الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    ارتفاع الصادرات السعودية غير البترولية 22.8 %    برعاية ولي العهد.. المملكة تستضيف مؤتمر الاستثمار العالمي    بركان دوكونو في إندونيسيا يقذف عمود رماد يصل إلى 3000 متر    تهديدات قانونية تلاحق نتنياهو.. ومحاكمة في قضية الرشوة    لبنان: اشتداد قصف الجنوب.. وتسارع العملية البرية في الخيام    الاتحاد يخطف صدارة «روشن»    دربي حائل يسرق الأضواء.. والفيصلي يقابل الصفا    انتفاضة جديدة في النصر    مذكرة تفاهم بين إمارة القصيم ومحمية تركي بن عبدالله    استعراض مسببات حوادث المدينة المنورة    «التراث» تفتتح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض    المنتدى السعودي للإعلام يفتح باب التسجيل في جائزته السنوية    جامعة الملك عبدالعزيز تحقق المركز ال32 عالميًا    «الأرصاد» ل«عكاظ»: أمطار غزيرة إلى متوسطة على مناطق عدة    لندن تتصدر حوادث سرقات الهواتف المحمولة عالمياً    «العقاري»: إيداع 1.19 مليار ريال لمستفيدي «سكني» في نوفمبر    16.8 % ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية في الربع الثالث    «التعليم»: السماح بنقل معلمي العقود المكانية داخل نطاق الإدارات    صفعة لتاريخ عمرو دياب.. معجب في مواجهة الهضبة «من يكسب» ؟    «الإحصاء» قرعت جرس الإنذار: 40 % ارتفاع معدلات السمنة.. و«طبيب أسرة» يحذر    5 فوائد رائعة لشاي الماتشا    مشاكل اللاعب السعودي!!    في الجولة الخامسة من دوري أبطال آسيا للنخبة.. الأهلي ضيفًا على العين.. والنصر على الغرافة    في الجولة 11 من دوري يلو.. ديربي ساخن في حائل.. والنجمة يواجه الحزم    نهاية الطفرة الصينية !    السجل العقاري: بدء تسجيل 227,778 قطعة في الشرقية    السودان.. في زمن النسيان    لبنان.. بين فيليب حبيب وهوكشتاين !    مصر: انهيار صخري ينهي حياة 5 بمحافظة الوادي الجديد    اقتراحات لمرور جدة حول حالات الازدحام الخانقة    أمير نجران: القيادة حريصة على الاهتمام بقطاع التعليم    أمر ملكي بتعيين 125 عضواً بمرتبة مُلازم بالنيابة العامة    «واتساب» يغير طريقة إظهار شريط التفاعلات    ترحيب عربي بقرار المحكمة الجنائية الصادر باعتقال نتنياهو    تحت رعاية سمو ولي العهد .. المملكة تستضيف مؤتمر الاستثمار العالمي.. تسخير التحول الرقمي والنمو المستدام بتوسيع فرص الاستثمار    محافظ جدة يطلع على خطط خدمة الاستثمار التعديني    أسبوع الحرف اليدوية    مايك تايسون، وشجاعة السعي وراء ما تؤمن بأنه صحيح    ال«ثريد» من جديد    الأهل والأقارب أولاً    اطلعوا على مراحل طباعة المصحف الشريف.. ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة يزورون المواقع التاريخية    أمير المنطقة الشرقية يرعى ملتقى "الممارسات الوقفية 2024"    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    «كل البيعة خربانة»    انطلق بلا قيود    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين ونيابة عنه.. أمير الرياض يفتتح فعاليات المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة    مسؤولة سويدية تخاف من الموز    السلفية والسلفية المعاصرة    دمتم مترابطين مثل الجسد الواحد    الأمين العام لاتحاد اللجان الأولمبية