أن تكون فناناً كانت كروماو مسقط والدته وملاذه كلما اشتدت العتمة في حياته المضطربة، وبيعت اللوحة التي رسمها لها بأكثر من 12 مليوناً ونصف المليون في مزاد لسوذبيز، لندن، أخيراً. الفن رقم قياسي خارق لإيغون شيله الذي باع اللوحة لرجل أعمال يهودي ترك كل شيء وسافر الى البرازيل عندما اقترب خطر النازيين من فيينا. نهبها هؤلاء وباعوها، ولم يستطع شاريها استردادها بعد الحرب العالمية الثانية، لكن وارثيه ربحوا الدعوى وتقاسموا ملايين الجنيهات بعد المزاد. وصدر عن الفنان "ايغون شيله: رسوم ومائيات" عن دار تيمز وهدسون في بريطانيا. رسم سيغموند فرويد العالم بعينين جديدتين وتأثر الرسام التعبيري به في وقت هجست فيينا بالانحطاط. الاساءة الجنسية في الطفولة سبب الاضطرابات النفسية، قال عالم النفس النمسوي، فرأى ايغون شيله الناس من دون ملابس ورسم الجنس بلا هوادة مثلياً وبين الجنسين. لم يرَ الجسد ناعماً سابحاً بالنور بل مخططاً متعرجاً يثير الفضول لا الرغبة أو الحس بالجمال. في أوائل القرن العشرين رأت فيينا الانحطاط في كل مكان، الأوبرا، الأعمال الفنية، السلوك الجنسي وحتى بعض الأعراق. علينا أن نسأل، قال فرويد في "ثلاثة مقالات عن الجنس" ما اذا كان تفسير الأشياء بالانحطاط يضيف شيئاً الى معرفتنا. اعتقل شيله في ربيع 1912 وأمضى أقل من شهر في زنزانة رسمها، وكانت البرتقالة على الشرشف الضوء الوحيد فيها. كان في الثانية والعشرين، لكنه بدا متوسط العمر بلحيته ومعطفه الثقيل الذي قاوم به البرد الهاجم من النافذة المفتوحة. اتهم بخطف طفلة ولمس الأطفال الذين جلسوا له والسماح لهم برؤية رسوم جنسية. كان ترك العاصمة الى نيولنغباخ مع صديقته فاليري نيوزيل وأثار شك أهل القرية الذين لم يفهموا تماماً معنى أن يكون المرء رساماً ويرسم عراة أيضاً. لكن الأطفال والمراهقين أحسوا ان الفنان يفتح لهم الباب الى المغامرة فجلسوا له، وكانت المشكلة أن شيله اهتم بالجسد العاري وحده بعد أن فقد اهتمامه برسم القطارات. عندما أقنعت ابنة الضابط المتقاعد وزعيم القرية الفنان وصديقته بأخذها الى فيينا تدخل القانون على رغم ان المراهقة غيّرت رأيها وعادت الى قريتها. اقتربت الامبراطورية النمسوية - الهنغارية يومها من نهاتيها وزحفت الليبرالية الألمانية الى جزئها الغربي فانتشر التمدن والانفتاح، لكن اليد الحديد ضربت بين الحين والآخر، وكانت رسوم شيله صريحة متحدية. حتى في زمننا المثقل بالجنس يرى كثيرون فنه خلاعياً ورفيعاً في آن، علماً أن العاصمة النمسوية هجست بالجنس قبل قرن وان قنّعت هوسها أحياناً بتهمة الانحطاط. في "ثلاثة مقالات عن الجنس" استعان فرويد بالخطاب العلمي ليستطيع التطرق الى كل أنواع النشاط الجنسي سواء كان مفرداً أو سادياً - أو مازوشياً اللذة في الضرب والألم أو شمل الأطفال والحيوانات. درس شيله في أكاديمية الفنون الجميلة ونقل الروائع الكلاسيكية ثم ملّ وترك الدراسة ليرسم العري على ذوقه. في ذلك الحين كان بابلو بيكاسو في باريس يرسم آنسات آفينيون بخطوط متعرجة وأبعاد غير منسجمة متأثراً بالسابحات عند بول سيزان. ثوّر بيكاسو وبراك الفن عندما انهت التكعيبية خمسمئة عام من الرسم بالمحاكاة. قد يلتقي شيله