إذا كان من الممكن اعتبار الأفلام المقدمة الى مسابقة مهرجان القاهرة التاسع للإذاعة والتلفزيون مؤشراً يساعدنا في التعرف الى الاهتمامات التي تشغل اصحابها، فهذا يعني أن قضية الصراع العربي - الإسرائيلي ما زالت تحتل مركز الصدارة في اهتمامات أصحاب السينما التسجيلية العربية، إذ بلغ عدد الأفلام المشاركة عنها 13 فيلماً، أي ما يقرب من ثلث مجموع أفلام المسابقة التسجيلية 61 فيلماً فيما تتوزع بقية الأفلام بنسب أقل على مواضيع مختلفة. ولعل المكانة التي تحتلها هذه القضية في السينما التسجيلية ترجع إلى تميز قدرة الصورة التسجيلية الحية غير المصطنعة في الحفاظ على حضور القضية في نفوس أصحابها العرب من ناحية، وإحياء وجودها خارجهم من ناحية أخرى، إضافة إلى قدرتها الخاصة على التعبير المباشر وغير المباشر عن وجهة النظر العربية، وتوضيح ما التبس منها، وذلك فضلاً عن قيمتها المبدئية التي تتمثل في أهميتها التوثيقية. ومن الممكن اعتبار ان كل الأفلام المشاركة - تقريباً - قامت بالوظيفة التوثيقية على نحو أو آخر. غير أن هذه المهمة وحدها لا تكفي. فالصورة تبدو أحياناً مكررة أو متشابهة أو تنقصها بعض الشروط الفنية جمالية أو تقنية، وهو ما يضعف تأثيرها وقد يفقدها قيمتها، ومن الملاحظ أن عدداً لا بأس به من أفلام هذه الدورة تجنب هذه المتابعة، بل ومنها ما يصبح نماذج جديرة بالتقدير، تمثل إضافة حقيقية الى رصيد السينما التسجيلية، تؤكد دورها في هذه القضية المصيرية، ونخص منها بالذكر ثلاثة أفلام يصور كل منها جانباً من المأساة: مأساة العمال على الحدود في فيلم "عمال وحدود" 20 دقيقة يتناول وائل أبو دقة مأساة العمال الفلسطينيين الذين يستجْدون العمل عبر الحدود لدى الإسرائيليين. يمهد الفيلم لمضمونه المأسوي في مشهده الافتتاحي بمنظرين يتداخلان، وتتكرر بعض مقاطعهما داخله، يصور أحدهما طوابير كثيفة من العمال محشورة داخل أنابيب المعابر المغلقة، يتجهون إلى الخلف في شبه وجوم بحركة شبه آلية، تؤكدها عدسة التليفوتو التي تضغط عمق المجال فتقرب بين خلفية الصورة ومقدمتها، ما يضاعف الإحساس بكثافة الجموع، بينما تقلل من الإحساس بحركتها الى الأمام والخلف. فتبدو الجموع في مكانها تقريباً على رغم حركتها الظاهرة وكأن لا جدوى من الجهد. كل ذلك مع آهات الموسيقى ما يوحي بالجو الكابوسي الذي يعانيه أصحاب هذه الطوابير. ويصور المنظر الآخر طَبقاً على الأرض، فيه طعام فقير، تمتد إليه أيادٍ عدة من كل اتجاه، تغمّس منه لقيماتها، هي أيادي أحد العمال وأسرته الكبيرة حول الطبق. من أجل هذه اللقيمات نرى ونسمع ما يعانيه العمال الفلسطينيون وهم يحاولون عبور الحدود ومع صور الانتظار وإجراءات العبور أو حركة العمال الفردية والجماعية، نلتقي بعضاً منهم. يقول أحدهم بتلقائية شديدة: "الواحد وهو رايح يشتغل عندهم زي اللي رايح يقول شهادة زور"، عبارة بليغة عن الحال المقلوبة، إذ يذهب للعمل في أرضه أجيراً لدى مغتصبها، وكأنه يقر للمغتصب بحقه في هذه الأرض، وفي لقاءات أخرى يعبر كل منهم