اكتشف هواة الشعر في لبنان الشاعر اللبناني جون عصفور الذي يعيش في كندا ويكتب باللغة الانكليزية خلال امسية شعرية اولى له في لبنان بعد غياب اكثر من 30 عاماً. والشاعر عصفور الذي فقد بصره عام 1958 إثر تعرّضه لانفجار قنبلة اثناء الحرب الاهلية يزور لبنان في مناسبة صدور كتابين له عن دار بيسان في ترجمة عربية انجزها عصفور نفسه متعاوناً مع عبدالحكيم أجهر وحاتم سلمان. والكتابان هما: "ارض الورود والبنادق" و"سمكة من اعلى السطح". وراجع الترجمة وقدّمها الشاعر السوري ممدوح عدوان. اما الامسية الشعرية فقرئت خلالها بضع قصائد مترجمة بصوت الشاعر غسان الشامي وكتب عدوان في تقديمه الترجمة عن الشاعر اللبناني بالانكليزية يقول: هذه مقاطع متفرقة من قصيدة للشاعر اليوناني كافافي. وإذا كان الشاعر يخاطب فيها نفسه، او يخاطب البشر كلهم، فإنه يخاطب جون عصفور اكثر من اي انسان آخر. او لعل عصفور نفسه كان يمكن ان يكتب هذه القصيدة. "الشاعر الموجود في كندا معبأ بعيتانيت، قريته، وكأنه حملها معه. حمل الجيران والاشجار والبيوت والحارات والتلال. حملها في الذاكرة وفي اللغة واللهجة. تنبثق عيتانيت أمام عينيه وفي حلمه وتتصبب في قصيدته. كأنه قد رحل عن عيتانيت في لبنان ليصل الى عيتانيت التي في الخاطر وهو ينزل في شواطئ كندا. وهو اذ فقد البصر ظل "يرى" رؤية الشاعر. ينحني فيرى ما خبأت الذاكرة من وجوه واشجار وتلال. يرى صيادين وعجائز وكنيسة وناقوساً مثقوباً برصاصة واولاداً مستمتعين بشقاواتهم والعابهم. ويرى حتى الولد الذي يطلب من الله سمكة تنزل من المزراب. وفي هذه الذاكرة تحوم الوجوه كالنحل، وجوه الاحياء والاموات. وتتصاعد منها الضحكات والاصوات والنحيب. ينهض الطفل الذي كانه ليلعب في القرية ذاتها، مع الاقران انفسهم. تنطلق ضحكاتهم وشقاواتهم البريئة والماجنة. وتكتمل جغرافية القرية بالتل والنهر وحبال الغسيل وبوح العجائز والكنيسة والاسطح والاشجار والعصافير. تتبدى القرية التي تنزف ابناءها نحو المهجر. وتنزف ابناءها وجمالها في النزعات الداخلية والحرب الاهلية. وتظل الذكريات تطن كالذباب حول عجائز يحاولون احياء ما ظل في البال، عن الابناء والاحفاد الراحلين الى الهجرة او الموت. وقد يعوضون عن غيابهم بالحديث عنهم وعن مساعداتهم المالية او بالتعامل مع صورهم... حتى محاولته تقديم الطعام للصور. في ديوان "سمكة واحدة..." يسترسل مع رومانسية خاصة ملازمة للمهجر. ولكنها رومانسية مشبعة بالمآسي. إنها ليست نوستالجيا نحو القرية الجميلة الغائبة ورغبة في العودة اليها، بل هي ندوب في النفس خلفتها ايام كالحة مرت على اهل القرى. وبين هذه الندوب يمكننا ان نقرأ شعراً موجعاً عن بلد محبوب مشبع بالاسى والمآسي. ويظل يوجعه انه ليس هناك. مع ان الاشياء كلها "ساكنة في عقلي ونومي، حية في لكنتي كما كانت". ذلك ان "النسيان ترف استطيع الاستغناء عنه". في ديوان "سمكة واحدة..." يشفّ الشاعر مع هذه الذكريات المشبعة بالحنين والالم حتى يكاد ان يغني. وتتصاعد مع الغناء او الدندنة اسئلة حارقة فرضها التجدد الذي تحقق في الغربة. ولكنه في ديوان "ارض الورود والبنادق" يصبح اقل استرسالاً مع العفوية، واكثر تفكيراً وتعمقاً، واكثر انشغالاً بالقصيدة ذاتها، بنياناً وصناعة. ويتكرر الحديث عن الشعر وعن القصيدة والابيات. وقد ينتقل الى الرسم والموسيقى. صار الموضوع مشبعاً بالثقافة. وصارت الحبيبة تتلقى قصيدة