يشيد بجهود لجنة الإعلام    شفاعة ⁧‫أمير الحدود الشمالية‬⁩ تُثمر عن عتق رقبة مواطن من القصاص    أمير الرياض يكلف الغملاس محافظا للمزاحمية    اكثر من مائة رياضيا يتنافسون في بطولة بادل بجازان    وزير الثقافة: القيادة تدعم تنمية القدرات البشرية بالمجالات كافة    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المقاومة في "المثلث السني"... ووثائق النظام السابق مختلطة بحياة البغداديين . عشائر الرمادي والأنبار المخترقة والثرية تقاوم الأميركيين الذين يعتقلون شيوخها ولا يستشيرونهم 2 من 5
نشر في الحياة يوم 11 - 11 - 2003

بعد ان تناولت حلقة الأمس في سلسلة تحقيقات من العراق مدينة الفلوجة ودور عدد من أبنائها في العمليات العسكرية ضد القوات الأميركية ومسألة تسرب الأفكار والدعاوى الاسلامية الى مساجدها وعشائرها تتناول حلقة اليوم الانتقال من هذه المدينة الى الضلع الثاني في المثلث السني أي مدينة الرمادي التي على رغم ان أهلها يشكلون امتداداً عشائرياً لسكان الفلوجة، لكن الرمادي أكثر هدوءاً من الفلوجة. والمدينتان اذ تشكلان العصب السكاني والعشائري والسياسي لمحافظة الأنبار، تتنافسان على ألقابٍ يصرّ سكان الأنبار على تصنيفهما بها.
جولة "الحياة" في مدينة الرمادي شملت إدارات رسمية ومكاتب حزبية وديوانيات لشيوخ العشائر الدليمية، وهدفت الى رصد التباينات العشائرية التي شكّلت في السابق نافذة للنظام القديم تسلل منها الى حياة ونظم العشائر، وهي اليوم أيضاً مرشحة لوظائف جديدة في حال قرر الأميركيون استعمال العشيرة في حربهم على مقاوميهم من بقايا النظام السابق ومن المجموعات المتسللة عبر الحدود.
يتحدث العراقيون بكثرة عن دور الصدام الأول بين الأميركيين وسكان الفلوجة في تحديد نوع العلاقة بينهما. فالعشائر وبسرعة تحولت الى بيئة معادية للأميركيين، ويعود ذلك بحسب الكثير من ابناء المنطقة الى جهل المسؤولين في الجيش الأميركي بالتركيبة المعقدة لنظام القيم العشائري. هذا النظام الضيق والواسع في آن كان من الممكن استثماره في حال اجاد الأميركيون اساليب التعامل معه. فالعشائر وحدات سياسية في هذا المجتمع الصحراوي، ولم يكن يحكم حراك هذه الوحدات ناظم من النوع الذي يسعى الأميركيون الى تكريسه.
لطالما هادنت العهود المتتالية هذه العشائر وأفسحت لكي تخضعها لأنواع من الأنشطة التي لا تتطابق مع قيم الدولة الحديثة. فيتحدث ابو حارث وهو من عشيرة المرسومي في منطقة ابو غريب شرق الفلوجة عن نوع العلاقة التي كانت تربط عشيرته بالنظام العراقي وتحديداً بصدام حسين فيقول: "شيخ عشيرتنا كان مؤيداً للنظام البعثي فمزارعنا قريبة جداً من مزارع صدام على طريق المطار. كنا مدعومين ومهددين في آن. فلاح ومدعوم فلا بأس من قرص اذنه قليلاً. كان صدام في شهر رمضان يقيم افطارات لعشائر المزارعين المحيطين بمزارعه فيهدي مشايخها اسلحة وتهديدات في آن". انها معادلات صغيرة ولكن لا بد من العمل بموجبها في مجتمع العشائر هذا. انه المجتمع الذي يطفو على سطح الحياة الجارية فيه قدر من الشكليات التي لا يمكن تفاديها. الجنود والضباط الأميركيون يُبدون جموداً حيال هذه الأوضاع تضاعف من مأزقهم. يُطلق عليهم النار من منطقة فيقومون باعتقال رجال العشائر من دون توسيط شيوخهم، ويحققون مع هؤلاء فيحارون بالأجوبة.
