في وقت الاحتفال بمرور مئة عام على الدعوة التي اطلقها قاسم أمين لتحرير المرأة، وعلى الرغم من الانتصارات الحقيقية التي حققتها الحركة النسوية العربية في اقطار عدة، فاجأتنا الأيام الأخيرة بحدثين بالغي الدلالة يعيداننا سنوات بل عقوداً طويلة الى الوراء. أول الحدثين تمثل في رفض مجلس النواب الأردني الغاء المادة 304 من قانون العقوبات التي تمنح القاتل بدعوى الشرف حكماً مخففاً، في حين تمثّل الحدث الثاني في اسقاط مجلس الأمة الكويتي مرسوماً يعطي المرأة حق الانتخاب والترشيح. ويشترك الحدثان في صدورهما عن موقف ينهض على ازدراء المرأة، على ما يستتبع ذلك الازدراء من اقتناع راسخ بضرورة النظر الى المرأة بمنطق القصور والعيب. انها كما في حالة البرلمان الأردني ملطّخة للشرف العائلي، ومدنّسة للأخلاق الجمعية، وبالتالي من حق الذكر ان اشتبه بأُخته او زوجته أو أُمه او أي من قريباته ان يقتلها بلا تردد ما دام أنه يصون الشرف الرفيع من الأذى، وما دام محصناً بقوة القانون التي تكافئه، كبطل مقدام بحكم مخفف لا يزيد عن سنة واحدة مع انه قتل نفساً آدمية، وأحل نفسه محل القضاء، واجترح لنزعاته الذكورية المتورمة محكمة وقاضياً وشهوداً وجلادين. انه باختصار ألغى السلطات جميعها كرمى لعيني القبيلة. والمفارقة ان قرار البرلمان الأردني الذي وصفته اوساط قانونية اردنية بأنه غير دستوري ويتعارض مع المواثيق التي وقعها الأردن مع دول ومنظمات عالمية تُعنى بالمرأة وبحقوق الانسان، تم بمباركة نواب الشعب الذين وصلوا قبة البرلمان بأصوات بعضها لنساء شاركن في الحملات الانتخابية وجُلن المدن والقرى وهن يروجن لمرشحهن الذي يشجع اليوم على قتلهن، ولو كان ذلك لمجرد الشبهة. نعم الشبهة التي ذهبت ضحيتها نساء بريئات كانت 97 في المئة منهن عذراوات او جرى اغتصابهن عنوة او تعرضن لوشاية، كما جرى لإحدى الفتيات اللواتي زعم احدهم ان ابن الجيران ناولها رسالة، فما كان من شقيقها الا ان ذبحها من الوريد الى الوريد بسكين المطبخ! وكما جرى في البرلمان الكويتي جرى في الأردني حيث تبنت الحكومة قرار الغاء المادة 34، ودافعت عن ذلك بضراوة، لكن النواب عارضوا الأمر بضراوة أشد معتبرين الغاء المادة المذكورة دعوة الى التفسخ والانحلال والرذيلة، ولعل هذه المفاهيم الاخلاقية الثلاثة وسواها كانت وراء الاعتبارات التي قادت البرلمان الكويتي لاسقاط مرسوم أميري يدعو الى اشراك المرأة في الحياة السياسية. انها منظومة العيب ما تزال تحكم سيطرتها على تفكير "النخبة" وتحد من مصاهرة النظرية الداعية الى منح المرأة حقوقها كاملة، مع الواقع الذي تنهض فيه اللاءات والممانعات من كل حدب وصوب لتحول دون صيرورته واقعاً. ومنظومة العيب تخلق معاييرها، وتفصّل سياساتها وأولوياتها وفق ما تشتهي: انها ترى في خروج المرأة من بيتها عيباً، وبحثها عن كينونتها رجساً، ودفاعها عن حقها في الحياة والمشاركة في صياغة ملامحها تطاولاً يتعين الاجهاز عليه في مهده، فالمرأة في عرف هؤلاء لم تخلق سوى للمطبخ والسرير! اما الوجه الآخر لمنظومة العيب فيتبدى من حصر الشرف في حيز ضيق ان وقعت المرأة في مستنقعه فالويل لها والثبور لكن الرجل الواقع في المستنقع نفسه والجاذب المرأة الى فخاخه، ففي منأى عن أن يوصف باللاشرف. ثم من ابتدع هذه المراتبية الاخلاقية الغاشمة بحيث تكون الزانية هي وحدها التي تهدد الشرف. اما من يسرقون، او يزوّرون، او يتاجرون بالمخدرات او يلوثون المياه وقوت الشعب، ويغشون في الدواء، فهؤلاء وسواهم لا تطالهم التهمة الشنيعة، وليسوا معرضين للقتل سواء كان مادياً أم معنوياً؟ ... لا يكفي ان نحتفل بمئوية صاحب "تحرير المرأة" ولا يبعث في أنفسنا الزهو ان نشير الى تراكمات كمية أنجزتها المرأة العربية في شتى الميادين، ما دامت تلك التراكمات لم تفض الى انجازات كيفية ذات مساس لصيق بالعقلية البطريركية العربية التي تحتشد بذهنية التأثيم والمحرمات والتابوات، علينا قبل المطالبة بتحرير المرأة ونيلها حقوقها ان نعطف هذه الدعوة على أخرى اهم لتحرير العقل العربي من أوهامه واعداده كي يتعاطى من جديد مع مفردات تصلح لاقتحام الألفية الثالثة، حيث لا يصح الانتساب الى ذلك الزمان القريب المقبل بمجتمع عربي نصفه معطل ومقصي... وميت! * كاتب أردني.