بالكوارث والرعب ويقودها مبدأ "إذا كان الخبر يزف له الصدارة". الإعلام الجديد درّبنا وكيّفنا فبتنا، بطريقة غريزية، نحول الواقع غير المحتمل او المفهوم الى قصة. عندما شاهدنا الطائرتين تخترقان مركز التجارة العالمي في العام 2000 وجد كثيرون منا الحدث "غير حقيقي" وشبّهوه بفيلم سينمائي. في حرب القرم رسم روجر فنتون "نزهة رجالية مجيدة" وتجنب تصوير المذابح. وفي نهاية الحرب العالمية الثانية تبع الجنود الروس توجيهات مصور من بلادهم عندما رفعوا العلم الأحمر على برلمان المانيا النازية. نعيش ثقافة التفرج، لكن هل افقدتنا هذه القدرة على أن نُصدم؟ ضحايا الجوع والمذابح أشخاص لا نعرفهم كما قال نيفيل تشامبرلين، رئيس وزراء بريطانيا في أول الحرب العالمية الثانية، عن البولنديين الذين غزا أدولف هتلر بلادهم. عندما تكررت المذابح في البوسنة قال كثيرون ان دول البلقان يجب ألا تعتبر أوروبية. ترى سونتاغ ان شهيتنا الى رؤية الأوجاع تماثل رغبتنا في رؤية الأجساد العارية، وتصف صورة فتنت الفيلسوف الفرنسي جورج باتاي لمجرم صيني نظر الى السماء بسعادة روحية بالغة عندما كان جلادوه يقطِّعون جسده وهو حي. جدية الكتاب لم تمنع نقاداً من القول انه غير قيّم. سونتاغ تقول انه عن حقيقة الحرب والروح العسكرية الرسمية في الولاياتالمتحدة التي ترى القتال جيداً خلافاً لأوروبا الغربية. انتهت الجمهورية وبدأت الامبراطورية علماً انها لا تبدو ماهرة في الادارة الاستعمارية. هذه "الإدارة الشريرة" صدقت خطابها القائل انها تحرر العراق ولم تفهم ان معظم العراقيين والعالم يعتبر عملها غزواً. ليس هذا الحزب الجمهوري القديم بل آخر يرتبط بفكرة الحرب الدائمة. الإرهاب لا ينتهي وإذا التزمت الحرب عليه تلتزم القتال الدائم. تعرف جيداً معنى الألم عندما تتحدث عنه. أصيبت مرتين بالسرطان الذي تساوت أوجاعه داء وعلاجاً، ونجت من حادث سيارة لزمت بعده الكرسي المتحرك شهوراً. عاشت في ساراييفو خلال حرب البوسنة وهربت ثلاث مرات من الموت بفارق بضع ثوان أو بضعة أمتار. مقالها المنطقي في "نيويوركر" بعد أحداث أيلول سبتمبر فتح أبواب الجحيم. اتهمت بالخيانة والبلاهة ولقبت "أسامة بن سونتاغ" وتلقت بالطبع تهديدات بالقتل. على أن البعض يقترب منها في الشارع ليشكرها على شجاعتها. "اضحك. لا اعتقد ان التعبير عن افكارك شجاعة". لا تزال تزور البوسنة كل عام لكي "تلامس الواقع" ويهمها ان توضح ان اخراجها "في انتظار غودو" هناك منذ عقد كان خيار البوسنيين الذين شاؤوا التأكيد انهم ليسوا همجاً بل قوم ذوو ثقافة. فضلت العمل في المستشفيات وتعليم الأطفال. لكنها انتهت باخراج مسرحية صمويل بيكيت في الوقت الذي انتظر السكان كلينتون وفق النكتة المحلية. منذ برزت بعقلها اللامع وجمالها في الستينات تحولت بسرعة الى نجمة المثقفين. كانت بطلة نسوية، لكنها لم تكتب عن النساء إلا في أوائل التسعينات. رأت الضوء مع قراءة "غرفة خاصة" لفرجينيا وولف وتأثرت بشجاعتها. كانت نقطة التحول مع "عاشق البركان" الذي كان أكثر الكتب مبيعاً في أكثر من عشرين لغة. وتغيرت حياتها أيضاً عندما توقف الرجال عن الإعجاب بها فحصرت اهتمامها بجنسها. صديقتها المصورة الشهيرة آني ليبوفيتز انجبت