حيرة الأميركيين
كائنات البادية لا يجيبون بصراحة على اسئلة المحققين، يقول ضابط أميركي بدا حائراً من تشابه الأجوبة ويضيف "جميعهم يدعون انهم فقراء ونحن جئنا لنساعدهم على تجاوز فقرهم، وقد فرغنا ثمانية ضباط لمساعدتهم عبر اصلاح المدارس وشراء مولدات للماء والمستوصف". تحدث الضابط بحيرة ولكن بصرامة من يريد ان يفرض قانونه مهما كانت النتائج. واشارة الضابط الى فقر رجال العشائر تنم عن جهل فعلي بالمنطقة وبسكانها، الا اذا كان يقصد فقراً بنيوياً لا مادياً، فمن العلامات التي يشار فيها الى عشائر الأنبار هو ذلك الرخاء الفعلي الذي يعيشونه وثمة تعبيرات غير منسجمة ولكنها دالة يسوقها السكان في معرض حديثهم عن اوضاعهم الاقتصادية، فيقول ابو حارث "نحن في منطقة تعبانة ولكنها غنية. منطقة زراعية واسعة، ومنطقة حدودية تتيح التهريب الى ثلاث دول". وطبعاً الرخاء الذي يشير اليه الكثير من الذين يتناولون الفلوجة والأنبار يعوزه الكثير حتى يصبح رخاء، انه حال من الانفراج الاقتصادي الذي رسى على قاعدة من التخلف التنموي ومن التوزيع غير الطبيعي للثروة. غنى العشائر الذي لم يترافق مع نمو في اي معدل اقتصادي، والذي لا يشكل اساساً لتقدم على اي صعيد.
لا تقتصر المواجهات بين الأميركيين وسكان الأنبار على مجموعات تغير على المواكب والمواقع، اذ استدرج الأميركيون العشائر الى مواجهات شاملة معهم. عشيرة البوعيسى قُتل اربعة من ابنائها في المواجهات الخاطئة في الفلوجة بين الأميركيين وعناصر الشرطة العراقية. والقتلى الأربعة هم طبعاً من عناصر الشرطة العراقية، وعشيرتهم اعتبرت ان استهدافهم من الأميركيين لم يتم من طريق الخطأ، وانما كان متعمداً، فراح شيخ العشيرة يحرض على قتال الأميركيين، وإمعاناً في سوء الفهم قام الأميركيون باعتقاله هو وابنائه الأربعة مما حوّل العشيرة كلها الى وحدة مقاتلة. فيبدو ان الضابط الأميركي المسؤول عن اعتقال الشيخ يجهل ان اعتقاله في عرف العشائر مس بكرامة العشيرة وبسمعتها بين العشائر وهو الأهم مما يستدعي شحذ الهمم لاستعادة الكرامة.
الأميركيون يعملون على ما يبدو في الأنبار من دون وسائط محلية، الضابط القادم من اميركا مباشرة في مواجهة شيخ العشيرة الذي يحتاج التعامل معه خبراء انتروبولوجيا. عشيرة البوعيسى هي اليوم العدو الأول للأميركيين في منطقة الأنبار. يلفظ اسمها الجنود الأميركيون ممدودة كما يلفظون اسم صدام او بن لادن.
الريف المختلف
يميز ابناء منطقة الأنبار بين الفلوجة وبين ريفها الأشد عشيرية وعداء للأميركيين منها. ويبدو ان الفلوجة هي مدينة هذا الريف، فسكانها جميعهم هم فروع لعشائر قدمت الى المدينة من البادية القريبة، اي من القرى التي ليست قرى بقدر ما هي تجمعات عشائرية يطلق عليها اسم العشيرة التي تستوطنها. فهناك قرية بني زيد وهي الاكبر، وقرية بني تميم وقرية عشائر زوبع. كما ان المدينة نفسها تضم احياء نقية الانتماء لعشائر محددة. أما اشهر عشائر الفلوجة فهم اضافة الى الدليم هناك عشائر البوعيسى والجميلة والمحامدة والفلاحات والحلابسة والكبيسات وعشائر زوبع.
