ليست الدولة هي التي ضد المجتمع، بتوغلها ورهاناتها كما العادة، بل هو البرلمان هذه المرة، وهو الذي يفترض ان يكون رافعة المجتمع السياسية والاجتماعية. رفض البرلمان الأردني تعديل قوانين مجحفة بحق المرأة متعلقة بما يعرف ب"جرائم الشرف" والخُلع وغيرها هو امر مخجل بكل المعايير ولا يليق ببلد حديث كالاردن. ففي هذا البلد، وبخلاف كل البلدان، هناك قانون لا معنى له وقبلي بكل المعايير يحابي كل من يقتل اخته او امه او زوجته بزعم "محو العار" لأن القتيلة لطخت شرف العائلة، وبالتالي لا يعتبر قاتلها مجرماً يستحق كامل العقوبة. وهو قانون يثير حنق شرائح اردنية واسعة رسمية وغير رسمية، يمتد طيفها من الجمعيات غير الحكومية النسوية والحقوقية ومثقفين كثر ويصل الى القصر الملكي وانخراط بعض الامراء والأميرات في حملة لتغييره، لأنها تراه خالي الانسانية وملطخاً سمعة الاردن. الحكومة تريد تغيير القانون، لكن تحالف القبيلة والاسلاميين في البرلمان رفض التغيير. في الاردن ايضاً اقرت الحكومة قانون الخلع وعبره تستطيع المرأة المسحوقة بظلم زوجها ان تطلب الطلاق وتنفك من العذاب الذي تواجهه. البرلمان، مرة اخرى، وعبر تحالف القبليين والاسلاميين نفسه رفض القانون. هناك ايضاً مجموعة من القوانين التي تعتبر المرأة قاصراً وتعاملها كمواطن من الدرجة الثانية، مثل منعها من السفر الا بإذن زوجها او عدم احقيتها في استصدار جواز سفر او غيره إلا بإذن الزوج المقدام! من ناحية دينية فقهية يحق السؤال عن المسوغ الديني الذي يعتمد عليه الاسلاميون في مسألة قبول جرائم الشرف وتبريرها، بل وتشجيعها بالإبقاء على القانون سيئ السمعة. فإذا كان حكم الشرع في الزاني والزانية ثمانين جلدة، وليس القتل، ويطبقها ولي الأمر، وليس الشقيق او الاب، بما يعني ان القتل في هذه الحال يكون إثماً دينياً، وليس فقط جريمة قانونية، فكيف يمكن قبول وتشجيع ممارسة القتل العشوائي من الشقيق او الأب، اي تشجيع الخروج عن الشرع؟ أليس هذا معناه ان الاسلاميين يساقون وراء القبيلة وشرائعها، بدل ان يسوقوا القبيلة وراء الشرع ذاته؟ من زاوية اوسع، لم يكن من غير المتوقع ان ترفض القوى القبلية، داخل البرلمان او خارجه، وفي اي بلد عربي، اي تعديلات قانونية تعتبر انها تمس نفوذها في المجتمع ونظرتها التقليدية الأبوية له. لكن لم يكن متوقعاً من الاسلاميين ان يحذوا حذو الموقف القبلي في هذه المسألة، فينحازون الى منطق تكريس جرائم الشرف على منطق القانون والمواطنة. فمنطق ان يثأر كل فرد لنفسه اياً كانت الواقعة هو منطق متخلف وينتمي الى عصور ماضية، انتهت بقيام دولة القانون. وان تترك ثغرة قانونية كبيرة في الاردن او غيره تسمح للأفراد بقتل شقيقاتهم او زوجاتهم تحت اي زعم او مسمى معناه الابقاء على بقعة سوداء في راهن الاردن الحديث، السياسي والقانوني والثقافي. وان تتهم الجمعيات والحركات والأفراد الذين يقومون بحملات من اجل تغيير هذا القانون بأنهم يؤيدون ""انحلال المجتمع" فإن هذا فيه اتهام استعلائي للمجتمع برمته، ولنسائه تحديداً، بأنهن يردن "الانحلال" ولا يردعهن سوى القتل. كما ان يتهم هؤلاء بأنهم يتحركون وفق اجندة غربية ولأن المنظمات الغربية تنتقد الاردن بسبب هذا القانون فإن هذا معناه اتهام نخبة الاردن بالقصور، واتهام ثقافتنا العامة بأنها خالية من المنطق والاخلاقية الذاتية التي تثور عندما ترى اجحافاً بالغاً بحق المرأة، ولا تتحرك إلا نتيجة