عن وجوه المأساة. ولعل من أكثر الحكايات مأسوية، حكاية العامل الشاب، الوحيد الذي نجا من سيارة الموت التي كان فيها، على رغم إصابته، مع مجموعة من العمال. فمع أن السيارة مُنحت الموافقة على المرور، بعد اتخاذ الإجراءات اللازمة، لكنها ما كادت تتحرك حتى أُطلقت عليها النار التي اصابت السائق فانحرفت السيارة عن الطريق واصطدمت بصخرة، وأخذ العمال يصيحون نحن عمال حتى لا يطلقون عليهم النار، لكن أحد الجنود الإسرائيليين تقدم إلى السيارة وفتح بابها الخلفي وحصدهم جميعهم برصاص رشاشه وهم يواصلون صياحهم بأنهم عمال. وينقلنا الفيلم إلى أم أحد العمال - الذي اغتيل - واطفاله الذين كانوا ينتظرون عودته. عشرات الآلاف من العمال يذهبون يومياً إلى الحدود، ينتظرون الساعات، وقد يمتد الانتظار طوال اليوم من أجل أن يسمح لبعضهم بالعبور. بالأرقام يذكر أحد المسؤولين عدد العمال، الثلث فقط هم الحاصلون على تصاريح عمل، والبقية يُسمح لهم بالعمل من دون تصاريح عند الطلب، وهؤلاء هم الأكثر عُرضة للاستغلال، وكثيراً ما يتعرضون لضغوط الاستخبارات الإسرائيلية للتعاون معها في مقابل الحصول على تصاريح العمل. لماذا كل هذا الهوان؟ سؤال يقفز إلى ذهن المشاهد طوال متابعة الفيلم، وبعده، ولا بد من أن تليه أسئلة أخرى ومنها: إلى متى يمكن لهؤلاء الشباب تحمل مثل هذه المهانة، وضيق العيش، من دون أن ينفجروا؟! مأساة الأمهات "أجمل الأمهات"، 20 دقيقة هو عنوان الفيلم الذي أخرجه ناصر محمد لبنان ويقصد بالأمهات الأجمل، أمهات الشهداء الذين اجبروا المحتل الإسرائيلي على الانسحاب من جنوبلبنان، نرى الواحدة منهن بعد الاخرى تحكي عن ابنها الشهيد. أكثر من أم استشهد لها أكثر من ابن، بينهن أم استشهد لها أربعة من الابناء. مع حكي الامهات نجول بين أركان بيوتهن نرى ما تبقى من صور الشهداء الفوتوغرافية، وما تركوه في المكان من ذكريات أو أشياء تخصهم، أو نتابع مجموعات من أمثالهم وهم يصعدون الجبال بأسلحتهم أو يخترقون المزارع، أو يركعون في صلاتهم الجامعة بخشوع. ومن خلال مسيرتهم نمر بمناظر تكشف عن جمال طبيعة المكان، كما نرى الخرائب التي خلفها العدو الإسرائيلي، وفي مشاهد أخرى نلمس الاحتفاء بمواكب جنازات الشهداء، ونعوشهم محمولة على الأعناق، ونزور مع الأمهات مقابر الشهداء مع المرور على شواهد القبور نسمع أصواتاً تتلو مقاطع من رسائل الشهداء لأمهاتهم. عدد الأمهات اللواتي يقدمهن الفيلم غير قليل ولكل منهن حكاية، ليست ككل الحكايات، أم تحكي عن لحظة توديعها لابنها فيطلب منها أن يبقى أمره سراً، حتى لا تتعرض هي واسرتها للانتقام وتدس الأم صورة داخل ثيابها على الصدر تبكي عندما تخلو إلى نفسها، وأمام الناس تدّعي أنه ذهب للعمل في الخارج. وتحكي أم عن ابنها الذي حرص زملاؤه بعد استشهاده على إخفاء بعض ما تبقى من أدواته وثيابه تحت إحدى الأشجار، وتذهب الأم إلى الشجرة بعد انسحاب إسرائيل لتحصل على ما تبقى من اشياء ابنها وتأخذنا معها إلى الشجرة، إذ تعرض علينا بعض ثيابه التي مزقها الانفجار. ومنهن