وتدخلها معها الى غرفة النوم. يصبح اكثر شعوراً بإقامته في الغربة. ويصبح اكثر إدراكاً انه لم يعد "هناك". ولهذا، ربما، يصبح اكثر سوداوية وتشاؤماً. الاصابة التي تعرض لها تفرض نفسها اكثر فأكثر. حتى يكاد ان يصف لنا كيف اصيب وفقد بصره. فيتكرر الحديث عن الظلام وعن المحجرين الفارغين وعن العيش في القبر او محاولة النهوض من القبر. ويرى موته وجنازته وتابوته، ويصف لنا قبره. كأنما الجرح قد برد فتعرف إلى حجم إصابته وفاجعته. وتمتزج هذه الفاجعة الشخصية بالفاجعة الوطنية. اذ يظل الوطن هذه المرة، اكثر من القرية، محمولاً في الخاطر النازف. إنه، مثل صديقه الذي فقأ عينيه، "صار يرى الحقيقة الآن على ضوء آخر". حتى حين تعود تفاصيل الوطن فإنها تصبح اكثر مرارة. ويكاد، في قصيدة مثل "في بلادي"، يردد مع جبران صرخته الجارحة: "ماذا تريدون مني يا بني امي؟". لقد اختفت القرية التي "كانت الغابة والندى فيها واحداً؟ وكان الافق والصدى فيها واحداً". احتضنتها الذاكرة ما يكفي. ولكنها - القرية - الآن غائبة. غائبة من الذاكرة ومن الواقع. وهو ايضاً يعي غيابه عنها. "لقد استحال الكون الى ظلام". و"أحداث الامس ليست سوى ظلال، او رسوم في كتاب التاريخ". إنه "يرى" نفسه ميتاً. و"يرى" نفسه غائباً. كان يكتب الذاكرة، وصار يكتب الغياب. كان يكتب الحنين وصار يكتب القلق. كان يكتب الخيال، وصار يكتب الواقع البشع. كان يكتب عن بنات القرية ونسائها اللواتي أنعشن براءته وفضوله الطفولي الاول، فصار يكتب عن نساء واقعيات يعشن في الجوار، او يأتين الى البيت ويقفن بالباب. لهن اسماء واجساد وملابس داخلية وشهوات وخيانات. ويثرن الملل احياناً. ولكن حتى التجارب مع النساء لا تخلف الا طعم الخيبة والمرارة. وحتى عند ممارسة الحب واستسلامهن لهذه الممارسة يصبحن كفيفات مثله. وكان يكتب عما ترسب في البال من القرية، فصار يكتب عن غرفة وسرير وكتاب وامراض وكؤوس وكتب. ويظل هناك شيء يعوق التأقلم والاندماج. كأن الوطن قد دهن الجسم بزيت الهموم، فصارت مياه الغربة عاجزة عن تبريده او انعاشه او تبليله. تظل القرية تتبعه فتشوش عليه الانسجام، انه لم يغتسل منها نهائياً، بل كبرت وتحولت الى وطن. ومن اية بقعة يطل، وفي اية صحيفة يقرأ، وفي شاشة كل تلفاز، لا "يرى" إلا ذلك الوطن المثخن بالجراح. فيدرك كم هو غريب عما حوله: "لعلي أخطأت المكان. / لعلّ هذا البيت مهجور، / مثل البيت الذي كنت أعيش فيه. / قد لا أزور هذا البيت ثانية. / قد أحزم حقائبي وأرحل / كما أنني قد أبقى". تساوت الاشياء. ولهذا فإن تجربة الغربة لم تقدم له يقينيات وأجوبة واستقراراً، بل قدمت له المزيد من التساؤلات والقلق. كان يرى حياته غائبة في الحنين والاشواق المبهمة، فصار يستطيع ان يرى حتى موته، وان "ينظر" الى وجهه في التابوت. كان يحاول اخراج نفسه من ذكريات القرية فصار يحاول الخروج من القبر. وكان يسترسل مع الاحلام، فصار يئن تحت الكوابيس. وكان غارقاً في الرومانسية فاكتشف انه "مشوه بسيف الكراهية". وهذا كله لانه مولود في الشرق. وقد حمل معه هموم هذا الشرق الى طرف الدنيا. في شعر عصفور تجربة خاصة ومتميزة. وقد كتب شعره بالانكليزية. ونحن نرجو ان نكون قد استطعنا الابقاء على شيء من هذا الشعر ونكهته، بعد الترجمة والمراجعة. فالترجمة، وخصوصاً ترجمة الشعر، مثل تصريف العملة، كما يقول احدهم. لا بد من ان تخسر شيئاً في العمولة. لكننا اجتهدنا".