سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
"مقاوموها" شبان محافظون استفزتهم تصرفات الاميركيين أو موظفون سرحوا من وظائفهم . الفلوجة مدينة المساجد "تجلس" فوق برميل بارود وسكانها يتمنون "لو كان الانكليز الذين يفهموننا هنا"
توحي أرتال المدرعات والسيارات العسكرية الاميركية على امتداد الطريق الذي يربط بغداد بالفلوجة غرباً، ان الأرض هنا مسكونة بالتوتر، وأن هناك ما يشي بوقوع أحداث كبيرة، لكن معالم الطريق نفسه تحمل قدراً كبيراً من المفارقة، فعلى جدران سجن "أبو غريب" الذي يتوسط المسافة بين بغداد والفلوجة، والذي ضم في يوم من الأيام الآلاف من السجناء والمعتقلين، وشهد اعدام المئات من معارضي النظام السابق، شعارات مفادها "لا للاحتلال... نعم لصدام"، وعلى بعد بضعة كيلومترات فقط بقايا لوحات جدارية لصدام نفسه ارتفعت امام مبان لشركات حكومية تعرضت للسلب، واحترقت بعض اجزاء تلك اللوحات، و"فقئت" عينا الرئيس في واحدة منها على الأقل. وثمة شاهدة على الطريق كتب عليها "الوحدة العسكرية الرقم 10430" تحكي على استحياء قصة ايام الحرب الصعبة، فتلك "الوحدة" التي لم يبق منها سوى تلك الشاهدة الاسمنتية كانت مهمتها حماية بغداد. ومن المؤكد ان آلافاً من الجنود مروا من تحتها قبل ان يقتلوا او يحترقوا أو يختفوا... كيف؟ لا أحد يعرف! ومن المؤكد ايضاً ان عشرات الدبابات والمدرعات والعربات المجنزرة عبرت من أمامها... ثم إنكفأت واختفت آثارها على نحو مأسوي يثير الشفقة. لوحة المرور العريضة التي تتصدر مقدم المدينة انقصفت الى نصفين ربما بفعل قذيفة جامحة، نصفها الأسفل المكتوب بالانكليزية سقط على الأرض، وامتدت يد لتلقي به بعيداً، ونصفها العربي ظل صامداً ليعكس صورة المدينة التاريخية المقيمة على الفرات منذ عشرات الأعوام، وحتى قبل ان يحولها الوالي مدحت باشا الى واحدة من نقاطه الحصينة ومراكز حراسته ويمدها بالمتطلبات والخدمات التي يحتاجها المقيمون والمسافرون: الماء والطعام وأماكن المنامة ومراكز خزن البضائع، وكل ما يقود الى الاستقرار او يحقق الأمن ولا يستفز أهلها، ولعله يعطي بذلك درساً لمن سيأتي من بعده من الحكام والفاتحين، وإن كان التاريخ يروي ان احداً من هؤلاء لم يتعلم ممن سبقه الا بعد ان يسقط هو الآخر! أول ما يطالع من يدخل المدينة من شارعها العريض مشاهد الجوامع والمساجد المنتشرة التي توحي بحقيقة المدينة التي لم تتغير، اذ حافظت على ما يسميه علماء الجغرافيا "المركز الاجتماعي المنظم الذي تتماسك فيه ومن حوله بنية المجتمع"... هنا ينهض "المسجد - المركز" الذي لا يعطي لحياة الفلوجيين معنى روحياً فحسب، وانما معنى حياتياً ايضاً، فهي تضم 53 جامعاً تقام فيها الصلوات اليومية الخمس وصلاة الجمعة، و72 مسجداً مشرعة لمن شاء الدعاء أو اراد الغذاء او بحث عن المساعدة المادية. وهذا الارتباط الصميمي بالمسجد قلص العلاقة بالبنى المادية والاقتصادية مثل الجسور المشيدة والطرق المعبدة ومشاريع الارواء والأسواق الكبيرة، وجعل كل هذه المعالم تدور في اطار العلاقة بالمعلم الرئيس وهو المسجد، وتتخذ اوضاعها من خلاله. وهذا الطابع هو ما يميز المدينة ومدناً أخرى مثلها في غرب العراق، فهي لم تسمح لسوق أو لدكان صغير ببيع الخمور في أيما عهد سابق، وإن سكن فيها يهود ومسيحيون وصابئة إئتلفوا مع أهلها المسلمين السنة على نحو سليم، كما لم تستطع ان تهضم الفكر الماركسي - الشيوعي في زمن الزعيم الراحل عبدالكريم قاسم، وإن نشأ بعض قادة هذه التيارات على اطرافها