امتشق بندقية «أم 1» أميركية الصنع من زمن الحرب العالمية الثانية وسار في الجبال الوعرة على صهوة جواده غرب بلدة سلواد الفلسطينية. توقف تحت شجرة زيتون. راقب الحاجز الاسرائيلي. هيّأ سلاحه. تفحص الرصاصات. وعاد الى بيته مخلّفاً وراءه 11 جندياً إسرائيلياً ميتاً. إنه ثائر حماد منفذ عملية «عيون الحرامية» خلال الانتفاضة الثانية عام 2002، الذي تُعيده السينمائية الفلسطينية نجوى نجار الى الضوء في فيلمها الجديد «عيون الحرامية» المرشح باسم فلسطين لجائزة «الأوسكار». لكنّ الفيلم ليس عملاً وثائقياً عن عملية «عيون الحرامية»، بل فيلم روائي طويل، أطلقت المخرجة فيه العنان لمخيلتها، فحافظت على العملية وغيّرت في تفاصيل كثيرة متعلقة بالشخصية، لتشي بأمور تُرهقها عن المجتمع الفلسطيني الراهن بالاتكاء على رحلة أب يبحث عن ابنته بعد خروجه من زنزانته الاسرائيلية إثر 10 سنوات من الاحتجاز... وسرعان ما تكشف الحكاية سراً دفيناً يخبئه الوالد، ما يكشف في طريقه كثيراً من عورات المجتمع. «الحياة» التقت نجوى نجار في مهرجان القاهرة السينمائي حيث استُقبل فيلمها بحفاوة من الجمهور وسألتها عن ظروف التصوير تحت الاحتلال والأوسكار بين أمور أخرى: بداية، مبروك ترشيح فيلمك للأوسكار باسم فلسطين. ماذا يعني لك الأمر؟ - اهمية الأوسكار تكمن في كونه أعلى وسام يمنح لفيلم، بالتالي سيكون هذا الترشيح حافزاً لكثر ليشاهدوا «عيون الحرامية»، فما يهمني هو أنني أوصلت قصة فلسطينية وحكاية مقاومة وأموراً لا يريد الغرب مشاهدتها. ألم تخشي من «رومانسية المقاوم» كما اتت في فيلمك، خصوصاً ان إحدى اللقطات تصوّر حرص القناص على عدم التصويب على مستوطنة إسرائيلية، كان يمكن ان تكون فريسة سهلة في مرمى نيرانه؟ - مسموح لكل فرد تحت احتلال ان يدافع عن بلده بكل الطرق. في الماضي كان الكفاح المسلح مطروحاً. ولكن ماذا لو عادوا اليوم إليه. هل لهم الحق في ذلك أم لا؟ هذا هو السؤال الذي أردت طرحه ولا شيء سيُخيفني. اما بخصوص المستوطنة التي لم يُردها القناص، فليست من اختراعي، بل هذا ما حدث فعلاً مع ثائر حماد يوم أصاب الجنود الاسرائيليين ولم يصوّب بندقيته ناحية المرأة. تنازلات نفهم أنك لم تُقدمي على تنازلات معينة لمخاطبة الغرب كما يحدث في أفلام عربية أخرى؟ - كثر نصحوني بحذف مشاهد معينة من الفيلم ليصبح مقبولاً في الغرب، لكنني لم أرضخ. فأنا أعيش اليوم تحت الاحتلال في ظروف صعبة جداً مثلي مثل كثيرين في فلسطين حيث الأمل مفقود. كل يوم نسمع عن أناس يُقتلون وعن آخرين يُسجنون. وما من خيارات أمامنا. هناك اليوم اعتراف في العالم بأن الفلسطيني تحت احتلال، لكنهم يريدوننا ان نناضل على طريقتهم. في السينما صار هناك قبول للقصص الإنسانية الخالية من السياسة. ولكن ماذا لو أردنا التحدث في السياسة؟ السينما مساحة للحلم، فدعونا نحلم وليحاربنا من يريد أن يحاربنا. من يحارب نجوى النجار اليوم؟ - لا أريد ان أقول انني أحارب، لأنني لا أحب ان ألعب دور الضحية. أنا لست ضحية على الإطلاق. كل فيلم هناك من يحبه ومن يكرهه. السينما مسألة ذاتية جداً. في فيلمك الأول «المر والرمان»، نجحت في تقديم قصة إنسانية لم تخل من تسجيل أهداف في مرمى السياسة. لماذا اعتمدت المباشرة في فيلمك الثاني؟ - لا أرى ان هناك مباشرة في «عيون الحرامية»، بل هناك قضايا سياسية واضحة لأننا كفلسطينيين لم نعد نعرف من هو العدو ولم تعد لدينا خيارات، بالتالي صار لزاماً عليّ كسينمائية فلسطينية أن أقول الامور كما هي من دون مواربة أو خوف. أما تجربة «المر والرمان» فمختلفة، إذ كنت آتية حديثاً من الخارج وكنت أعرف كيف أخاطب الغرب كما يريد أن يسمع، وفي الوقت ذاته حرصت على أن أكون أمينة لقصصنا ولما يحدث. اليوم لم أعد كما كنت في السابق، بعدما اكتشفت اننا لم نستفد شيئاً من هذا كله. كما انه ليس جائزاً ان نثبت كل يوم إنسانيتنا، فهذا امر لا نقاش فيه. انا اليوم محمّلة بالقهر وأعيش هناك بلا أمل. ولك ان تتصوري ماذا يعني لسينمائي ألا يكون أمامه أمل. تحدثت الآن انك كفلسطينية لم تعودي تعرفين من هو العدو، ومن هذا المنطلق صوّب فيلمك سلاحه على عدوين: من الخارج (إسرائيل) ومن الداخل الفلسطيني. ألم تخشي الهجوم عليك؟ - تعرضنا لهجوم خلال عرض الفيلم في رام الله. وراح بعضهم يسأل من أقصد بكلامي. من هنا أهمية قصة العام 2002. فخلال الانتفاضة الثانية كنا نعرف أكثر من هو عدونا. اخترت أن يكون بطل فيلمك المقاوم «طارق» مسيحياً، علماً ان ثائر حماد الذي استوحيت منه القصة مسلم. لماذا؟ - القضية الفلسطينية طرحت في الغرب كقضية يهودية-إسلامية فحسب، ثم لا يمكن في نظرهم لمسيحي مرتبط عادة بالغرب أن يكون «إرهابياً»، علماً ان المسيحيين جزء من المقاومة في فلسطين ولبنان ومصر وسورية. ولا انكر ان مسألة تسليط الضوء على المقاوم المسيحي مهمة بالنسبة إلي في هذه الفترة بالذات، خصوصاً مع ما نسمعه من قصص «داعش» وما يحدث للأقليات ومحاولة تفريغ الشرق منهم. من هنا، من واجب السينما ان تظهرهم كي لا ننساق وراء التخلف، خصوصاً ان مجتمعاتنا يتآكلها المرض والعنصرية. صوّرت معظم لقطات الفيلم في نابلس في ظل ظروف صعبة، حدثينا عنها؟ - صوّرنا الفيلم خلال 25 يوماً بعدما كنا رصدنا له 45 يوماً، وذلك لظروف خارجة عن إرادتنا، ومنها مثلاً ما واجهناه من صعوبة في دخول خالد أبو النجا الى الضفة الغربية وارتباط سعاد ماسي بجدول حفلات. ثم حين تكونين تحت احتلال، لا يمكن ان تتوقعي ماذا سيحدث غداً. في نابلس فتح الناس لنا بيوتهم وكانوا مضيافين الى أقصى الحدود. لكنّ ما كان يحدث في مخيم بلاطة جنبنا لم يكن مطمئناً. وفي إحدى المرات سمعنا إطلاق نار، وحين سأل فريق العمل الوافد من آيسلندا عما يحدث، قلنا لهم: لا تقلقوا... هنا تطلق الأعيرة النارية في حفلات الزفاف. كل هذا حمّلنا مسؤولية كبيرة، إذ كان علينا ان نضمن سلامة الجميع. ولا شك في ان التحديات كانت كبيرة، لكنّ الجميع عمل بكثير من الحب، ما أضفى روحاً إيجابية على موقع التصوير. كوكتيل عربي انتقدك بعضهم على الكوكتيل المصري-الجزائري- الفلسطيني بإسنادك دوري البطولة الى الممثل المصري خالد أبو النجا والمطربة الجزائرية سعاد ماسي. لماذا كان هذا الخيار؟ - كان هدفي إيصال رسالة الى العالم أننا كعرب موّحدون. ثم ان خالد أبوالنجا ممثل عالمي، وأنا فخورة جداً بأن «عيون الحرامية» هو أول فيلم فلسطيني يستعين بنجم مصري بقيمة خالد ابوالنجا الذي تألق في الدور ولم يشعر الجمهور للحظة انه غير فلسطيني. ولكن، كيف تردين على من قال ان أبوالنجا ضاع في الفيلم بين اللهجة الفلسطينية والمصرية؟ - أعتقد ان خالد اشتغل شغلاً جباراً على اللهجة، وساعدته فيها لنا اسماعيل التي كانت متيقظة لأي هفوة. وهذا ما لمسه كثيرون، ومنهم أستاذة سينما فلسطينية توجهت صوبي بعد عرض الفيلم لتهنئني، مشيدة في شكل خاص بخالد، إذ قالت لي إنه لا يكتفي بالحديث مثلنا او السير مثلنا، بل هو واحد منا. وهناك طبعاً من يحب ان ينتقد، ولا أنسى، مثلاً، حين أتاني أحدهم لينتقد حركة قام بها خالد بيده، مشيراً الى انها حركة مصرية لا فلسطينية. فهل يعقل هذا؟ لماذا اخترت المطربة سعاد ماسي في أول دور تمثيلي لها؟ - كنت أبحث عن ممثلة نصف جزائرية لما تعنيه الجزائر بالنسبة الى القضية الفلسطينية، خصوصاً انها استطاعت ان تتخلص من الاحتلال. ووقع اختياري على سعاد كونها طبيعية وغير متكلفة، كما أن وجهها يحمل وجعاً أردته في فيلمي. إلى أي مدى كانت هناك صعوبة في العمل مع ممثلين غير محترفين؟ - أعتقد ان الكاستينغ هو الأساس، فحين تجدين ان الشخصية قريبة من تصوراتك للدور، يصبح سهلاً عليك استخراج ما لديها من طاقات. فأنا لا احب ان أعيد المشهد مراراً وتكراراً بل اترك الممثل على سجيته ليقدم ما لديه. حدثينا عن صعوبة العمل مع الأطفال، خصوصاً ان بطلة الفيلم لم تتجاوز السنوات التسع؟ - العمل مع الأطفال له تحدياته، فمثلاً لم نكن نصوّر معهم اكثر من ساعتين في اليوم، وكنا نحرص دوماً على ان يكون الجوّ مريحاً وألا نرهقهم. من جملة التحديات التي واجهتها، الى أي مدى يمكن القول ان كونك امرأة تعمل في السينما الفلسطينية شكّل تحدياً بالنسبة إليك؟ - أبداً، لم أرَ في الأمر تحدياً، بل على العكس لم تكن هناك مشكلة في كوني امرأة تعمل في السينما. حتى في البلد القديمة في نابلس كان الجميع متعاوناً الى أقصى حدود. دنوت من مسألة سرقة اسرائيل المياه الفلسطينية. الى ماذا ارتكزت؟ - استندت إلى معلومات استقيتها من خلال إجرائي وثائقياً عن المياه. حتى ان ما يفعله «طارق» في الفيلم من إيصال لشبكة المياه الى البيوت بعد إزالة ما يضعه الاسرائيليون من عوائق، استوحيته مما سرده لي أحد المهندسين في الخليل بعدما فتح أمامي درجاً مملوءاً بالجلود، وقال لي: «أنظري، الاسرائيلي يضع الجلود في شبكاتنا وانا أنزعها». هذه هي المقاومة، ولهذا لم انسه لأنه أقدم على عمل قد نراه بسيطاً، لكنه مؤثر جداً. هناك جرعة كاريكاتورية زائدة في الفيلم، خصوصاً من خلال شخصية «عادل» الفلسطيني الانتهازي. فهل قصدت ذلك؟ - كل الذين يقفون مع الاسرائيليين والأصوليين هم الكاريكاتور، اما البساطة وعدم التكلف فنراهما يخرجان من الناس الحقيقيين. الى أي مدى يزعجك تعبير «السينما الملتزمة» أو على العكس تجدين نفسك منتمية إليها كونك فلسطينية صاحبة قضية؟ - لا احب تصنيف السينما بهذه الطريقة. السينما لغة. والقصة في «عيون الحرامية» هي واقعنا، خصوصاً أن الاحتلال يولّد أمراضاً كثيرة. لكنّ الشعب الفلسطيني عظيم، اذ من الصعب ان تتماسكي وتحافظي على كرامتك عندما يكون هناك من يجهد في امتصاص دمك. فهناك من يدفع الثمن بحياته أو بأولاده ومن تنقطع عنه الماء ومن يتسمم، فإلى متى؟ هل تؤمنين بأن السينما قادرة على لعب دور في هذا المجال؟ - دائماً هناك أمل. ومع هذا لا أحب أن أفلسف السينما. فأنا احقق أفلاماً لأنني أحب الفن السابع. واستقدمت خالد أبو النجا لأنه يليق للدور ووجدت في سعاد ماسي روحاً كنت أبحث عنها... فإن استطعت في النهاية ان أوصل قصة فلسطينية وأن أجمع فلسطينيين ومصريين وجزائريين في عمل واحد، أكون قد حققت هدفي.