رُزقتُ مع الخبز حُبَّكْ ولا شأن لي بمصيري، ما دام قُرْبَكْ فخُذْهُ إلى أَىِّ معنى تريدُ معي، أَو وحيداً ولا بَيْتَ أَقرَبَ ممَّا أُحِسُّ به ههُنا في الربيع السريع على شجر الآخرين... رُزِقْتُكَ أُماً، أَباً، صاحباً وأَخاً للطريق، ولا تحمل الطَيْرُ أكثرَ من وُسْعها: ريشَها والحنين وحبَّةَ قمحٍ ضروريَّةً للغناء، فكن في سمائي كما أَنا في سمائك، أَو بعض ذلك، كُنْ يا غريب المُوَشَّح لي. مثلما أَنا لَكَ: مائي لمائك، ملحي لملحك، واسمي على اسمكَ تعويذةٌ قد تُقَرِّبنا من تلال سَمَرقَنْدَ في عصرها الذهبيِّ. فلا بُدَّ مني ولا بُدَّ منك، ولا بُدَّ من آخرين لنسمع أَبواق إخوتنا السابقين وهم يمتطون ظهور الخيول، من الجانبين ولا يرجعون. فكن يا غريبُ سلامَ الغريبةِ في هُدْنَةِ المُتْعَبين وكن حُلْمَ يقظتها، كُلَّما أَلمَّ بها قَمَرٌ عائدٌ من أَريحا، كما تعود الإلهاتُ بعد الحروب الى الحالمين فكُلُّ هُنَاكَ هنا. وأَنا لا أُحبّ الرجوع الى نجمتي بعدما كبرت حكمتي، هاتِ هات البعيد الى خيمتي سلَّماً لنصعد أَعلى كغُصْنَيْ بَتُولا على حائط الآخرين ]ونحن نصير غداً آخرين[ فلا بَيْتَ أَقرَبَ مما أُحسُّ به ههنا وأَنا حاملٌ بالربيع السريع رُزقتُ مع الخبز حُبَّكْ ولا شأن لي بمصيرِيَ ما دام قُرْبَكْ ويا ليتني لم أُحبَّك يا ليتني لم أُحبَّكْ! من أنا، دون منفى؟ غريبٌ على ضفة النهر، كالنهر... يَرْبِطُني باسمك الماءُ. لا شيءَ يُرْجعُني من بعيدي الى نخلتي: لا السلامُ ولا الحربُ. لا شيء يُدْخِلُني في كتاب الأَناجيلِ. لا شيء... لا شيء يُومِضُ من ساحل الجَزْر والمدّ ما بين دجْلَةَ والنيلِ. لا شيء يُنْزِلُني من مراكب فرعون. لا شيء يَحْملني أو يُحمِّلني فكرةً: لا الحنينُ ولا الوَعْدُ. ماذا سأفعل؟ ماذا سأفعل من دون منفى. وليلٍ طويل يُحَدِّقُ في الماء؟ يربُطني باسمكِ الماءُ... لا شيء يأخذني من فراشات حُلْمي الى واقعي: لا الترابُ ولا النارُ. ماذا سأفعل من دون وَرْدِ سَمَرْقَنْدَ؟ ماذا سأفعل في ساحةٍ تصقُلُ المُنْشدين بأحجارها القمرَّيةِ؟ صِرْنا خَفِيفَيْنِ مثلَ منازلنا في الرياح البعيدةِ. صرنا صَدِيقَيْنِ للكائنات الغريبةِ بين الغيوم... وصرنا طَلِيقَيْنِ من جاذبيَّة أْرضِ الهُوِيَّةِ. ماذا سنفعل... ماذا سنفعل من دون منفى، وليلٍ طويلٍ يُحَدِّقُ في الماء؟ يربطني باسمك الماءُ... لم يبقَ منِّي سواكِ، ولم يبق منك سوايَ غريباً يُمَسِّدُ فَخْذَ غريبتِهِ: يا غريبةُ! ماذا سنصنع في ما تبقَّى لنا من هُدُوءٍ... وقَيْلُولَةٍ بين أسطورتين؟ ولا شيء يحمِلُنا: لا الطريقُ ولا البيتُ. هل كان هذا الطريق كما هُوَ، منذ البداية، أَم أَنَّ أَحلامنا وَجَدَتْ فرساً من خيول المَغُول على التلِّ فاسْتَبْدَلَتْنا؟ وماذا سنفعلُ؟ ماذا سنفعلُ من دون منفى؟ تدبير منزلي - 1- كم أَنا في الصباح ذهبتُ الى سوق يوم الخميس. اشتريتُ حوائجنا المنزليّة، واخترتُ أُوركيدَةً وبعثتُ الرسائل. بلَّلني مَطَرٌ فامتلأتُ برائحة البرتقالة هل قُلْتَ ليْ مَرَّةً إنني نَخْلَةٌ حاملٌ، أَم تخيَّلْتُ ذلك؟ إن لم تجدني أَرفُّ عليك، فلا تَخْشَ ضَعْفَ الهواءِ، وَنَمْ يا حبيبيَ نَوْمَ الهنا... - 2 - كم أَنا؟ في الظهيرة، لَمَّعْتُ كُلَّ مرايايَ. أَعددتُ نفسي لعيدٍ سعيدٍ. ونهدايَ، فَرْخا يمامِ لياليكَ يمتلئان بشهوة أَمس. أَرى في عُروق الرخام حليبَ الكلام الإباحي يجري ويصرخ بالشُعَراء اكتبوني، كما قال ريتسوس. أَين اختفيت وأَخفيت منفايَ عن رغبتي؟ لا أرى صُورَتي في المرايا، ولا صُورَةَ امرأةٍ من نساء أَثينا تُدِيرُ تَدَابِيرَها العاطفيَّةَ مثلي هُنا. - 3 - كم أَنا؟ في المساء، ذهبتُ الى السينما مع إحدى الصديقات. كان الهُنُودُ القدامى يطيرون في زمن الحرب والسلم كالشُّهُب الأَثريَّة، مثلي ومثلك. حدَّقْتُ في طائرٍ فرأيتُ جناحَيْكَ يرتديان جناحيّ في شجر الأكاليبتوس. ها نحن ننجو نجاة الغبار من النهر. مَنْ كان فينا الضحيّةَ فليْحلُمِ الآن أكثرَ من غيره، بيننا. - 4 - كم أَنا؟ بعد مُنْتَصفِ الليل، أَشْرَقَتِ الشمسُ في دمنا كم أنا أنْتَ، يا صاحبي كم أَنا! مَنْ أَنا! ربما لأن الشتاء تأخّر -1- أقلُّ من الليل تحت المطرْ حنينُ خُماسيّةٍ إلى أمسها المُنتظرْ، وأكثرُ ممّا تقولُ يدٌ ليدٍ على عَجَلٍ في مهبِّ السفرْ -2- شماليّةٌ هذه الريحُ فليكتبِ العاطفيّون، أهلُ الكلامِ الجريح، رسائلَ أخرى إلى ما وراءَ الطبيعةِ أمّا أنا فسأرْمي بنفسيْ إلى الريح.../ -3- لا ليلَ عندَكِ، إذ تَدلِفينَ إلى الليل وحْدَكِ. أنتِ هنا تكْسرينَ بنظرتِكِ الوقتَ. أنتِ هنا في مكانك بعدي وبعدك لا أنتِ تنتظرين، ولا أحدٌ ينتظرْ -4- لعلَّ خياليَ أوضحُ من واقعي والرياحُ شماليّةٌ. لن أُحبَّكِ أكثرْ إنْ لم تكوني معي هنا، الآن ما بين أيْقونَتَيْنِ وجيتارةٍ فَتَحَتْ جُرْحَها للقمر -5- أنا والمسيحُ على حالنا: يموتُ ويحيا، وفي نفْسِهِ مريمُ وأحيا، وأحْلُمْ ثانيةً أنني أحلمُ ولكنَّ حُلْمي سريعٌ كبرقيّةٍ تُذكِّرُني بالأخُوَّةِ بين السماوات والأرض.../ -6- من غيرِ قصدٍ، يصيرُ الحصى لغةً أو صدى والعواطفُ في متناولِ كُلِّ يدٍ. ربما كان هذا الحنينُ طريقَتَنا في البقاء ورائحة العُشْب بعد المطرْ -7- بلا غايةٍ، وضَعَتْنا السماءُ على الأرض إلْفَيْن مؤتلفين وباسْمَينِ مُختلفين، فلااسْميَ كان يُزيِّنُ خاتَمَكِ الذهبيَّ ولا اسْمُكِ كان يَرِنُّ كقافية في كتاب الأساطير.../ -8- أمثالُنا لا يموتون حُبّاً، ولو مرّةً، في الغناء الحديث الخفيف ولا يقفون، وحِيدين، فوق الرصيف لأنَّ القطارات أكثرُ من عدد المُفرَدات وفي وسْعنا دائماً أن نُعيدَ النظرْ -9- وأمثالُنا لا يعودون إلاَّ ليَسْتحْسِنوا وَقْعَ أقدامهم على أرض أحلامهم، أو ليعتذروا للطفولة عن حِكْمَةٍ بلغوها على حافة البئر.../ -10- بي مثلُ ما بكِ من وَحَم الليلِ يصرُخُ شخصٌ: "أنا امرأتي في المنام. وتصرخ أُنثى: "أنا رَجُلي" أيُّنا أنتَ. أنتِ؟ نَضيقُ نضيقُ، ويتَّسعُ المُنْحدَرْ... -11- أضُمّكِ، حتى أعود إلى عَدَمي زائراً زائلاً. لا حياةَ ولا موتَ في ما أُحِسُّ بهِ طائراً عابراً ما وراء الطبيعةِ حين أضُمُّكِ.../ -12- ماذا سنفعلُ بالحُبِّ؟ قُلْتِ ونحن ندسُّ ملابسنا في الحقائب نأخذُهُ مَعَنا، أمْ نُعَلِّقُهُ في الخزانة؟ قلتُ: ليَذْهبْ إلى حيثُ شاءَ فقد شبَّ عن طَوْقنا، وانتشرْ -13- هَشاشَتُنا لؤلؤُ الخاسرين وأمثالنا لا يزورون حاضِرَهُمْ أبداً لا يريدون أن يبلغوا بلداً في الطريق إلى الريح، حيث وُلدنا على دفعتين: أنا وجمالُك.../ * من ديوان عنوانه "سرير الغريبة" يصدر قريباً عن دار "رياض الريس للكتب والنشر" بيروت.