أم لا تعرف قبر ابنها الذي ذهب ولم يعُد... تزور قبور الشهداء، تقلب النظر في شواهد القبور لعلها تجد لابنها شاهدة، فلا تجد وتقرأ القرآن طالبة الرحمة للجميع. وخلف فرع شجرة يخفي وجه شاب، يحكي لنا عن حنان، وتشجيع أم الشهيد التي تستضيفه على الحدود، وتطلب منه مرة أن يعود إليه بحفنة من تراب الأرض التي استشهد عليها ابنها، وعندما تصلها حفنة التراب تقربها من أنفها وتشم فيها رائحة ابنها. لا نرى في الفيلم أمّاً تبكي، ولكن الوجوه يعلوها أسى دفين، وحزن نبيل يتوّجه الشعور بالسكتة التي يبثها إيمان ديني عميق، حتى ان إحداهن تستهين بمأساتها مقارنة بمأساة فاطمة الزهراء أم الحسن والحسين. دقات الطبول والموسيقى عامة تثير الإحساس بالرهبة التي تؤكدها حركة الصورة البطيئة أحيانآً في بعض اللقطات، ولم يكن هناك حاجة لظهور هذا العمل بأدائه الحماسي أكثر من مرة، ما قد يقلل من وقع الفيلم الذي يترك أثراً قوياً في نفوس مشاهديه بما تضمنه من مشاهد تميز عرضها بصيغة رصينة، أما الوجوه الصامدة الراضية المطمئنة لأجمل الأمهات، فهي وجوه لا تنسى. مأساة فتاة يهودية عن ميتشيل الفتاة الأميركية - اليهودية التي ذهبت إلى إسرائيل ضمن وفد من وفود الدفاع عن حقوق الإنسان يضم مجموعة من أميركا ودول أوروبية مختلفة، وأرادت أن تمنع إحدى الجرافات من هدم أحد البيوت الفلسطينية فجرفتها مع البيت، عنوان الفيلم "حرب ميتشيل" 15 دقيقة فراس عبدالرحمن فلسطيني. مع لقطات تعلوها مسحة زرقاء باهتة لأصابع فتاة رقيقة تضرب على مفاتيح الكومبيوتر، نسمع صوت فتاة تردد ما يكتب، انها مقاطع من رسائل ميتشيل التي دأبت على إرسالها إلى أمها في اميركا، ونعود إلى المنظر نفسه بين حين وآخر لنسمع مقطعاً آخر يبدأ معها ثم يمتد الصوت ليغطي بعض اللقطات التالية. تصور اللقطات ميتشيل وهي تحيط رقبتها بالكوفية الفلسطينية ضمن أفراد مجموعتها وهم يتحركون داخل فلسطين، ونرى معهم الدمار وعمليات هدم المنازل الفلسطينية ونراها وهي تمسك بمكبر للصوت تصيح في الجنود الإسرائيليين أن يتوقفوا عن إطلاق النار ناحيتهم فهُم وفدٌ اجنبي يعنى بحقوق الإنسان، أو نراها في مقابلة صحافية أو إلى جانب جرّافة تلوح لها بالتوقف عن مواصلة تدميرها للمنازل. تعبر رسائل ميتشيل إلى أمها عما تعانيه من شعور مؤلم لما تراه من بشاعة ما يفعله الإسرائيليون بالفلسطينيين، ما جعلها تشك في طبيعة البشر، وتكرر أكثر من مرة "أنا خائفة من الناس هنا" وتحكي لأمها عن الكوابيس التي تطاردها كلما نامت، ومنها كابوس رأت فيه الجرافات تجرف بيتها في أميركا. من الواضح أنه لم تتوافر فرصة تصوير حادث موتها بكاميرا السينما أو الفيديو، فيلجأ المخرج إلى الصور الفوتوغرافية المتوافرة التي سجلت الحادث وردود أفعال زملائها الذين أفزعتهم الفجيعة، واستطاع المخرج أن يجعل منها لفيلمه النهاية المؤثرة التي تفرضها المأساة الفعلية المزدوجة التي مزجت بين مأساة الفتاة اليهودية التي تناهض عدوان اليهود في إسرائيل ومأساة الفلسطينيين الواقع عليهم العدوان.