اشتدت قبضة النظام العشائري على المجتمع الأنباري بعد سقوط النظام في العراق. انها ملاحظة سيدة من الفلوجة تعمل في شركة في بغداد، علماً ان هذه السيدة تؤكد ان الفترة التي سبقت السقوط لم تكن فترة تخفف من النظام العشائري. فالمرأة في البيئة الأنبارية مثلاً لا يمكن ان تتزوج الا ابن عمها، وان اختلف ابنا عمين حول الزواج منها، غالباً ما يفضل والدها ابقاءها في المنزل من دون زواج منعاً لخلافات داخل العائلة. وتضيف السيدة ان مسألة تعليم المرأة في الفلوجة صعبة جداً وأنها لا تعرف أياً من مجايلاتها تمكنت من الوصول الى الجامعة.
هذه الأعراف والقوانين اكتسبت قوة جديدة بفعل حال الطوارئ التي يعيشها ابناء العشائر وصار من الصعب حصول تجاوز طفيف لها كما تؤكد السيدة. سيدة اخرى شيعية من جنوب العراق ولكنها متزوجة من رجل في الفلوجة قالت: "انا من الوسط، وعشائر الوسط لا يقبلون بالزواج من خارج العشيرة، لكن والدي رجل متعلم وتحدى عائلته وزوجني، وعندما انتقلت الى الفلوجة وجدت ان الأمر هنا مختلف، فهم مؤمنون ايماناً فطرياً وملتزمون بتعاليم الأسلام الأولى، لا اجتهاد ولا خلافات او انقسامات".
الطريق بين الفلوجة والرمادي تمتد لنحو مئة كيلومتر الى الغرب، وبين ضلعي المثلث السني تقع منطقة الخالدية التي لطالما شهدت بدورها اعمالاً عسكرية. السائق يفضل على ما يبدو ان يسلك الطريق القديم على الأوتوستراد السريع.
المسافة بين المدينتين
العراقيون يفضلون الطرق المأهولة على تلك الأوتوسترادات الصامتة، التي تعبرها السيارات مسرعة فيما ركابها يطأطئون رؤوسهم كلما شعروا ان سيارة اخرى تمشي وراءهم. فالطريق السريع هذا هو عينه الذي يشهد عمليات ال"تسليب" اليومية، وسلوك الطريق القديم ربما جعلنا بمنأى من ال"سليبة" الذين غالباً ما يكونون من سكان القرى الواقعة على الطريق القديم، وهم بطبيعة الحال يرغبون في الأبتعاد قليلاً من قراهم لكي يباشروا عملياتهم. ولكن للطريق القديم محاذيره ايضاً، فالسيارات تسير عليه متباطئة، وهو يخترق القرى والبلدات، واحياناً يحاذيها، وهؤلاء السكان هم اليوم في حال حرب مع الأميركيين، ومن المحتمل ان يصادف العابر عملية عسكرية قد لا ينجو منها، خصوصاً ان الدوريات الأميركية كثيفة، وكثيراً ما تضطر السيارات العابرة الى مرافقة هذه الدوريات لدقائق طويلة وثقيلة حتى تلوح فرصة لتجاوزها.