وقربها. وفي زمن صدام حسين كان ينظر اليها على انها معقل للمسلمين السنة وموطن للتيار السلفي. وثمة ميزة أخرى لهذه المدينة، فأهلها يتجمعون في مواجهة الغرباء، ويتحصنون داخل مدينتهم في كل الظروف وبخاصة الصعبة منها. حين اقتحم الاميركيون المدينة ابراهيم علي عباس ضابط في الجيش برتبة نقيب يعمل الآن آمراً لقوة مجلس شيوخ عشائر الفلوجة يستقبلنا بالترحاب في أول مبنى رسمي يصادفنا عند دخولنا المدينة، ليفلسف لنا العلاقة مع الأميركيين الغرباء: "مشكلة الأميركيين معنا انهم اقتحموا مدينتنا من دون ان يتعرفوا إلينا جيداً، ومن دون ان يفهموا عاداتنا وتقاليدنا... واستفزونا بممارسات وسلوكيات غير مقبولة لدينا... وهكذا نشأ بيننا وبينهم سوء فهم غذته عناصر ومواقف واحداث... فلم يعودوا قادرين على الخروج من المدينة في سهولة ومن دون ان يفقدوا شيئاً من اعتبارهم ومكانتهم، كما انهم غير قادرين على البقاء والتآلف معنا أو التكيف مع عاداتنا... إن كلاً منا يشعر انه محاصر من قبل الآخر، وكلاً منا يخاف الآخر، ويحاول ان يتصدى له قبل ان يفتك به". ويشرح ابراهيم الوضع على الأرض: "تحدث يومياً مواجهات. يضرب جنود أميركيون وتدمر ناقلات وتحرق مدرعات. القذائف تصيب السيارات العسكرية ويفر المسلحون... في مثل هذه الحال لا احد يعرف الحصيلة اذ ان الأميركيين يغيرون المشهد بسرعة. يسحبون الجثث، وينقلون الجرحى في اسرع ما يمكن، ويسحبون الناقلة أو المدرعة المحترقة الى جهات مجهولة، واحياناً تمتد خراطيم المياه لتمسح بقايا الدم... ويختفي المشهد في سرعة". ويقول الحاج أبو محمد، وهو تاجر في السوق الرئيسة في المدينة: "حين دخل الأميركيون كانوا، والحق يقال، مهذبين، لم يبدر منهم ما يسيء الى السكان، ولم تحدث أي مواجهة. لكنهم حين استبدلوا بقواتهم قوات أخرى، بدأت المشكلات والاستفزازات، ويقال ان القوات الجديدة هي من المرتزقة، ويسميهم أهل الفلوجة "جنود الفرقة القذرة". حين يدخل بعضهم البيوت يسلب ما يجده من مال وذهب... حدث هذا اكثر من مرة، وأبلغ الضابط الاميركي المسؤول بهذه التصرفات وفي اكثر من حال أمر برد ما سرق... وعندما يدهمون منزلاً ما بحثاً عن مطلوب يطوقون المنزل بالمروحيات من الجو والمدرعات على الأرض، وينادون بمكبرات الصوت: اخرج يا مجرم خلال خمس دقائق، ويخرج المطلوب في غالب الحالات خشية عواقب تطول اسرته ومنزله، يضعون كيس النايلون على وجهه ويقيدون يديه من الخلف، ويدفعونه للانبطاح على الأرض... ثم يدخلون المنزل ليبعثروا الأثاث والحاجات والملابس ويفتشوا النساء، وهو أمر ترفضه تقاليدنا". في هذه الحال، وفي حالات اخرى مماثلة، يظل احتمال تعرض أبرياء للموت قائماً. ويروي الحاج أبو محمد كيف تعرضت عربة أميركية قبل أيام لقذيفة من مصدر مجهول... "حدثت ضجة وخرج بعض الناس من منازلهم ليراقبوا ما يحدث... فراس فوزي الصعب 35 سنة كان سيئ الحظ، اذ بمجرد ما فتح باب منزله جاءته طلقة أميركية وسقط على الأرض ميتاً أمام زوجته وطفله اللذين كانا قربه داخل حديقة المنزل... شك الجنود فيه وأطلقوا النار عليه من دون التحقق من الأمر. الضابط الأميركي أسف لما حدث. قال لهم: Sorry فراس مات... ماذا تنفع كلمة Sorry!". ويعلق النقيب ابراهيم علي عباس الذي رافقنا في جانب من جولتنا على المدينة: "نريد ان يزول التوتر بين الأهالي والأميركيين... ورجال العشائر يريدون ذلك. لكن ما يزيل التوتر ويحسن العلاقة هو تقديم الخدمات في سرعة، فالمدينة لا تزال بلا كهرباء أو ماء، والبطالة عامة، والكثير