رأيت في عينيه الغضب والحسرة ممزوجة بالترحم على الأيام التي كانت فيها مبادئ الوفاء أمراً أساسياً في المجتمع الفني. لم يتوقف الممثل فؤاد المهندس عن الشكوى من الفنانين الذين كانوا أفواجاً عند بابه عندما كان اسمه بين نجوم السينما والمسرح والتلفزيون والاذاعة ثم أعرضوا عنه عندما طرق بابه المرض والعمر المتقدّم، في تلك المقابلة التلفزيونية، التي فتحت له جرحه الصعب، وكان على المذيع ان يتقبل كلامه المحتقن الذي ينفّس فيه عن مشاعر سوداوية نتيجة عدم وجود من يساعده أو يرعاه أو يهتم به في يومياته ممن طالما ساعدهم ورعاهم واهتم بهم ذات يوم من الأيام، ونتيجة تجاهل المنتجين والمخرجين والكتّاب له لأنه "لم يعد قادراً على الحركة" في الاستوديو كما كان سابقاً، وبات كل من يفكر بإسناد دور له في عمل تمثيلي جديد يصطدم بمن "ينصحه" بالابتعاد عن فؤاد المهندس. وحدها زوجته السابقة شويكار لا تزال أمينة على بعض جوانب حياته، تسأل، تطمئن، تبادر بعمل أو تمسح عن جبينه لحظة قلق أو تعب أو يأس. لكن اليأس هو السيف المصلت فوق رقبة المهندس. ولو تُركت له حرية اختصار الحياة الفنية وحياة الفنانين لما توانى عن القول "انها التنكر لأبسط مفاهيم رد الجميل" ولا شيء آخر. هل هذا الرأي الذي يعكس جزءاً كبيراً من طبيعة الفنانين، بحسب قول فؤاد المهندس، هو وجهة نظر خاصة به، أم أنه رأي عام لدى الفنانين الذين يتقدمون في السن وتغيب من حولهم حالات الاعجاب من الجمهور ومن كثير من المنتفعين الذين كانوا في الماضي "يخدمونهم" طمعاً في دور صغير الى جانبهم؟! انه، في بساطة، رأي عام تسمعه في صوت فؤاد المهندس كما في صوت المطربة صباح، وفي صوت المطربة وردة الجزائرية التي تعاني في صحّتها حالياً، وفي صوت وديع الصافي، وفي أصوات نجوم كبار صنعوا الحياة الفنية والأعمال الجميلة وأعطوا معنى كلمة "الفنان" ذلك الاشراق الرائع في أذهان الناس. رأي عام يتجاوز في تداعياته حياة الفنانين ليطاول حياة الناس في المجتمع ككل. وإذا كان بعض الفنانين يعاني جحوداً من أشخاص يجدر بهم ان يكونوا أكثر التزاماً بالأخلاقيات الفنية، فإن في المجتمع من يعاني جحود أقرب المقربين من أبناء أو أحفاد أو أشقاء. ومن يتابع أموراً كهذه تنشر في الإعلام لن يفاجأ بالنتائج التي تقترب الى حدود الكارثة الاجتماعية. لكن معاناة الفنان الذي كان نجماً كبيراً وأحاطت به الأضواء ومظاهر القوة والتأثير ثم جار عليه الدهر، تبدو جارفة ومؤثرة لدى المشاهد التلفزيوني الذي حينما يراقب شخصاً عادياً يشرح موقفاً تعرّض له في حياته الاجتماعية أو العائلية، يتأثر وينفعل، لكنه حينما يراقب شخصاً شهيراً يعلن حزنه وأسفه لما يتعرض له من تجاهل وتناسٍ ومحاربة في الرزق لا بد من أن يتأثر وينفعل أكثر فأكثر، لأن في الشخصية العامة مثالاً أو قيمة نبيلة ليس سهلاً أن يزول حضورها المعنوي الكبير. صرخة فؤاد المهندس هذه ليست الأولى. صرخ قبل ذلك في مقابلات تلفزيونية واذاعية وصحافية. وفي كل مرة نجد مبرراً مهنياً عالياً، بل انسانياً وأخلاقياً في أن نلاقي تلك الصرخة ببعض الحبّ الذي كان ويبقى.