عندما واجهت مسيرة الألف ميل التي أطلقها ماوتسي تونغ عام 1933، مخاطر الانحلال والتراجع بسبب تفشي أمراض الطاعون والكوليرا والحمى الصفراء بين الأنصار والمحازبين، لم يجد رفيقه شو إن لاي، أفضل من الطبيب اللبناني الأصل جورج نعوم حاتم يوكل إليه مهمة الإشراف على فرق المعالجات الميدانية. وكان الطبيب الشاب جورج حاتم قد غادر الولاياتالمتحدة، وتطوع للخدمة المجانية في الجيش الأحمر. ولما انتصر ماوتسي تونغ كافأه بتعيينه وزيراً للصحة في بلاد تضم أكثر من بليون مواطن، ومنحه اسماً صينياً MA HAIDE عقب زواجه من نجمة الفن الشهيرة سو فاي. وبعد وفاته عام 1988 عمل سفير لبنان في بكين فريد سماحة، على إحياء ذكراه بالتعاون مع بلدية حمانا التي ثبتت له تمثالاً نصفياً في الساحة العامة. وعندما فشلت حكومات المحافظين والعمال في حلّ أزمة إرلندا الشمالية عقب حرب أهلية استمرت أكثر من ربع قرن بين الكاثوليك والبروتستانت، تدخل الرئيس الأميركي بيل كلينتون واختار السناتور اللبناني الأصل جورج ميتشل ليقوم بمهمة المصالحة والتسوية. وبعد جولات صعبة دامت ثلاث سنوات، نجح ابن بلدة بكاسين في إقناع الطرفين بضرورة توقيع اتفاق تاريخي (1998). وربما تذكر الرئيس باراك أوباما تلك المأثرة يوم انتدبه لحل مشكلة الشرق الأوسط. ومع أن رئيس الغالبية الديموقراطية السابق في مجلس الشيوخ، كان يفاخر بأن كل النزاعات قابلة للحل شرط توفير الحلول، إلا أنه أُصيب بالإحباط من سلوك نتانياهو الذي يصرّ على ضم القدسالشرقية، ولو أدى ذلك الى إشعال حرب في المنطقة. بقي أن نذكّر بأن والد ميتشل هو من أصل إرلندي، ولكن أسرة طنوس بولس حرفوش تبنته عندما كان في الثالثة من عمره. ثم نقلته من نيويورك الى «واترفيل» حيث عاش في محيط لبناني، وانتسب الى عائلة لبنانية، وتزوج صبية لبنانية هي منتهى سعد، والدة جورج. والطريف أن الزوج جيمس كيلروي، الذي عاش وتربى في ظل الكنيسة المارونية، لم يفقه كلمة واحدة من اللغة الإرلندية، ولكنه كان يتكلم اللغة العربية بطلاقة، ويحرص على تناول منقوشة صعتر كل صباح! وعندما عجزت شركة «نيسان» اليابانية عن منافسة شركة «تويوتا»، قرر مجلس إدارتها تكليف كارلوس غصن، ابن بلدة عجلتون، القيام بدور المدير التنفيذي، إضافة الى دوره المماثل في شركة «رينو» الفرنسية، وبعد تحقيق نجاح كبير، إن كان على مستوى الأرباح والتطور التقني... أم على مستوى الأداء والتسويق، ظهرت في محلات طوكيو وكيوتو ويوكوهاما لعبة للأطفال تمثل كارلوس غصن في شكل سوبرمان آسيوي، يطير في فضاء اليابان متحدياً السوبرمان الأميركي. وكثيراً ما أشارت صحف طوكيو الى المهمة الاستثنائية التي منحت لشخص لبناني كلف إنقاذ شركة وطنية. وفي هذا المجال يمكن التذكير بالدور الاستثنائي الذي منحته شركة «فورد» لابن بلدة أميون جاك نصر. ذلك أن ورثة هنري فورد اختاروه مديراً تنفيذياً بهدف إنقاذ أعرق شركة سيارات في أميركا