تحتفل بلدة حمانا لبنان الاحد 31 الجاري بإزاحة الستار عن تمثال الدكتور جورج حاتم الذي توفي في بكين سنة 1988. خصصت بلدية حمانا حديقة واسعة أطلقت عليها اسم المحتفى به شهادة وفاء وتقدير للطبيب الذي تحول في بلاد البليون نسمة الى اسطورة لا تقل شهرة عن رموز قادة الثورة الصينية. وفي وسط الحديقة سيثبت تمثال الطبيب جورج حاتم بحضور سفيرة الصين ليو شيانغ هوا التي ستتحدث باسم الحكومة، عن "ما هايدو"، الاسم الذي اختير له باللغة الصينية وعُرف به عقب وصوله الى المنطقة الشمالية الغربية. وكانت وزارة الصحة في بكين اختارت افضل النحاتين لصنع تمثال لحاتم، ثم نقلته الى لبنان هدية رمزية باسم آلاف المرضى الذين ساهمت الجمعية الطبية لمحاربة مرض البرص، والتي اسسها ابن حمانا، في شفاء غالبيتهم. علماً أن مرض البرص الجذام كان معروفاً في الصين قبل الفي سنة، ولكن انتشاره الواسع خلال ثورة 1930 جعله كارثة انسانية أجبرت ماوتسي تونغ على اعلان طلب المساعدة من مختلف المستشفيات والمؤسسات الطبية في الخارج. وتلبية لهذا النداء وجد جورج حاتم نفسه في شنغهاي مع عشرات الاطباء الذين تطوعوا من الولاياتالمتحدة والمانيا وسويسرا. وشجع الاطباء الاميركيين على تلبية النداء، الظرف الاقتصادي السيئ وانتشار البطالة اثر مرحلة الركود التي ضربت البلاد عام 1929. ويعترف المؤلف سيدني شابيرو في كتابه عن "ما هايدو" بأن حياة الفقر والحرمان التي عاشها ابن حمانا في مدينة لورانس ماساتشوستس، سلّحته بمناعة جسدية استطاع بواسطتها التغلب على الظروف القاسية في "هانيان" جنوبالصين. ولهذا السبب هرب جميع الاطباء الذين تطوعوا لمحاربة الامراض المدارية من الذين تعاونوا في بداية الثورة وأظهروا الكثير من الحماسة والاندفاع. مع الاحتفال بهذه المناسبة بدأ اللبنانيون يراجعون سلسلة الاسماء التي قادت الى اكتشاف هذا الطبيب الذي عزلته الظروف القاسية وسط بليون نسمة، ولكنه استطاع بفضل صبره واندفاعه، ان يضيء في عتمة الحرب الاهلية الصينية، ويتقدم بثقة ليصبح من الشلة المحيطة بقادة الثورة. ويذكر الكاتب الاميركي الشهير ادغار سنو انه طلب مرة التقاط صورة للزعيم ماوتسي تونغ. ولما استجاب القائد طلبه واتخذ وضعاً خاصاً للتصوير، لاحظ الدكتور حاتم ان صلعة تونغ قد تخفف من وقع جلال المنصب المهيب على الشعب الذي يتطلّع اليه باحترام كبير. لذلك انتزع القبعة الزرقاء التي كان يعتمرها سنو ووضعها على رأس تونغ. والطريف ان تلك القبعة تحولت الى نموذج لملايين الفلاحين والمتطوعين في الجيش الاحمر، كما استُخدمت تلك اللقطة كصورة رسمية طُبعت منها ملايين النسخ. ويرى مؤرخو تلك الحقبة من امثال ريوي أللي ودايموند غراي، ان قادة الثورة توددوا لحاتم وسنو بسبب الخدمات الاعلامية والسياسية التي قدماها في الولاياتالمتحدة لكسب عطف الرأي العام. لذلك اعتمدهما شو ان لاي متحدثين باسم الصين الشعبية، وخصهما بالعناية دون كل الاجانب الذين اتهموا بالتجسس. وبسبب هذه المعاملة الاستثنائية أُتيحت للطبيب حاتم فرص الاتصال بأطباء أجانب اثناء حملته الطويلة لمحو مرض البرص. وتعمقت ثقة قادة الجيش الاحمر به عقب اختياره فتاة صينية مشهورة في الوسط الثقافي، لتكون زوجته ومعاونته اثناء عمله المتواصل في مستشفيات الميدان. وخلال تلك المرحلة الصعبة 1937 قامت "سو فاي" خريجة قسم التمثيل في اكاديمية الفنون الجميلة بلعب ادوار مختلفة زادت من احترام الشعب الصيني لزوجها. وللدلالة الى اهمية وجود "ما هايدو" قرب المحاربين، نشر الكاتب ادغار سنو مجموعة صور في الكتب التي اصدرها عن الثورة، وهي تمثل المتطوعين في حال هياج وفرح وهم يستقبلون الطبيب الذي ذاع