تكوّن مجلس الحكم الانتقالي في العراق بقرار من السيد بول بريمر الحاكم المدني للعراق والذي يستند في وجوده وفي سلطته على قوات الاحتلال والذي عين في منصبه بقرار من الدولة التي تحتل العراق: الولاياتالمتحدة الأميركية. وفي العلاقات الدولية - سواء في الماضي أو في الحاضر - فإن علاقات القوى Rapport de Forces لا بد من أن تؤخذ في الاعتبار لأنها هي المؤثر الحقيقي في مجرى الأحداث في الحياة الدولية. ومع ذلك فإنه لا يجوز في هذه المرحلة من مراحل تطور المجتمع الدولي أن يغفل الجانب القانوني إغفالاً كاملاً. هذه الملاحظة لا بد من أن تعكس نفسها على كل نقاط البحث. وفي ما يتعلق بمدى شرعية الاحتلال الأميركي - البريطاني للعراق فإنه من المعروف أن هاتين الدولتين حاولتا أن تضفيا على غزوهما العسكري للعراق نوعاً من المشروعية الدولية بدعوى أن النظام العراقي السابق كان يحمل تهديداً لجيرانه وللأمن والسلم الدوليين - وهو الأمر الذي كان يمكن أن يسمح لمجلس الأمن باتخاذ قرار بالتدخل العسكري - ولكن المنظمة الدولية رفضت أن تعطي الدولتين هذا الغطاء القانوني لأنها قدرت انعدام أو على الأقل ضعف الأسس التي يراد أن يبنى عليها قرار التدخل العسكري. وعلى رغم كل أنواع الوعد والوعيد فإن الولاياتالمتحدة وجدت نفسها في نهاية المطاف عاجزة عن الحصول على القرار المطلوب من مجلس الأمن واتخذت قراراً منفرداً بغزو العراق بخلاف ميثاق الأممالمتحدة وقواعد القانون الدولي وبغير إنكار لذلك. وحدث الغزو. وتم احتلال العراق. وسقط النظام الدكتاتوري الرهيب في التاسع من نيسان أبريل العام 2003. وصدقت المقولة التي تقرر أن الدكتاتورية لا تأتي لبلادها بخير قط. ولكن هذه قضية أخرى. وأستطيع أن أقول إن العالم كله وإن الشعب العراقي قد تنفس الصعداء لزوال هذا الكابوس الرهيب. ولكن ذلك شيء ورفض الاحتلال شيء آخر. وقد بدأت المقاومة المسلحة في العراق عقب فترة قصيرة من الاحتلال وما زالت مستمرة وفي تصاعد. وهذا يجعل الاحتلال في موقف صعب. وكما يقول فقهاء القانون المدني: "إن وضع اليد على العراق ليس وضعَ يد هادئاً. ومع ذلك فالواقع يقول إن قرابة مئتي ألف جندي أجنبي يجثمون على أرض العراق ويحتلونها ويفرضون سلطانهم عليها. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فإن الغالبية من فقهاء القانون الدولي سواء في أوربا أو أميركا أو الوطن العربى يرون أن الاحتلال يفتقد إلى أي أساس شرعي. ومع ذلك فهو واقع لا مجال لإنكاره وعدم التعامل معه. هذا عن القضية الأولى: قضية عدم مشروعية الاحتلال. فإذا انتقلنا إلى النقطة الثانية وهي مدى حق سلطات الاحتلال أو من يمثلها - مثل بريمر - في إنشاء مثل هذا المجلس. قوات الاحتلال التي تستند إلى شرعية دولية مهمتها الأساسية إبعاد الأخطار التي تهدد السلم والأمن الدوليين. وليست هذه هي حال قوات الاحتلال في العراق. ومع ذلك ووفقاً لقواعد القانون الدولي التقليدي فإن قوات الاحتلال في العراق تلتزم التزاماً أساسياً بالحفاظ على سلامة وأمن شعب وإقليم الدولة التي تحتلها وإنهاء الأسباب المؤدية إلى الاحتلال في أسرع وقت ممكن. وقد يقال إن إدارة مرافق العراق من أجل تيسير الحياة اليومية للمواطنين هو التزام جوهري بالنسبة لقوات الاحتلال. ومن هنا يجوز لقوات الاحتلال إنشاء مثل هذا المجلس الموقت لمساعدتها في تحقيق هذا الغرض . ولكن هنا يثور سؤال جوهري: هل يمكن أن يكون هذا المجلس سلطة حكم أم هو مجرد سلطة إدارة تابعة ومعاونة لسلطة الاحتلال؟ وهذا يؤدي بنا إلى النقطة التالية في هذا البحث وهي طبيعة هذا المجلس ومدى ما يمكن أن يتمتع به من اختصاصات ثم تركيبة هذا المجلس. بداءة لا يمكن أن يكون هذا المجلس سلطة حكم لأن سلطة الحكم تعني التمتع بكل مظاهر السيادة ومباشرتها. وأهم مظاهر السيادة العلاقات الدولية الخارجية وفي الداخل سلطة التشريع والقضاء والأمن. وكلها لا يمكن أن تكون من اختصاصات هذا المجلس الموقت. هو إذاً مجلس إداري تابع ومعاون لسلطات الاحتلال. هو أقرب إلى طبيعة المجالس البلدية أو المحلية. هو مجلس يراد منه تسيير بعض المرافق التي تخدم الجمهور. ويراد منه في الدرجة الأولى أن يواجه الجمهور وأن يمتص غضبه بدلاً من سلطات الاحتلال إذا كان ذلك ممكناً. وجاء في قرار إنشاء المجلس أنه سيركز جهوده على توفير الأمن والاستقرار وتفعيل مؤسسات الدولة والمجتمع المدني استكمالاً للمرحلة الانتقالية. وسيعمل المجلس تحت وصاية الحاكم المدني للعراق الذي من حقه أن يعترض على أي قرار من قرارات المجلس. كل هذا يوضح أننا بصدد مجلس معاون لسلطة الاحتلال في إدارة بعض مرافق الدولة الحيوية ولكنه ليس مجلس حكم بأي حال. وجاء تكوين المجلس على أساس طائفي وعرقي وليس على أساس القوى الفاعلة في المجتمع ولا على أساس المواطنة التي يفترض أنها الرابطة الأساسية بين المواطن والدولة الحديثة. لقد تم تكوين المجلس من 25 عضواً. ثلاثة عشر منهم من الشيعة وأربعة من السُنة وخمسة من الأكراد وواحد من التركمان. ولعل الثقل الشيعي في تكوين المجلس يعكس نفوذ أحمد الجلبي الوثيق الصلة بالاحتلال. ومن المؤكد أن هذا المجلس الموقت لا يتمتع بأي سلطة تمثيلية أو بأي حق قانوني في التحدث باسم شعب العراق. ذلك أنه لم يختر من قلب هذا الشعب ومن ثم فهو لا يعبر عنه وإنما يعبر عمن اختاره وعينه وهو ممثل سلطة الاحتلال. إن العلاقات الدولية تقتضي بالضرورة شخصية قانونية دولية يتم تمثيلها والتعبير عنها فهل يتمتع العراق الآن بالشخصية القانونية الدولية؟ هذه هي المسألة الرابعة والأخيرة في هذا المقال. تقوم الدولة - أي دولة - على أركان ثلاثة: الشعب والإقليم والسلطة المستقلة ذات السيادة. ولا شبهة في أن الشعب العراقي ما زال موجوداً على أرضه وإقليمه وبهذا يتوافر ركنان من أركان الدولة. ولكن الذي لا شبهة فيه أيضاً أن دولة العراق فقدت ركن السلطة المستقلة المتمتعة بالسيادة وأن ذلك كله انتقل إلى سلطات الاحتلال وذلك يعني ببساطة ووضوح شديدين أننا لسنا في مواجهة شخص من أشخاص القانون الدولي وإنما نحن على أحسن الفروض أمام شخص قانوني ناقص الأهلية إن لم نقل فاقد الأهلية. * استاذ في كلية الحقوق جامعة القاهرة. مفكر قومي.