والعالم. ولما تجاوزت الشركة في عهده، الصعوبات المالية والإدارية، عاد الورثة ليتآمروا على نصر بافتعال حكاية الدواليب المتصدعة. وهو حالياً يشغل منصب أكبر شركة معادن في أستراليا والعالم (بي أتش بي). وعندما انهار الاتحاد السوفياتي، وبرز اسم بوريس يلتسن كوريث لمخيائيل غورباتشوف، حرصت واشنطن على إرسال أشهر أطباء القلب في الولاياتالمتحدة، للإشراف على العملية الخطرة التي أُجريت للرئيس الروسي. ولم يكن ذلك الطبيب سوى البروفيسور مايكل دبغي، المهاجر الى هيوستن من بلدة مرجعيون. ويُعتبر الدكتور دبغي من أشهر أطباء العالم باعتراف زملائه الذين حضروا في الكونغرس حفلة تسليمه أرفع ميدالية ذهبية. وقد توفي عن 99 سنة (12 تموز/ يوليو 2008) بعد أن أجرى ستين ألف عملية للقلب المفتوح، واخترع أجهزة وأدوات القلوب الاصطناعية، وقدم للجراحين ابتكارات في مجال جراحة الأوعية الدموية. وعندما تعرضت أهم صحيفة أميركية (النيويورك تايمز)، لأزمة مادية حادة كادت تدفع إدارتها الى إعلان التوقف، لجأت الى أغنى رجل في العالم كارلوس سليم، ابن بلدة جزين الذي أسعفها ب250 مليون دولار كي ترتب أوضاعها المالية. هذا غيض من فيض، لأن قائمة المغتربين المبرزين طويلة جداً بحيث يصعب حصرهم في الكثير من الكتب التي رصدت أماكن انتشارهم. فالدكتور دبغي مثلاً يذكرنا بالدكتور السير بيتر مدور (ابن عجلتون) الذي اكتشفه إميل بستاني في لندن يوم تسلم جائزة نوبل للفيزياء عام 1960. ذلك أنه كان أول جراح في العالم ينجح في ربط الشرايين المتقطعة بعد أن أجرى آلاف العمليات على الجرحى خلال الحرب العالمية الثانية. ومن أبرز رواد هذه القائمة: حسن كامل الصبّاح (ابن النبطية) الذي سجّل 76 اختراعاً في مجال الهندسة الكهربائية... وعالم الفلك مصطفى شاهين (ابن بيروت) الذي صمم القمر الاصطناعي وأشرف على إطلاقه من قاعدة «ناسا» بهدف قياس دورة الحرارة في الأرض وجمع المعلومات الشاملة عن المياه المتبخرة من المحيطات. وما ينطبق على العلماء والأطباء والخبراء، ينطبق أيضاً على الاقتصاديين والتجار والسياسيين والصناعيين الذين عرفهم عالم الاغتراب في أميركا اللاتينية وأميركا الشمالية وأفريقيا وأستراليا. وكان من الطبيعي أن تثير زيارة أغنى رجل في العالم كارلوس سليم للبنان، أو زيارة المدير التنفيذي لشركة «نيسان» كارلوس غصن الذي حاضر في الجامعة الأميركية الأسبوع الماضي، السؤال الكبير حول نجاحات اللبنانيين في الخارج، وإخفاقاتهم في الداخل. وهل صحيح أن لبنان هو مقبرة الكفاءات؟ وأن اللبناني في الاغتراب يعتبر أكبر من بلده، خلافاً للقاعدة المعروفة التي تقول: «لا يمكن المواطن أن يكون أكبر من وطنه». وتحضرني في هذه المناسبة حادثة طريفة رواها رئيس جمهورية كولومبيا الراحل خوليو طربيه، أثناء زيارته الرسمية لبريطانيا في عهد مارغريت ثاتشر. ذلك أنه حرص على استقبال بعض أبناء الجالية اللبنانية برفقة صديقه عساف بيطار. وصدف في ذلك اليوم أن دارت معارك قاسية شملت كل الأراضي اللبنانية تقريباً. لذلك افتتح طربيه حديثه بالسؤال عن الحرب اللبنانية، وعن الحلول الواجب اتباعها للمساهمة في إخراج وطنه الأصلي من محنته المتواصلة. وبدلاً من إسداء النصح بطريقة هادئة يستفيد منها الرئيس السائل، فقد اختلف الحاضرون على الأولويات وعلى سبق الإنقاذ أيضاً. عندئذ تدخل طربيه ليروي الحادثة التالية: قال إنه تلقى مكالمة هاتفية من الرئيس إلياس سركيس يطلب منه مساعدة سفير لبنان غسان تويني في معركته الديبلوماسية داخل الأممالمتحدة. وبعد الاستيضاح عن تفاصيل المعركة الديبلوماسية، وعد الرئيس الكولومبي الرئيس سركيس، بأنه سيعطي سفير كولومبيا تفويضاً للتنسيق مع السفير تويني حول القضايا المتعلقة بمستقبل لبنان. ثم اتصل برئيس وزراء جامايكا إدوار صياغة (وهو من أصل لبناني) ليضعه في صورة الأزمة، ويقترح عليه الإيعاز الى سفيره في المنظمة الدولية تبني موقف غسان تويني. ويكمل طربيه حديثه بالقول إنه تلقى مكالمة هاتفية ثانية بعد أسبوعين من الرئيس كميل شمعون ينصحه فيها ألا يزج بلاده كولومبيا في حرب بلاده الأصلية لبنان، لأن غسان تويني لا يخدم في رأيه وطنه بقدر ما يخدم العرب والفلسطينيين. ويقول إنه اتصل فوراً بصديقه إدوار صياغة، وطلب منه الابتعاد عن النار اللبنانية، متسلحاً بالحجة القائلة: «إن نجاح المغترب اللبناني يتوقف على ابتعاده عن مشاكل لبنان وخلافاته المحلية الضيقة». وهذا ما اكتشفه وزير الخارجية والمغتربين علي الشامي الذي حاول وقف التصدع الذي تعاني منه الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم، بل هذا ما حاول أن يحققه في أستراليا وزير السياحة فادي عبود أثناء مشاركته في الاحتفال بتدشين تمثال المغترب في أستراليا، وهي مهمة بالغة الصعوبة لأنها تعكس انشطار الاتجاهات السياسية داخل لبنان. كما تعكس بالتالي رفض المهاجر لنقل العجز الذي مني به في وطنه الأصلي، الى الأوطان التي تؤمّن له العيش الكريم والحياة الحرة، خصوصاً أن ظاهرة الاغتراب اللبناني لم تنشأ عن حب السفر والمغامرة، بل عن الحاجة الى تأمين العمل والعلم والضمانات الاجتماعية. وكان من نتيجة ازدياد الهجرة خلال الحرب الأخيرة، أن حُرم لبنان من طاقات شبابه وكفاءاتهم بحيث قيل إن الوطن الصغير يعاني من نزيف الأدمغة أكثر مما يعاني من نزيف الأسلحة. والحل؟! سويسرا التي فقدت أعداداً كبيرة في الحروب الأهلية الأوروبية منذ الثورة الفرنسية، اختارت كل الحلول، ما عدا الحل السياسي. اختارت صناعة الشوكولاتة والساعات والمصارف. لذلك تستغرب أن يكون هناك تسعة سويسريين من عشرة لا يعرفون اسم رئيس الجمهورية الاتحادي... وأن يكون هناك ثمانية من عشرة لا يعرفون اسم رئيس جمهورية الكانتون. ولو اختار لبنان هذا الحل، لما اضطر وليد جنبلاط وميشال عون الى القيام بأدوار هي حتماً ضد قناعتهما الشخصية! * كاتب وصحافي لبناني