طفلة تردد ان ابن الكاتبة تبرع بالجزء الذكوري في تكوينها. مكان آخر تحتفل فرنسا بالذكرى المئوية لولادة مارغريت دي كريانكور التي لعبت باسم العائلة لتختار "يورسنار" اسماً أدبياً. عندما توفي الكاتب روجيه كايوا أحس صديقه جان دورميسون انه "أرملة تحاول استبدال زوجها بأقرب الناس الى قلبه". انتمى كلاهما الى الأكاديمية الفرنسية التي دخلتها يورسنار وسط ضجة تليق بأول امرأة تخترق النادي الرجالي الذي يرتدي اعضاؤه ملابس مزركشة بالذهب ويحملون السيوف. توفيت بعد سبع سنوات عن أربعة وثمانين عاماً في أميركا التي هربت إليها في الحرب العالمية الثانية فباتت موطئ قدمها عندما ترتاح من التجوال. رغبت أمها البلجيكية في دخولها الدير، لكن عين الصغيرة كانت على العالم. لم تعرف أصلاً الأم التي توفيت بعد ولادتها بأيام ولم تفتقد حضورها. كانت في العقد الثالث عندما شاهدت صورتها للمرة الأولى، وقالت انها ما كانت على ما هي عليه لو لم تنشئها عشيقة والدها "ولو عن بعد". تعلمت في البيت ونشرت كتابها الأول في السادسة عشرة بفضل والدها الذي ترك المربية والخدم يعتنون بها، لكنه جعلها رفيقة اسفاره الدائمة ونقل اليها عدوى الترحال. لم تعرف إذا كانت تحب "هذا السيد الطويل القامة... الذي لم يؤنبني يوماً بل ابتسم لي أحياناً". بعد وفاته أدمنت الحب والكحول والسفر، وتنقل قلبها بين الجنسين بعدما وقعت حقاً في حب كاتب شاب فضّل جنسه. سافرت تكراراً لكي تنساه وكتبت عن أزمتها القاسية في "أضواء". الحب المثلي تكرر في حياتها وأدبها. عندما وجدت نفسها بلا مال عشية الحرب لبت دعوة الأميركية غريس فريك وعاشت "سنوات سوداء" في الولاياتالمتحدة. أحبت غريس لكنها ما عادت ترغب في الكتابة وعلمت الأدب الفرنسي لكي تكسب عيشها. الامبراطور الروماني ادريان أعاد علاقتها بالقلم فرسمته رجل دولة مثالياً يهدي الأرض الاستقرار، ويفكر على فراش الموت بالسلطة والحرية والشاب الاغريقي انثينوس. فاق مبيع "مذكرات ادريان" توقعها وحقق لها اكتفاء مادياً مكنها من ممارسة الكتابة كمهنة والمزيد من التجوال في "السجن" كما سمت الأرض. في "رصاصة الرحمة" يقتل ضابط بروسي المرأة التي تحبه لأنه يحب شقيقها. زينون مؤسس الفلسفة الرواقية مثلي أيضاً في "الهاوية" وكذلك ألكسي بطل قصة بالعنوان نفسه ينهي علاقته بزوجته في رسالة لكي يتفرغ للموسيقى واللذة. في "ميشيما: رؤيا الفراغ" قالت يورسنار ان علينا أن نبحث عن حقيقة الكاتب الياباني المثلي في أعماله. واجه ميشيما موتاً بطيئاً قاسياً عند انتحاره الأخرق بالهاراكيري غرز السيف في بطنه ورأت يورسنار ان موته كان جزءاً من عمله. انتهت علاقتها بغريس عند موت الأخيرة بالسرطان بعد أربعين عاماً من لقائهما. وجدت رفيقاً آخر يصغرها بخمسين عاماً، لكنه ما لبث أن توفي بالإيدز. اختارت لدفنها نصوصاً مسيحية وبوذية إذ كانت ابنة العالم غرباً وشرقاً. ولدت في بلجيكا وكتبت بالفرنسية وماتت في أميركا وعاشت عمرها بعرض الأرض وطولها. لكنها لم تستكشف الحاضر وحده بل عادت الى الماضي وتعطشت روحها وجسدها للمعرفة. "أفضل مكان نوجد فيه هو مكان آخر" قال والدها فسمعت وحفظت في قلبها. لكن فرنسا تكرمها اليوم ابنة أصيلة لمكان واحد أصيل.