عوامل خارجية. وينطبق الأمر نفسه على قانون الخلع الذي تحتاجه مجتمعاتنا مسيس الحاجة، بسبب ما تتعرض له المرأة من ظلم واضطهاد على يد زوجها لكنها لا تستطيع الانفكاك منهما. يظن الاسلاميون، بقصور نظر بالغ، انهم "يحمون قيم المجتمع" ويقيمون سداً في وجه "انحلاله" عندما يقفون مواقف قبلية وأبوية استعلائية ضد هذا المجتمع وضد حركته الطبيعية. ويظنون انهم بتحالفهم مع الاتجاهات القبلية في المجتمع انما يعززون مكانتهم وموقفهم. لكن يفوتهم حقيقة كبيرة: فقد يكسبون معارك متناثرة وصغيرة هنا وهناك عبر تحالفهم مع القبيلة، لكنهم في الاخير يخسرون المعركة الاهم، معركة التعبير عن طموحات وحركة مستقبل المجتمعات التي يعيشون فيها. اذ سيظل يُنظر اليهم كونهم قوى غير حديثة ورجعية تنحاز الى منطق الفرض على منطق الحرية كلما سنحت لها الفرصة. ففي الحالين: جرائم الشرف والخلع، يتمترس الاسلاميون خلف منطق اعتبار المجتمع والنساء تحديداً قاصرين يجب "فرض" شروط الحياة عليهن، وليس التعامل معهن كأحرار لهن حق الحياة من دون ظلم. وحركة لا تعطي لفكرة القانون الاهمية المركزية التي هي لها في شكل الاجتماع السياسي الحديث. كما انها مهجوسة بالشكل الظاهر على المضمون، فطالما ان نسبة الطلاق، مثلاً، مخفوضة، فإن ذلك يعني ان مجتمعاتنا بخير ولا يهم مقدار الظلم الذي يحدث لآلاف النساء تحت ذلك الشكل الخارجي ولا يجدن وسيلة لدفع ذلك الظلم. ويخسر الاسلاميون عندما يقفون مع الاتجاهات القبلية التي تكبل حركة مجتمعاتنا وتفرغ محتوى منطق المواطنة والمساواة على اساس الحقوق والواجبات. انه المنطق الذي يقدم ابن القبيلة على غيره، حتى لو كان اكثر كفاية منه، ويحبط اي معنى لاحترام الفرد وتمتعه بالحقوق والفرص تبعاً لجهده وكفايته. ويخسر الاسلاميون عندما يدفعون المرأة التي تمثلهم في البرلمان، لأن تصوت مدافعة عن جرائم الشرف، وضد تملك بنات جنسها صوتاً يجأرن به في حال وقوع الظلم عليهن. فتصبح المرأة الحركية المسلمة عدوة لحركة المرأة في المنطقة بدل ان تكون قيادية فيها. والمنطق الذي يظل يكرر هنا بأن عموم المرأة العربية لا تطالب بالحقوق والتحرر الذي يفترضه انصار حركة حرية ومساواة المرأة، ومن انها تعيش مرتاحة في مجتمعاتنا هو منطق فارغ وسجالي. فالعبيد كانوا مرتاحين في عبوديتهم، بل عندما تحرروا طالب الكثير منهم بالعودة الى العبودية ولم يستطيعوا تحمل اعباء الحرية وان يكونوا افراداً وبشراً كاملي البشرية والاهلية. اي ان جريمة العبودية والاضطهاد هنا مركبة، جريمة في ذاتها، وجريمة في تدميرها الذات الفردية وسحقها لدرجة ان تظن ان العبودية، او الظلم، هي حال طبيعية ومريحة ويجب الدفاع عنها. ويخسر الاسلاميون اكثر، ويخسرون التجربة الديموقراطية الاردنية الحديثة، عندما يقودون البرلمان في اتجاه قامع للمجتمع، في حين يتركون الفرصة للحكومة كي تكون على يسار البرلمان في دفاعها عن حقوق المجتمع ومنطق حركته الطبيعية، على عكس ما يحدث في كل مجتمعات العالم. ولأنهم، اي الاسلاميين، فشلوا في المعارك الكبيرة التي نذروا شعاراتهم لها في البرلمان، مثلاً منع معاهدة وادي عربة والسلم مع اسرائىل، فإن نحاحاتهم في المعارك الصغيرة، ضد المجتمع، تبدو تافهة وسخيفة. والموقف القبلي الذي يشعرون الآن بالدفء اذ يحتضنهم سرعان ما سيلفظهم عند اي معركة سياسية حقيقية كما لفظهم عند معركة معاهدة وادي عربة. * كاتب فلسطيني مقيم في بريطانيا.