أثار تقرير الكونغرس عن تقصير أجهزة الاستخبارات الأميركية في توقع إرهاب 11 أيلول سبتمبر قبل سنتين، زوبعة أميركية ثم زوبعة عربية بعد اتهام سعوديين بمساعدة إرهاب القاعدة. التقرير في نحو 900 صفحة، وقد حصلت على نسخة منه، وأمامي تعليقات أميركية وأوروبية وعربية عليه، ربما في 900 صفحة أخرى أو أكثر. غير أن أهم ما في الموضوع لنا كعرب هو 28 صفحة لم تنشر عن الدور السعودي المزعوم في تمويل القاعدة. من اتهم المملكة العربية السعودية، أو مواطنين فيها؟ اتهمهم، بحسب اخبار الصحف الأميركية بما فيها "نيويورك تايمز" الرصينة "عدد من كبار المسؤولين الحكوميين الذين لم تذكر أسماءهم...". ومن دافع عن التعاون مع السعوديين؟ رئيس مكتب التحقيق الفيديرالي السابق لويس فريه الذي شهد أمام لجنة التحقيق من أعضاء الكونغرس بالقول انه استطاع "إقامة علاقة عمل فاعلة مع البوليس السعودي ووزارة الداخلية السعودية". أريد من القارئ الآن أن يقارن بين تهم يطلقها مسؤولون مجهولون، وموقف رئيس ال"إن بي آي" في حينه، وقد تابعت شخصياً زياراته السعودية بعد انفجار الخبر، ومحادثاته مع الأمير نايف بن عبدالعزيز، ثم أن يسأل نفسه كما أسأل نفسي هل المسؤولون المجهولون هم أولئك المحافظون الجدد من عصابة إسرائيل الليكودية الشارونية في الإدارة التي خططت للحرب على العراق، وتخطط لتدمير دول عربية أخرى؟ الكونغرس الأميركي كنيست باسم آخر، وقد كتبت غير مرة ولا يزال رأيي اليوم ان الكنيست أفضل من مجلسي الكونغرس الأميركي، فهناك نسبة كبيرة من السياسيين المعتدلين في الكنيست، أو من الأعضاء الذين يمكن التعامل معهم، من أحزاب العمل وميريتز وشينوي ومعهم الأعضاء العرب ولا توجد نسبة مماثلة في مجلس النواب الأميركي أو مجلس الشيوخ، بل هناك أعضاء ينفذون رغبات اللوبي اليهودي ضد مصالح بلادهم، ويفعل بعضهم ذلك عمداً، في حين يفعله أكثرهم جهلاً. الموضوع تضيق عنه كتب، إلا انني أكتب زاوية محدودة، فأرجو من القارئ أن يتذكر تعليقي في فقرتين على تقرير في 900 صفحة وعلى مثلها من التعليقات على التقرير نفسه، وأن يبقى معي وأنا أختزل له ملايين الكلمات هذه المرة عن الحرب على العراق وذيولها بست عشرة كلمة بالانكليزية، وردت في خطاب الرئيس بوش عن حالة الاتحاد في كانون الثاني يناير الماضي وترجمتها الى العربية الآتي: "علمت الحكومة البريطانية أن صدام حسين سعى أخيراً للحصول على كميات كبيرة من اليورانيوم من أفريقيا". الترجمة الى العربية جاءت صدفة في ست عشرة كلمة أيضاً، ولكن المهم في الموضوع انه كذب مطلق، وقد نفاه كل طرف له علاقة، من أجهزة الاستخبارات الأميركية نفسها، الى فرنسا والنيجر ووكالة الطاقة الذرية الدولية، وخبراء الأسلحة الممنوعة العراقيين المعتقلين. صدام حسين لم يكن يملك أسلحة دمار شامل، وبالتأكيد لا أسلحة نووية من أي نوع، ولم يكن يملك وسائل إيصال هذه الأسلحة لو وجدت إسرائيل التي تقودها حكومة من مجرمي الحرب تملك كل هذا. ومع ذلك فقد فوجئت قبل أيام بأن نائب الرئيس ديك تشيني يصر على كل كذبة أطلقت عن العراق قبل الحرب وبعدها. هذه المرة أمامي نص خطاب نائب الرئيس، وهو في بضع صفحات، وأجده عجيباً، فنائب الرئيس ينتقد الذين ينتقدون الحرب على العراق ويسأل: "كيف يمكن لقادة أصحاب مسؤولية أن يتجاهلوا تهديد العراق؟". نائب الرئيس الأميركي أهم من نصف دزينة رؤساء عرب، وأحاول أن أعامله باحترام، فأسأل كيف يمكن لقائد صاحب مسؤولية مثله أن يتحدث اليوم عن تهديد نظام احتل الأميركيون بلاده بالكامل ولم يجدوا شيئاً. أغرب مما سبق أن نائب الرئيس يستشهد بشيء اسمه "تقويم، أو تقدير، الاستخبارات الوطنية" الذي أصدره مدير الاستخبارات المركزية في تشرين الأول اكتوبر الماضي، وهو يختار من هذا التقرير، كما أسميه أنا، ما يزعم انه "أدلة" أربعة واردة فيه هي باختصار شديد، أولاً ان العراق مستمر في برنامج انتاج اسلحة الدمار الشامل، وثانياً ان جميع أوجه الابحاث والانتاج لهذا البرنامج نشطة وفاعلة، وثالثاً ان العراق منذ سنة 1998 واصل جهده لانتاج اسلحة كيماوية وعزز برنامج الصواريخ، ورابعاً ان التقرير أبدى "ثقة عالية" بمصادره من أجهزة الاستخبارات المختلفة. هل هناك من يصدق هذا الكلام؟ هل يصدق ديك تشيني نفسه؟ يا ناس، العراق محتل بالكامل ولم يوجد فيه شيء مما يتحدث عنه نائب الرئيس الأميركي فكيف يمكن الإصرار عليه؟ مئة محمد سعيد الصحاف لا يقدرون على هذا النوع من التلفيق. ما أقول هو أن نائب الرئيس ديك تشيني تحدث في معهد أميركان انتربرايز، أحد مراكز بحث عصابة إسرائيل في الإدارة الأميركية التي توصف ب"المحافظين الجدد" أو الصقور. وهكذا فأنا أعود بالقارئ الى كبار المسؤولين الحكوميين المجهولي الأسماء في تقرير الكونغرس الذي بدأت به، والحقيقة الوحيدة التي خلصت اليها وسط طوفان الكذب هي ان العراق مجرد بداية، فأترك القارئ مع ست عشرة كلمة بالانكليزية لعضو الكونغرس ريتشارد غيبهارت ترجمتها بكلمات أقل بالعربية: جورج بوش تركنا أقل سلامة، وأقل أمناً مما كنا قبل أربع سنوات.