هذا الكتاب ليس قصة رعب. نتوقع دائماً ألواناً من التعذيب تصدمنا وتبرّر اعتقادنا في وحشية الدول البوليسية، وإذا بنا نتواطأ معها، لمجرد توقعنا التعذيب بحدّ ذاته، ونرى وضع الناجي فيه مخفّفاً. لم يعدم البطل أو يعذب، لكنه بات ملكاً لنزوات السلطة بحياته وموته فقال "لا" في أول فرصة. "جدار بين ظلمتين" الصادر عن دار الساقي، بيروت، لبلقيس شرارة ورفعة الجادرجي شهادة من سجين سياسي روى تجربته من داخل السجن وخارجه وهي تتضمن "موقفاً سياسياً واضحاً يستنكر أي نوع من السلطوية على ارادة الإنسان سواء كانت من مصدر علماني أو ديني" الصفحة 13. "العراقي مستلب الإرادة" يقول الجادرجي في مقدمته "ومعرض للإهانة في مختلف سجالات عيشه و معظم أفراد المجتمع، كل من موقعه، يهين ارادة الفرد الآخر ويستلبها". الجديد في الشهادة الجديدة التي تنضم الى أدب السجون ان بطلها لم يستأثر بكل الضوء، الذي يعني الظلمة بكل سوادها هنا، بل أعطى دوراً للزوجة على الجانب الآخر من الجدار. كتب كل من الزوجين على حدة وإن استرجعا بعض الأحداث معاً منذ بدايتها العبثية في أواخر 1978. عنصران من قوات الأمن يقصدان منزل المهندس رفعة ابن السياسي المعروف كامل الجادرجي. يصطحبانه بحجة الاستفسار عشرين دقيقة فيبقى في السجن عشرين شهراً. شاهد في القضية يصبح متهماً ويسجن عامين ونصف العام. لم تكن الزيارة الأولى للجادرجي لدوائر الأمن، إذ استدعي مراراً لتوضيح أمر ما، وتعلق التوضيح ما قبل الأخير بفحوى اتصال هاتفي تلقاه من السعودية. بعد بضع جلسات من التحقيق أدرك ان اعتقاله يرتبط بمطالبة الحكومة العراقية باسترداد قاتلي عبدالرزاق نايف، رئيس الوزراء العراقي السابق، من الحكومة البريطانية. ازاء رفض مارغريت ثاتشر بحثت السلطات عن أول بريطاني تجده في فندق فخم مكان مدير شركة ويمبي التي كانت تعاونت مع مكتب رفعة الجادرجي الاستشاري في مشروع ما لبثت ان انسحبت منه قبل أن تباشر بتحقيقه. كان رأي المحقق ان المكاتب الاستشارية "بؤرة للفساد" واتهم الجادرجي برفض التعاون مع الشركة البريطانية والتسبب للبلاد بخسارة اقتصادية. عنى "رفضه" تخريباً اقتصادياً وارتكب خيانة عظمى بما ان العراق في حال حرب مع اسرائيل! وإذ يحاول المتهم الدفاع عن نفسه تتسع دائرة الاتهام لتصبح عائلية. يغضب رئيس المحكمة ويطالبه بالصمت: "أليس شقيقك شيوعياً؟". يتناوب صوتا بلقيس شرارة ورفعة الجادرجي في رواية الأحداث فيقطعانها على الطريقة السينمائية ويقدمان صورة متكاملة. يجرد فوراً من هويته وفرديته ويعطى الرقم 200 في السجن، بينما تجهل العائلة مصيره وسط واقع جديد مظلم. يمتلئ البيت بالزوار أشهراً عدة من التاسعة صباحاً حتى منتصف الليل. "كنت أحسب أنني أدخل الى مأتم جديد كل صباح" تقول شرارة في الصفحة 28، فالوجوه عابسة أو تتظاهر بالعبوس كأن الابتسام حرام والضحك جريمة. شمت