مع التكعيبية عندما يرسم فتاة من دون رجلين أو يطيل جذعها وأطرافها، لكن رؤيته الذاتية لموضوعه تلتقي مع المتطرقين في استخدام خصوصيتهم في القرن السادس عشر. اصطدم شيله بالجماليات التقليدية وقصد ان يكون خلاعياً لا ليصدم فقط، بل ليقول إن الفن حياة حقيقية نعرفها وإن سترناها في غرفة النوم. ورطة شيله مع القانون خلصه منها القانون نفسه. برئ من تهمة الخطف ودين بالاساءة الى الأخلاق العامة وحكم عليه بالسجن ثلاثة أيام تضاف الى ما أمضاه فيه. على رغم ذلك وجد التجربة قاسية، واعتبر شهيداً، ونشرت يوميات مزورة عن أيامه خلف القضبان. تعاطف معه زملاؤه ودبّر له كليمت المساعدة المالية، وترك هو صديقته ليتزوج فتاة "محترمة" ما لبث أن رسمها عارية. في لوحاته الأخيرة تحديد وصلابة للجسم نجدها في النحت لا البورنوغرافيا. بعد الحرب العالمية الأولى أضاف فرويد العدوان الى الجنس في تفسير الجنس البشري، لكن شيله لم يعش ليرى السلم ويختبر النظرية. في 1918 توفيت زوجته الحامل بعد إصابتها بالانفلونزا الإسبانية، وتبعها بعد ثلاثة أيام. كان في الثامنة والعشرين. على الباب الأم انكليزية والأب بنغالي وهي تقف في "ظل العتبة". لا تنتمي الى أي من الحضارتين، لكن موقعها جيد للمراقبة. "لا أقف خلف الباب ولا وسط الأحداث لكنه تدريب جيد للحياة ككاتبة". اعتبرت مونيكا علي بين أفضل الكتاب البريطانيين الشباب على أساس مخطوطة وقبل أن تنشر كلمة واحدة. "بريك لين" روايتها الأولى الصادرة عن دوبلداي تتناول الجالية البنغالية في شرق لندن وتلقى المديح وحده منذ صدورها. على أن المفوضية العليا لبنغلادش اختارت موقفاً مختلفاً. شاءت علي زيارة البلاد التي غادرتها من دون رجعة عندما كانت في الثالثة فرفضت المفوضية اعطاءها تأشيرة دخول. اخطأت بالقول انها كاتبة على طلب التأشيرة واكتشفت بسرعة رأي سلطات بنغلادش بمرتكبي الكتابة. مواطنتها تسليمة نسرين تلقت تهديدات بالقتل واضطرت الى مغادرة وطنها بعد نشرها "العار" عن القتال بين المسلمين والهندوس إثر تدمير هؤلاء جامعاً قديماً في وسط بنغلادش. تمزج علي السياسي بالروائي في "بريك لين" بسلاسة لا تبدو معها كأنها تستخدم شخصياتها لتعبر عن رأيها. في اجتماعات "نمور بنغال" يرتدي الشبان الأزياء الأميركية والفتيات غطاء الرأس ويدرسون ما إذا كان الأفضل بعد أحداث أيلول سبتمبر 2000 الانضمام الى حركة "الجهاد" العالمية أو محاربة الظلم في مجتمعهم. بطلتها نازنين تتوهج اعجاباً بكريم الواثق بدوره في الحياة قبل أن تدرك ان حلمه بالصحوة الإسلامية واهٍ كحلم زوجها بالاندماج في المجتمع البريطاني. شخصيات مونيكا علي الغنية المعقدة تستكشف الحياة حولها وإمكانات الخيار والحتمية، لكن من يعش في بريطانيا يسلم من المواجهات الحاسمة التي تغيب معها حرية الخيار. ترسل نازنين الى بريطانيا وهي في الثامنة عشرة للزواج من شانو الذي لا تعرفه وإذا به رجل حالم مدع ينفضح جهله ومرارته السلبية عندما لا يحقق شيئاً من أحلامه. انجذابها الى كريم ينضج على مهل ويشعلهما برغبة جامحة تطيح خياراتهما الأخلاقية. يسحرها بحماسته السياسية وعطر قمصانه الحمضي، وتبدو علاقاتهما مبررة وطبيعية بعد مقاومة كبيرة منهما. شقيقة