من ابناء المدينة هم من العسكريين المسرحين الذين لم يتسلموا رواتبهم منذ ثلاثة اشهر". ويسترسل ابراهيم محاولاً ان يوحي بأن الصورة ستكون أفضل في قابل الايام وان المدينة التي تمردت ستنعم بالهدوء وربما ستتوقف المواجهات شبه اليومية بين اهالي الفلوجة والأميركيين، ويقول: "مجلس شيوخ عشائر الفلوجة سيأخذ وضعه التنظيمي خلال ايام، ويباشر مهماته في ادارة الخدمات وحماية الأمن الداخلي والمحافظة على الأملاك العامة... والمجلس يضم ممثلين عن عشائر المدينة كلها التي تضامنت بعدما تحاربت في ما بينها اكثر من مرة في عهود سابقة... عشائر البو عيسى وزوبع والمحامدة والحلابسة والجميلة والجبور والدليم سيقدمون 36 عضواً من بين شيوخهم، وهؤلاء سيتفاوضون مع الأميركيين ويتناقشون معهم... وخطوة تشكيل المجلس مصرح بها رسمياً، ومطلوبة أميركياً في هذا الوقت بالذات، بعدما ازدادت اعمال المقاومة، وأصبح من الصعب على الجنود الاميركيين ان يقيموا في المدينة بأمان". ويرسم ابراهيم صورة الغد: "سيعمل المجلس على ضمان الأمن والاستقرار وعدم ضرب قوات التحالف وادارة المواجهة على نحو سلمي ومن خلال الحوار والتفاوض، وستنبثق من المجلس ادارات عدة للشرطة والتعليم وخدمات الكهرباء والماء وغيرها...". لكن نبرة التفاؤل التي يتحدث بها والخطط التفاوضية التي يعلن عنها لا تحظى بتأييد الكثير من الأوساط النافذة في المدينة. ويقول أبو حقي متقاعد ان "الأمر ليس بالسهولة التي يطرحها المتفائلون، اذ أجريت مفاوضات بين وجهاء المدينة والقادة الأميركيين الذين استمعوا باهتمام لمطالب الاهالي، لكن شيئاً لم ينفذ منها حتى الآن، والمطالب التي تقدم بها الأهالي هي ان يكف الجنود الاميركيون على الدخول الى الأزقة والشوارع الفرعية للمدينة لأن ذلك يستفز السكان ويثيرهم، خصوصاً أن الجنود دأبوا على القيام بتصرفات وسلوكيات غير مسؤولة. والمطلوب ان تتوقف حملات الدهم العشوائي الاستفزازية للمنازل واذا كان ثمة ما يستوجب التفتيش بحثاً عن مطلوبين او عن اسلحة فينبغي ان يتم ذلك بمشاركة قوات الشرطة العراقية وفي شكل يحترم خصوصيات المدينة وتقاليدها، كما ينبغي عدم التعرض للنساء او تفتيشهن، واذا دعت الحاجة الى ذلك فأن يتم التفتيش من قبل مجندات، وكذلك وقف الاهانات التي يوجهها الجنود الاميركيون عند تفتيشهم المنازل او اعتقالهم مشتبهاً فيهم، مثل تقييد الأيدي من الخلف او إجبارهم على الانبطاح على الارض او وضع اكياس على رؤوسهم. ومن المطالب الاخرى التي تقدم بها الاهالي اعادة تنظيم شرطة المدينة من العراقيين وتزويدهم مستلزمات العمل، وفي هذه الحال يمكن للقوات الاميركية ان تبقى خارج المدينة، واعادة تشغيل المعامل المتوقفة وتقديم الخدمات على نحو سليم، واعتبار ذلك مهماً لخلق الاستقرار سواء بالنسبة الى السكان او الى الأميركيين انفسهم". ومن الامور التي يشكو منها السكان تسرع الاميركيين في اتخاذ اجراءات عقابية اعتماداً على معلومات غير مؤكدة قد تصل اليهم، ربما بقصد توسيع الهوة بينهم وبين الاهالي. ويتردد ان معلومة سربت الى الأميركيين عن وجود تنظيم عسكري في المدينة يشكل امتداداً ل"حزب الله" في لبنان، وان هذا التنظيم يعمل على تصعيد المقاومة ضد الأميركيين والتخطيط لعمليات ارهابية ضدهم. ولم تتحقق القوات الاميركية من هذه المعلومة، بل انقضّت على المكان الذي زعم انه يشكل مقر التنظيم وقاعدته. ووفقاً لرواية شهود تم دهم المكان الذي ضم "فوج حماية المدينة" الذي شكّله بعد الحرب رجال دين واساتذة وطلاب