السلام، وقع الخطوات على التراب والحصى، وهدأتها على الصخر. تسمع صوت تنفسك في فضاء صامت عدا حفيف أوراق الشجر وزحف السحالي وزقزقة عصافير قليلة. ثغاء أغنام بعيدة ونداءات بشر أبعد. السلام. البيوت القديمة المستمرة. نقش العتبات، أبيات شعر تؤرخ للبناء، وعلى الجدران رسوم تآكلت لكن بدائيتها صارخة لا تزال، تحيل الى الجسد في أحوال الصحو والنوم. بيوت بجيران قليلين. هذا البيت المتاخم فارغ إلا من ظلال أهله، رحلوا الى ما بعد بحر سابع. وذاك البيت بقي نصف أهله. الأولاد في الساحة يتركون مجالاً لأولاد سيأتون، ومجالاً آخر لأولاد يلعبون في بلاد بعيدة ولن يأتوا إلا زواراً مستغربين. السلام للقلة الباقية. سلام ما قبل الانقراض أو ما قبل الرحيل. السلام الصمت وليس من سلام في ضجة البشر. سلام الغرف الواسعة، المبنية تباعاً بلا هندسة مسبقة، بيوت الحجر يختلف لوناً بين غرفة وأخرى، الصور على الجدران أكثر من الساهرين والنائمين، عيون الصور تنظر الينا في السهر والنوم. تشهد لنقصنا، نكتمل بها أو تكتمل بنا. نحن أهل البيت نصفنا بشر ونصف ورق. السلام الموسيقى. إيقاع طبلة. عزف مزمار. اسطوانة نسمع منها تانغو. تركها قريبنا الآتي من الارجنتين وعاد. بقي منه في البيت تانغو حزين وقرعتان لشرب المته ساخنة. وتكتمل الموسيقى بالصوت، يتعالى الغناء المنفرد من الساحة، ال"أوف" النابعة من منحنى جبل وال"يا ليل" المستوردة من نيل مصر حين يسودّ في العتمة وتلمح في صفحة مجراه بقع ضوء متكسرة. غناء منفرد طالع من الروح، تعبير منسرح ومتموج عن حنين الى ما لا يعرف المغني، حنين الى مجهول يبحث عنه السامعون أيضاً، قد يكون الى حبيب مسافر أو الى قريب قد مات. هي درجات من الفقد واللوعة لأن الهجرة نصف موت أو هي موت غير رسمي. السلام. السلام إذ يوجد دائماً مع شيء من الحزن. السلام. الحب الأول. لا تذبل الأزهار على جانبي الطريق، تعطي عيوننا الألوان للخريف والشتاء والصيف، تعطي الرواء لأي جاف ويابس. سلام الحب، نافورة الكلام الجميل، تحبها وتحب معها العالم، وأيضاً عمّها المتجهم الذي يتأبى الناس لقاءه. يصير الكون أكثر وضوحاً والمستقبل مرسوماً بالنجاح والفرح. لا تحتاج الحبيبة الأولى الى أناقة وتجميل، انها الكائن البرّي الذي استأنسته فصار لك وامتنع لغيرك، مثل زهرة اخترتها كما هي وخصصت لها ماءك. سلام الحب الأول. كم يبدو الوقت سهلاً، كم يمضي النهار كله في النظرة وفي الانحناء وفي قليل الكلام، نهار سريع سرعة السعادة، وليل ملون بالحلم والوعد. والسلام لحبّ أخير كمثل حبّ أول. المشهد العادي الذي تألق فكأنه يُرى للمرة الأولى، الذي خرج من عاديته الى جمال الدهشة. الحب الفجأة، نداء الجسد والقلب وتجديد إعلان الحياة. الرجل يرى وجهه في المرآة فيرضى. يراه في وجه المرأة فيرضيان. كيف صار يمشي سريعاً وكيف انها تختار ثياباً جريئة اللون، وترى الى لبنات يضج في مدى الأفق فتحس هي أيضاً بوعد اللقاء. السلام الكتب. كل رواية حياة جديدة أو بعض حياة. كل رواية سفر أو أكثر من سفر. تأمل بواسطة شخص آخر. طبيعة حقيقية او متخيلة لم نلامسها من قبل. طريقة في التعامل مع الوقت تجدد احساسنا بل نتعلم منها. كل قصيدة نقارنها بشعر لم نكتبه تبدو معادلة لما في دخيلتنا أو مقصّرة عن الوصول الى أوتارنا، أو جامحة تحاول أرواحنا ان تطاولها فلا تقوى. سلام الكتب هو أحياناً حرب الكتب. ندخل من الكلمات الى حياة أخرى أو الى مشاريع هندسة جديدة للانسان. الكتاب الخطر. حين نهمل حوارنا مع الكتاب أو نعجز عن ذلك. يحضر كديكتاتور، كطاغية. كتاب يأسرنا فنصير عبيداً من حيث وهمُنا أننا تجددنا، ونصير ارهابيين من حيث وهمُنا أننا أصحاب رسالة الى العالم وأننا مدعوون الى تغيير الناس ووضعهم في قالب الكتاب. كيف دخل الكتاب الى بشر مسالمين فحوّلهم عدوانيين. كيف دخل الكتاب الى بيت ففجره على أصحابه. ليس كل كتاب سلاماً. السلام. الجسر الحجري القديم فوق النهر. النهر حياة، والنهر للغرق والموت، وهو رواء وسمك وطوفان. السلام أن تعبر حدود نفسك وتعود بلا خدوش، ان تعبر حدود الآخر فلا يلحق الأذى أياً منكما. والسلام في شرقنا ان تجد مشكلة فلسطين حلاً. فلسطين الواجب والحق والخطيئة. وعد الحياة ومعوقة الحياة. وطن أهلها الموعود وماضيهم لكنها وطننا أيضاً. المعالم لا يستطيع المحتل تغييرها حتى بعد ألف عام. وسلامنا أيضاً أن يقتنع العراقي بالمساواة مع العراقي. أن يقتنع أنه غير خالد وسيعيش عراقيون آخرون بعد موته. أن يستطيع المصري الاقامة فعلاً خارج وطنه فلا يبقى مصرياً صافياً طوال العمر. والسلام عدم التدخين وأن يملأ صدرك عطر الهواء في الغابة. أن تكون هناك غابة تراها وتلمس جذوع أشجارها. السلام أن تتغير ملامح الأمكنة ببطء، ان تثبت الأمكنة قليلاً لنستوعبها، لنتملى. ملعب أخضر واسع، وفي الأفق بنايات عالية جداً. السماء أكثر ارتفاعاً، وما من شجر.