المنازل الكبيرة والقصور على جانبي الطريق يبدو انها بنيت بقدر من الارتجال لا يناسب اكلاف بنائها. مئات من هذه القصور بنيت بمحاذاة الطريق تماماً. وبمحاذاة الطريق ايضاً ركنت خزانات نفط معدنية عملاقة يقول السائق ان اصحابها هم سكان هذه المنطقة الذين ازدهرت اوضاعهم في السنوات العشر الأخيرة بفعل اتفاق النفط مقابل الغذاء، فبدل تهريبهم المواشي الى الدول المجاورة وهو ما كانوا يفعلونه في السابق، شرع ابناء العشائر المقيمون في هذه المنطقة بتهريب كميات من النفط ضمن منطق التسوية عينها بين العشائر ورجال النظام الى الدول المجاورة. وهذه الخزانات المعدنية المركونة الى جانب الطريق هي احدى محطات التهريب هذه، والقصور والفيلات التي تنتصب خلفها هي احدى ثمرات هذه التجارة، فقد تحولت كميات النفط التي تفيض عن الكميات المسموح تصديرها ضمن اتفاق النفط مقابل الغذاء الى مشاع يوزعه النظام على مؤيديه في الداخل والخارج ويترك لهم حرية ايجاد وسائل التصريف. وربما حمل اجتماع هذه الخزانات المعدنية والقصور والفيلات مع تزايد الأعمال العسكرية على هذه الطريق دلالة رمزية تسهم في توضيح جوانب من قضية رفض سكان منها الأنقلاب الذي حصل بفعل سقوط النظام.
الرمادي أكثر هدوءاً
الرمادي اقل اكتظاظاً من الفلوجة، وهي بدورها تشاطئ الفرات وتمتد خلفه، ولا بد للداخل اليها من عبور جسر يدفعه مباشرة الى مستديرة على مدخلها، هناك حيث اتخذ الأميركيون من مبنى رسمي مركزاً لهم. وفي الرمادي ايضاً انتشار ملحوظ لعناصر الشرطة العراقية الذين تولوا تنظيم السير وحراسة نقاط تقاطع ومؤسسات رسمية. للأميركيين اكثر من موقع داخل المدينة، والجنود منتشرون في مواضع مختلفة منها. في مركز المحافظة يقفون الى جانب رجال الشرطة العراقية. الرمادي اكثر هدوءاً من الفلوجة، والجنود الأميركيون يستطيعون الظهور والأنتشار في شوارعها. انه الانطباع الأول. الشرطي العراقي الذي رافقنا الى مبنى المحافظة تحدث عن "المجاهدين"، وقال ان هدفهم اخراج الأميركيين، وهم لا يستهدفون عناصر الشرطة. الرشاش الذي بيده كان مهشّماً، واشتكى من الغلاء الذي دفعه الى التطوع في الشرطة على رغم المخاطر.
أما مقدم الشرطة في المحافظة فكانت شكواه من نوع آخر، فهو تحدث عن قلة السلاح والعتاد الذي في حوزة الشرطة وعن الصلاحيات المحدودة المعطاة لقادتها، وتساءل عن كيفية انجاز المهمات الأمنية في ظل هذا الواقع وقال: "نحن لسنا مسؤولين عن الأمن، الأميركيون هم المسؤولون ونحن نساعدهم. لا يمكن لهذه المعادلة ان تنتج امناً، فنحن ابناء المنطقة ونحن من يجب ان يتولى الأمن. كيف لي ان ألاحق المخلين بالأمن في حين يمتلك من الاحقهم اسلحة وسيارات تفوق التي في حوزتنا؟". اما إمام المسجد المجاور لمركز الشرطة فقال انه يدعو للجهاد السري "الذي يوفر على المؤمنين مشقة التعرض للاعتقال واذلال المحتلين".
واضاف رداً على سؤال عن مدى صحة الأخبار المتعلقة بوجود مقاتلين عرب بين "المجاهدين" العراقيين اكد ان هؤلاء في حال وجدوا فلن يظهروا في المساجد وانما يختبئون في اماكن اخرى في المدينة.