صيته بأنه يصنع الخوارق. ومن المؤكد ان حرص ماوتسي تونغ وشو ان لاي على حضور الاحتفال البسيط الذي أُقيم لمناسبة زواج حاتم وسو فاي، عمّم شهرة الطبيب الغريب الذي تخلى عن رفاهية المجتمع الاستعماري الاميركي لينضم الى ثورة الفلاحين والكادحين في الصين. في مقال نشرته مجلة "اعادة بناء الصين" عدد تشرين الاول/ اكتوبر 1984 اعترف الدكتور جورج حاتم بأن ظروف عائلته الفقيرة في اميركا لم تكن تسمح لوالده الشغيل في معمل حياكة، بأن يوفر له ثمن بطاقة سينما. وكتب يقول انه لم يذق طعم السمك الا بعد انتقاله الى الصين، وانه لم يدخل الى صالة سينما الا عندما التحق بكلية الطب في جنيف. ولكن انهيارات الاسواق المالية والتجارية في الولاياتالمتحدة سنة 1929 لم تصل بالشعب الاميركي الى الوضع المأسوي الذي وصل اليه شعب الصين في ذلك الحين. وكتب يتحدث عن ذكرياته المؤلمة في شنغهاي وهو يرى امواج اللاجئين تتدفق كالطوفان البشري. وكان يؤلمه مشهد النساء والاطفال وقد افترشوا الارصفة من شدة الاعياء والجوع. ويقرّ حاتم في مقاله بأنه اطلع للمرة الأولى على كتابات كارل ماركس. ولما انتهى من قراءة "مانيفاستو الشيوعية"، ادرك على الفور لماذا انتشرت هذه العقيدة كالنار في الهشيم. والسبب في رأيه، ان القادة والمواطنين كانوا يأملون بالخروج من ظلام الجهل والفقر والمرض في حال اعتنقوا الشيوعية. لقاء ماوتسي تونغ نشر سيدني شابيرو في كتابه عن حاتم قصة اللقاء الاول مع الزعيم الصيني، وكيف انقذه شو ان لاي من الموت. يقول حاتم انه تلقى دعوة من القيادة المركزية لمغادرة "ينان" والتوجه مع الكاتب ادغار سنو الى منطقة محاذية لنهر "يان". وتولت كتيبة منشورية مرافقتهما مسافة قصيرة قبل ان يتنازل قائدها عن حماره لكي يضع فوق ظهره حوائجهما ويتركهما مع اشارة من يده بأن يكملا السير. ولما حلّ الظلام ادركا سبب التخلي عنهما لأن المنطقة كانت تعجّ برجال العصابات وقطاع الطرق. وتحاشياً لأي مغامرة قد تكلفهما حياتهما، قرر حاتم وسنو الاختباء في مغارة معزولة اتسعت لهما وللحمار ايضاً. وبعد مضي ثلاثة ايام نفدت قطع الشوكولاته التي حملها سنو معه، واضطرهما العطش الى التوجه نحو ضفة نهر "يان" حيث اكتشفتهما فرقة مسلحة ترفع علم الثورة الحمراء. وتقدم منهما ضابط ربع القامة ليحيّيهما بالانكليزية ويقدم نفسه بلهجة الواثق ويقول: "انا شو ان لاي من القيادة المركزية". وراح يعتذر عن تأخره في العثور عليهما لأن الدليل المنشوري اخطأ في رسم الجهة التي اتخذاها. ثم طلب منهما مرافقته الى "باو آن" حيث يقيم ماوتسي تونغ. استمرت الرحلة ثلاثة ايام قبل ان يستقبلهما الزعيم الذي اشتهر في حينه بأنه يقود اضخم حركة تغيير في بلاد التنين الاصفر. ولقد صدمته البساطة المتناهية التي أحاط ماو نفسه بها وسط مغارة ضخمة اختيرت لحمايته من غارات طائرات قوات شان كاي تشيك. ولاحظ انه كان يتميز بقامة طويلة مقارنة برفاقه الصينيين، وانه كان يرتدي قميصاً فضفاضاً من دون ياقة، وسروالاً لم يعرف المكواة منذ خروجه من المصنع. اما حذاؤه فكان عبارة عن نعل سميك مشدود الى قطعة قماش. ويعترف حاتم بأن هذه الصورة الخارجية تبدلت تماماً عندما بدأ ماوتسي تونغ يروي لسنو تاريخ الثورة عبر المترجم هيونغ هوا الذي اصبح بعد النصر سفيراً ووزيراً للخارجية. وسجل ادغار سنو ذلك الحديث وما تبعه من احاديث اضافية، في كتابه الشهير "نجم احمر فوق الصين". حاتم "ما هايدو" يقول جورج حاتم للذين التقاهم من اللبنانيين ان اسمه الصيني اختاره له شو ان لاي. كان ذلك اثناء انضمامه الى وفد زار المقاطعة التي تسكنها اكبر اقلية من المسلمين. ولاحظ إمام المسجد ان جورج حاتم كان