نازنين تبدو أكثر حرية في بنغلادش عندما تتزوج شاباً تحبه ثم تتركه لمداومته على ضربها. تكسب عيشها من العمل في المصنع والبيوت والدعارة، ومع ان حياة نازنين تبدو أفضل في الغرب ندرك ان هذا وحده لا يحدد الطريق وانها كان يمكن أن تسلك المسار نفسه. لقبت مونيكا علي "زيدي سميث الثانية"، علماً أنها أكبر سناً من مؤلفة "أسنان بيضاء" الذي صور حياة المهاجرين من جامايكا وبنغلادش الى بريطانيا. لا تتوصل شخصيات "بريك لين" الى الانتماء وتحسس وضعها موقتاً والعودة الى "الجذور" محتملة دوماً مع معرفتها ان الحلم الذي لم يجدوه في المهجر لا ينتظرهم في بلادهم. تتذكر الكاتبة كيف كانت تنام مع والديها وشقيقها على شرفة المنزل في دكا وهم بملابسهم لكي يستطيعوا تسلق شجرة قريبة والدخول الى الميتم المجاور عندما تأتي الشرطة للقبض على والدها. كان موظفاً حكومياً مناهضاً للحكومة وضع كدسة المال الذي يملكه في جوربه ليكون جاهزاً للرحيل على الدوام، وروى لولديه حكايات القرية التي أتى منها. عندما توقفت حركة الطيران كانت والدة الكاتبة تأخذها وشقيقها يومياً الى المطار علها توفق باستئناف الرحلات ونجحت. بعد اسبوعين تدبرت أمرها بالمال القليل وقصدت أهلها في مانشستر وكان على والدها دفع ثمن تذكرة القطار. تذكر الكاتبة اليوم ان هم جدتها الأول تعلق بطريقة استردادها ثمن التذاكر من والدتها. سيبقى هناك دائماً من يمتحن انتماء علي الى الحضارتين في خلفيتها. في أمسية عن روايتها في "المركز البنغالي للأدب العالمي" شرق لندن سألتها امرأة كيف أنى لها أن تكتب عن أم بنغالية وهي لا تعرف لغتها. "هيا، كلمينا بالبنغالية" قالت. لم تقبل الكاتبة التحدي لأنها تعرف فقط مقاطع من أغاني الأطفال ومصطلحات السياحة والطبخ. سيكون هناك دائماً "نحن" و"هم"، لكن ما معنى الانتماء القاطع في زمن العولمة لأي منا؟ العين والوجه لم تجد رواية جون ابدايك الأخيرة "ابحث عن وجهي" الصادرة عن هاميش هاملتون الاحتفاء المنشود، ورآها نقاد كثر دون مستواه الرفيع. اختار الكاتب والناقد الأميركي الغزير عنوان روايته العشرين من المزمور السابع والعشرين في الإنجيل وتناول عالم الفن التجريدي التعبيري عبر بطل يصور حياة جاكسون بولوك. الرواية حوار في يوم واحد بين زوجة الفنان ومؤرخة فن شابة تقطعه ذكريات العجوز الواقفة على حافة الثمانين. قبل الأدب اتجه ابدايك نحو رسم الصور المتحركة بعد أن درس الفن في أكسفورد، بريطانيا. يشكّل ابدايك زوج العجوز الثاني من ستة فنانين تتضح صورتهم في الشخصية، وهمه في روايته الأخيرة مألوف في أدبه: العلاقة بين الخلق الفني والذات. "لهذا كان التجريد ساحراً. كان كله عن الذات" تقول العجوز التي تصل في نهاية المقابلة الى الشعور بود نحو الشابة على رغم اختلافهما. عاشت الأولى حياة حافلة لكنها ختيارة تشكو من داء المفاصل، وتفتقر الثانية الى الخبرة لكنها موعودة بكل حسنات الشباب. "ابحث عن وجهي" ليست الرواية الأولى عن النساء للكاتب الأميركي المحافظ الذي انتقد لتشييئه النساء، خصوصاً في رباعية "رابيت" التي بنيت حول حاجات بطلها. "كل ما تفعله المرأة للرجل ثانوي، غير أساسي. كان الفن ما أحبه هؤلاء الرجال، أي ذواتهم" تقول المسنّة.