ولكن على رغم شكاوى ضباط وعناصر الشرطة تشعر اثناء تجولك في الرمادي بتواطؤ ما بين عناصر الوضع الراهن ارسى شكلاً هادئاً للحياة. فالرمادي عاصمة الأنبار وهي ضلع اساسي في المثلث السني وفي محيطها يعيش الأميركيون حالاً من القلق والاستنفار الدائم، ولكن وفي موازاة ذلك افتتحت احزاب عراقية جديدة مراكز لها في الشوارع الرئيسية من المدينة وكتبت لافتات تعرف فيها. بالقرب من مسجد صدام الكبير مركز لحركة الوفاق الوطني التي يترأسها عضو مجلس الحكم اياد علاوي، وفي مقابله مركز لحركة القوميين الديموقراطيين العرب، وفي موضع آخر مركز للحزب الأسلامي وهو تنظيم متفرع عن الأخوان المسلمين يترأسه عضو مجلس الحكم محسن عبدالحميد. ولكن لا يبدو ان لهذه الأحزاب اي عمق اهلي في المدينة، فمراكزها بأستثناء مركز الحزب الاسلامي خاوية، والأعضاء الموجودون اشبه بموظفي استعلامات. في مكاتب حركة القوميين الديموقراطيين العرب التي كانت احد مراكز حزب البعث، رجال قليلون الأرجح ان معظمهم انضم الى الحركة أخيراً. لا يعرفون تواريخ كثيرة لحركتهم سوى انها تأسست في الأربعينات، وصورة عبدالناصر وهو يرتدي بدلته الزرقاء ورافعاً يده، بدت عتيقة، وقال الرجل الجالس خلف مكتبه انهم جاءوا بها من منزل رجل مسن كان يحب عبدالناصر واخفى صورته طوال فترة حكم البعث في المدينة. والناصريون هؤلاء غير منسجمين كثيراً في تناولهم لوضع العراق اليوم. الجو العام رافض للاحتلال الأميركي للعراق، بعضهم يسمي العمليات مقاومة وجهاداً وآخرون حائرون، ولكن عدداً منهم افصح عن انتمائه السابق لحزب البعث وعن جهلهم بما تكشف لهم من فظاعات كانت ترتكب في غفلة منهم. فقال المسؤول الجالس خلف المكتب "انا كنت من مؤيدي صدام، فقد سبق ان حرك فيّ مشاعر قومية اثناء قصفه اسرائيل ودفاعه عن العراق في الحرب العراقية - الأيرانية، ولكنني ومنذ سقوطه وانا اكتشف يوماً بعد يوم فظاعة ما ارتكب". من الصعب تقدير ما يمكن ان تمثله هذه الولاءات القديمة في البيئة السنية العراقية الآن، فهي إضافة الى ضعفها وتلاشيها خارج العراق، عاشت اوضاعاً خاصة في العراق. انهم قوميو العراق غير البعثيين الذين شكلوا في خمسينات وستينات القرن الفائت احدى ركائز العمل السياسي في الوسط السني العراقي، وفي ظل الفراغ الهائل الذي خلفه سقوط النظام البعثي في هذا الوسط يسعى هؤلاء الى لعب دور جديد، ولكنهم على ما يبدو في سباق غير متكافئ بالمرة مع اجواء اسلامية زاحفة الى هذا الوسط من كل حدب وصوب. رفض الاحتلال الأميركي هو الحد الأدنى الذي من المفترض على احزاب من هذا النوع ان تستجيب فيه للمزاج العام السائد في هذه البيئة، وهي استجابة غير غريبة عن المزاج التقليدي لهذه القوى. ولكن الفراغ الذي خلفه سقوط البعث لا يمكن اولاً لهذه القوى المنهكة والمتنازعة الأفكار والأهواء ان تملأه، وهو ثانياً لا يملأ بأدوات غير امنية، فالسياسة في مجتمع حطمته الحروب الأهلية والاقليمية المستمرة لا تجد قنوات لها الا عبر المنظمات الأمنية والعسكرية. انه المأزق الذي تعيشه ايضاً قوى من نوع آخر تستجيب لجزء من المزاج السني العام الذي ينحو في اتجاه اسلام حركي، ولكنها لا تستجيب لميول استئناف تحريك الجماعات عبر الخيار الأمني "الجهادي"، كالحزب الأسلامي الذي ولد من رحم تنظيم الأخوان المسلمين في