مختلفاً عن اعضاء الوفد بلون سحنته وتقاطيع وجهه وشكل لحيته الصغيرة. ولما سأله عن اصله اعترف الدكتور جورج بأنه ولد في الولاياتالمتحدة، ولكنه ينتسب الى عائلة عربية. ثم تناول ورقة وكتب اسمه بأحرف عربية، وراح يغرف الرز بأصابعه ويأكل على طريقة البدو. وهنا بدأ التصفيق والعناق، الامر الذي أغبط شو ان لاي لأنه كان في مهمة خاصة تتمحور حول استمالة المسلمين الى الثورة. وهنأ حاتم على حضوره الذي اكسب الثورة انصاراً جدداً. وفي تلك الجلسة راح الحاضرون يتبارون في انتقاء اسم سهل. واختار شو ان لاي من التسميات الاسم الاول "ما" لسهولة لفظه، وترك لإمام المسجد اختيار الاسم الثاني على ان يبدأ بحرف "ح" من حاتم. وبما ان حرف "الحاء" غير موجود في اللغة الصينية، فقد استعيض عنه بحرف "الهاء". ومنذ ذلك الحين بدأ جورج حاتم يُعرف ب"ما دايغو" اي الطبيب "ما". وفي سنة 1950 منحه ماوتسي تونغ الجنسية الصينية تقديراً لخدماته ووفاء لتضحياته، وعيّنه مستشاراً دائماً للشؤون الصحية برتبة وزير. القضاء على مرض البرص يزخر أرشيف وزارة الصحة في بكين بالمآثر الطبية التي حققها الدكتور جورج حاتم على امتداد نصف قرن ونيّف. وعندما كرّمه الحرس الجديد سنة 1983 في "القاعة الكبرى" تحدث زعيم الحزب دينغ شياو بينغ عن خدماته التي وُصفت بالمعجزات، لأنها نظّفت الصين من مرض فتّاك قتل من المواطنين اكثر مما قتلت الحروب والمجاعات 400 ألف. ومع انه كان يتحاشى الاضواء ويبتعد عن الدعاوة، الا ان ذلك لم يمنع ثمانية كتّاب من تسجيل بعض انجازاته. ومن اهمها كتابان: "ما هايدو"، قصة زاخرة بالاعمال البطولية للكاتب سيدني شابيرو، و"داخل الصين اليوم" للدكتور الاميركي غراي دايموند. وكما استفاد قادة الثورة من خبرة جورج حاتم في حقل الطب اولاً… ومن علاقاته الخارجية ثانياً، هكذا استفادت الولاياتالمتحدة من وجوده في الصين لفتح الابواب الديبلوماسية الموصدة. ومع انه آثر البقاء في الظل، الا ان التكريم الذي ناله عقب زيارة هنري كيسنجر لبكين، كان المؤشر الى اهمية الدور الخفي الذي لعبه ابن بلدة حمانا. وتقديراً لهذا الدور حصل على جوائز عدة وميداليات، بينها جائزة ديميان داتون 1982 وجائزة مؤسسة البرت وماري لاسكار 1986 وجائزة غاندي لمكافحة مرض البرص 1988 بسبب شهرته في البلدان الآسيوية حرصت انديرا غاندي سنة 1984 على ان يكون جورج حاتم خطيب المؤتمر الدولي الثاني عشر، حيث عرض تجربته امام مئات الاطباء. وعندما دهمه مرض السرطان وأدرك ان الوقت لم يعد يسمح له باستئناف نشاطه الطبي كالمعتاد، اعلن عن تأسيس جمعية لمكافحة وباء البرص وباشر في تمويله بدفعة اولى قيمتها 30 ألف دولار هي حصيلة الجوائز المالية التي نالها. وبعدما رسم هيكلية الجمعية، واختار لإدارتها اكفأ الشخصيات الصينية، عيّن زوجته "سو فاي" رئيسة لمجلس الأمناء لكونها ساهمت معه في قطع مسيرة الألف ميل. من لا يعرف "ما هايدو؟" كلفت "دار الهندسة" المهندس منير نصار سنة 1985 دراسة عرض في بكين حول امكان توسيع مطار بيروت الدولي. واغتنمت هذه المناسبة لأحمّله رسالة الى الدكتور جورج حاتم اطلب فيها كتابة بعض ذكرياته الاولى عن الصين. وبما انني اجهل عنوانه، فقد اقتطعت صورته من جريدة قديمة، وطلبت ان يستعملها منير دليلاً يساعده على اكتشافه. ومع انه لم يكن مقتنعاً بنجاح المحاولة، الا انه توجه الى دار صحيفة "التايمز الصينية"، وعرض الصورة على احد المحررين قائلاً: هل لك ان تساعدني على اكتشاف عنوان او رقم هاتف الدكتور جورج حاتم؟ ونظر المحرر الى الصورة، ثم شهق باستغراب وأجاب: تسأل في الصين عن "ما هايدو"؟... بالتأكيد ان الذي يجهل مكان اقامته ليس من الصين!