المعهد الديني لمواجهة التسيب الأمني، وكذلك المنتدى الثقافي العلمي "الذي اسس لنشر الثقافة الاسلامية والتوعية الدينية في المدينة، واطلق بعض الجنود النار في الهواء، ثم ما لبثوا ان اعتقلوا الموجودين جميعاً بمن فيهم رجال دين معروفون، وتم ذلك بطريقة مهينة، اذ قيدت ايديهم من الخلف واجبروا على الانبطاح. وتم استجواب المعتقلين قبل ان يطلقوا بعدما اتضح كذب المعلومات المسربة. ومن الطبيعي، كما يقول أبو حقي، "ان تولد مثل هذه الممارسات، ردود افعال غير محسوبة تصب في محصلتها في خانة تصعيد المواجهة مع الاميركيين التي ربما اتخذت انواعاً من العنف والعمل المسلح". يضاف الى ذلك ان المدينة تضم الآلاف من المسرّحين من الجيش والاجهزة الخاصة تضرروا من قرار حل مؤسساتهم ودوائرهم وتسريحهم وعدم دفع مستحقاتهم المالية، وكان رد فعل بعضهم حاداً: "اذا قلت لك انني سأسكت أكون كاذباً... كلا... سأقاتلهم... لم أكن مع صدام ولم أرتكب جريمة ضد احد، فلماذا أطرد! أريد ان أعيش وأن تعيش أسرتي بكرامة...". مثل هذا الكلام يتكرر من شبان كان الشرر يتطاير من عيونهم، ولم يتوان بعضهم عن القول "ان عهد صدام كان أحسن"، على رغم ان أهالي المدينة لم يكونوا على وفاق تام مع النظام السابق، وعارض ضباط من عشائر مثل الدليم والجبور صدام وعوقب بعضهم بالموت وتعرضت عشائرهم للمضايقات. ويخرج زائر الفلوجة بانطباع ان الذين يقاومون الاميركيين في الفلوجة اليوم ليسوا من اتباع صدام او من الذين يطمحون الى عودته، والواضح ان من يقف وراء عمليات المقاومة مجموعات صغيرة لا تنتظم في حزب او تنظيم، ولا تجمع بينها خطط مركزية حتى على مستوى المدينة، وهم إما شباب محافظون متمسكون بتقاليدهم استفزتهم تصرفات الاميركيين وشعروا بالمهانة والذل وقرروا ان يقاتلوا، وإما متضررون دفع بهم الاميركيون الى التشرد والبطالة ولم يعد لديهم او لدى اسرهم من مردود ففكروا في الانتقام. وفي الحالين يبدو ان لدى هذه المجموعات المتفرقة كميات من الاسلحة والذخائر من بقايا سلاح جنود صدام الذي تناثر على الطرقات وترك في الشوارع اثناء الحرب بعد فرار الجنود. ولم يقلل بعض ثقاة المدينة من خطورة ما يجري، محذراً من انه اذا ما استمر الأميركيون في تحدي مشاعر السكان وعدم احترام تقاليدهم، واذا لم تحصل خطوات منظمة في اتجاه انهاء حال التسيب الامني وتقديم الخدمات المطلوبة للجمهور، فستشتد المواجهات، وقد يحصل نوع من الضغط الشعبي على العلماء ورجال الدين كي يقولوا كلمة "فتوى في مجاهدة الكفار"، فيما لا يزال رجال الدين وخطباء الجمعة يأملون "ان تكون المقاومة سلمية في هذا الوقت على الأقل". ويقول الحاج أبو محمد: "لو افتى علماؤنا بالجهاد لقاتلنا جميعاً... ليس شبابنا فقط وانما نحن الكبار ايضاً... حتى نساؤنا ستقاتل". لكن الحاج كمال شاكر إمام وخطيب جامع الحاج شاكر الضاحي في الفلوجة يؤكد اهمية ان يتوحد الجميع وان يعملوا بوحي الاسلام ويكفوا عن نشر الاشاعات الكاذبة وعن التشهير بالناس وعدم تخوينهم الا من خلال القضاء وبحسب القانون". تبدو مدينة الفلوجة 60 كلم غرب بغداد التي يقطنها ما يقرب من نصف مليون نسمة تقف فوق برميل، وأي شرارة قد تشعل النار. ويقول "أبو حقي": "لكي لا يظل الفلوجيون متوتري الاعصاب، وبلا عمل أو خدمات... ولكي لا يظل الاميركيون خائفين في شوارع المدينة وأزقتها وايديهم على الزناد، ينبغي العمل على ايجاد تسوية ما... لو كان الانكليز هنا لاختلف الأمر، فالانكليز اكثر معرفة بنا وأكثر خبرة في التعامل معنا...".