العراق، ولكنه بعد سقوط النظام، قَبل بالأنخراط في الحياة السياسية الجديدة من خلال دخوله الى مجلس الحكم الموقت. فزيارة قصيرة لمركز هذا الحزب في الرمادي يمكن خلالها ادراك حجم الأرباك الذي يعيشه مسؤولو هذا الحزب ومناصروه في مجتمع الرمادي. فهذا الحزب الذي تأسس في العام 1960 وعمل في العلن حتى العام 1968 وهو تاريخ الأنقلاب البعثي، يُظهر مسؤولوه قدراً من الأرتباك خلال تحدثهم عن برامجهم الجديدة. مسؤول الحزب في المدينة تحدث بما يشبه دفاعاً عن النفس قائلاً: "نحن حزب سياسي علني شعارنا نعم للتفاهم ولا للتصادم. اخترنا طريق الحوار السلمي والجهاد السياسي سبيلاً لتحقيق ما ننشده وغيرنا اختار طريقاً آخر. لا ننكر على الآخرين اختيارهم ولا نرغب في ان ينكروا علينا اختيارنا".
يشكل الشيخ ماجد علي سليمان وهو شيخ مشايخ الدليم في الرمادي والأنبار اختراقاً نادراً للأميركيين في اوساط شيوخ العشائر السنة في غرب العراق. لكن نجاحهم في استمالة الشيخ لا يعود اليهم وانما الى خلاف الشيخ ماجد مع الأجهزة الأمنية العراقية خلال فترة حكم البعث وهو ما ادى الى فراره من العراق الى الأردن مع عائلته واقامته في ضيافة الدولة الأردنية منذ العام 1996 وحتى سقوط النظام. عاد الشيخ ماجد الى الرمادي فور سقوط النظام وكان في استقباله اشقاؤه الذين تولوا المشيخة في فترة غيابه. في ديوانه الواسع الذي تحيط به مجموعة من الفيلات التي تخصه، يستقبل الشيخ يومياً عشرات المراجعين من ابناء العشيرة. الديوانية العشائرية قديمة ومتآكلة، وبما ان الشيخ عاد لتصدر العشيرة فهو باشر بناء ديوانية تليق بنفوذه الجديد. الجلوس في حضرة الشيخ وبين ضيوفه يُمكن من تحسس بعض وجوه العيش في هذه المنطقة. ففي الديوان تضعف الرقابة التي تمارسها العشائر على افرادها وعلى المقيمين في قراها ومدنها. تحل قوة الشيخ محل قوة التقاليد والألتزامات العشائرية والدينية. انواع كثيرة من المراجعين والزوار. بعضهم يجلس صامتاً وآخرون يستل الشيخ نظارتيه ليدقق بأوراق احضروها له. الديوان عار والشيخ يعتذر عن استقبالنا فيه نحن الذين وصلنا قبل انجازه بناء الديوان الجديد. ويبدو ان شيخ الدليم في الرمادي في صدد بناء منزل جديد ايضاً راح يؤشر عليه، مما يشي بأن فترة هروبه من العراق لم توقف عائدات المشيخة. ويقول الشيخ ماجد "انا شيخ الدليم في كل العراق، عشيرتي يبلغ تعداد افرادها نحو ثلاثة ملايين، وجميعنا ضد صدام حسين". ورداً على سؤال حول استمرار شيوخ عشائر الأنبار في تأييدهم للنظام السابق يؤكد ان من يؤيد هذا النظام هم "شيوخ التسعينات" اولئك الذين عينهم صدام حسين مشايخ في فترة اعادة الأعتبار للعشيرة في التسعينات وراح الشيوخ القدماء يسمونهم مشايخ التسعينات. ولكن تبديل المراتب وخلطها واعادة انتاجها اصاب العشيرة ايضاً، فصار من الصعب التحقق من مشيخة ومن كمال المشيخة وعمومها العشيرة كلها، فشيوخ التسعينات هؤلاء تمكنوا في الفترة التي حكموا فيها عشيرتهم من تأسيس نفوذ فعلي لهم فيها، عبر شبكة المصالح التي ربطتهم بالنظام، في حين استمرت شرعية الشيوخ الذين اقصوا، ولكن استمرارها ترافق مع وهن في قدرتها على ادارة مصالح العشيرة، فتبوأ الشيوخ الجدد ونشأت ثنائيات كثيرة في الزعامة العشائرية التي تعتبر التشكيل السياسي الوحيد لمجتمع غرب العراق اليوم.
هذه الوقائع تصعب التوقعات المرتبطة بتحديد موقع العشيرة ومدى تأثيرها في مجريات الأحداث لكنها لا تلغيها. ففي حديث مع احد ضباط الشرطة العراقية الذي يتولى حماية انابيب النفط التي تمر من مناطق عشائرية مختلفة في العراق يقول: "هناك عقود حماية وقعت مع شيوخ العشائر، واثار توقيعها بعض المشكلات، فمن المفروض وبموجب هذه العقود ان يتولى شيوخ العشائر التي تمر فيها انابيب النفط حمايتها مقابل ثمن مدرج في العقد، ويرى شيوخ هذه العشائر ان من الأفضل توقيع هذه العقود معهم مباشرة وليس من طريق وسيط، كما ان بعض هذه العقود تأخر توقيعه مع عدد منهم وتركت الأنابيب من دون حماية فتعرضت للتفجير مما ترك المجال لآخرين لاتهام هؤلاء الشيوخ بالضلوع في تفجيرها لأستعجال توقيع العقود، ويقال ايضاً ان هناك منافسين لهؤلاء الشيوخ في عشائرهم يريدون اظهار ضعف هؤلاء وعدم قدرتهم على حماية هذه الأنابيب". اذاً هذه العشائر هي حقائق امنية ايضاً في العراق، وهم في غربه، إضافة الى ذلك وسائط سياسية واقتصادية. ولا بد للجالس في حضرة شيخ الدليم من ملامسة الوظائف المتنوعة المنوطة به، ولكن في المقابل يمكن لجولة قصيرة في المدينة استشعار عدم اجماع دليمي عليه، اذ اتهمه صاحب متجر في المدينة بأنه يساعد الأميركيين ليساعده هؤلاء في تجارته عبر الحدود.
يتحقق زائر الأنبار كل يوم من اختلاط الخيوط المفضية الى اضطراب الأوضاع الأمنية وتعقدها. فالتمييز بين المقاومة العشائرية والبعثية والأسلامية يفقد معناه في ظل اسلمة البعث او تبعيث الأيمان في السنوات العشر الأخيرة، والبعث ايضاً اعاد الأعتبار في الحقبة نفسها للعشيرة، والعشيرة بدورها بيئة غير غريبة عن الدعاوى الأسلامية.
لكن ما يتحقق منه زائر الأنبار ايضاً هو ان هذه الأتجاهات الثلاثة تعمل على خط حدودي وتتمتع بعمق سبق ان شقت طرقاً كثيرة اليه، بدءاً من طرق تهريب المواشي ثم النفط والغذاء، وما بينهما من تهريب للأفكار والدعاوى. ويبدو ان تمكن الناشطين من طرقهم الكثيرة دفع بهم الى حمايتها بالدماء. فهم وبعد مداهمات اميركية لبعض الطرق التي كانوا يحسبون ان غير العراقي لا يمكن ان يصل اليها، قاموا بأغتيال بارد لقائد شرطة القائم الحدودية المقدم رشيد العليوي امام منزله في مدينة القائم على الحدود الأردنية - العراقية، بعدما اتهموه بأعطاء الأميركيين خريطة طرق التهريب.
* غداً حلقة ثالثة، عن بغداد وقناع الوحدة المهشم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.