البعض وفرح وابتعد البعض خوفاً من الاصابة ب"الوباء" وقلة تمسكت بوفائها. وكان اللغز الذي لم يستطع أحد فهمه تظاهر صديق بالتوسط "المؤثر" لدى نائب رئيس الجمهورية يومها صدام حسين في حين انه غريب عنه تماماً. كان صدام ينعم على مواطنيه فيقدم مساعدات مالية للراغبين في الزواج أو السفر الى السويد للعلاج من العقم ويطلق سراح بعض المساجين فيعتبر الأهل تدخله للعفو هبة. "لمَ هي هبة؟" تتساءل شرارة: "لقد نسي الناس ان للفرد حقوقاً تمنع السلطة والحكومة من التعدي عليها وانتهاكها" ص 54. في السجن تضاءل وجود المهندس الى وضع الخطط لمواجهة التجويع والقذارة والقمل والوضع الصحي المريع في الحمام. "كان القلق ينهش أحشاءنا، وعلينا أن نكتب انسانيتنا ونجمّد ما فيها في دوامة انتظار طويل لا نهاية له" ص 111. كان الواقع الجديد "جوعاً مزمناً، فالجوع يضبب يموه المذلة، وأحياناً يتجاوزها، وأحياناً أخرى يبررها" ص 118. يروي كيف أكل ورفاقه مربى البطيخ الذي وجدوا علبته المفتوحة وسط الأقذار السوداء في برميل النفايات "بلذة لا يمكن تصورها" بعد ازالة الطبقة العليا منها. انه "جوع يهدف الى اخضاع ارادة الفرد واذلاله وتحطيم معنوياته وإضعاف بدنه ليتحقق بذلك اضعاف نفسيته أيضاً" ص 120. يعاني وزوجته اليأس والكوابيس والخوف من التعذيب، ويتضاءل وجوده فينحصر بغريزة البقاء: النظافة وسد الجوع. عندما يتسلل دخان الحريق الى الزنزانة لا يفكر بالمقاومة بل "بالموت البطيء ... كأن الأمر انتهى". وإذ يلاحظ اشارة الى الرغبة لدى سجين يقول انها نادرة في السجن، فالأجساد فقدت الرغبة لأنها "عزلت عن أبداننا، أو أن الدماغ في ظلمة مثل هذه يتجاهلها وينفرها". في المقابل تشكو شرارة من أنها باتت تعامل كأرملة وزوجها حي، "الأرملة لا حق لها بالتبرج أو ارتداء الألوان البهيجة أو الدعوة الى عشاء أو حفلة شاي أو زيارة ناد أو جمعية. انها من المحرمات، عليها أن تدفن في عقر دارها وتعيش في عزلة طوال حياتها" ص 222. لو كانت هي السجينة لما فرض المجتمع على زوجها هذه التقاليد المذلة التي عززت يأسها، إذ سمح لها العرف بحضور المآتم "وسماع البكاء والنحيب اللذين كنت أفضِّل الابتعاد منهما". إذ يراجع الجادرجي حياته، يرى أنه من "القلائل المحظوظين الذين تمتعوا وعملوا الكثير في حياتهم" ويجد جواباً لتساؤله: لماذا أنا بالذات؟. السلطة لا تتمكن من الاستمرار من دون ارهاب الغالبية، وغالباً ما تختار ضحاياها عفوياً، "وهنا مصدر الإرهاب وبخاصة عندما يكون النموذج بريئاً" ص 145. لكن الرعب قد لا يكون كافكاوياً خالصاً. لا يستبعد الانتقام في حال الرئيس يومها أحمد حسن البكر الذي طلب التعاون بين السلطة ومكتب الجادرجي فرفض الأخير. ويتساءل ما إذا كان الحقد الطبقي والحسد دفعا سعدون شاكر، مدير الاستخبارات يومها ثم وزير الداخلية، الى القول انه سيجعل الجادرجي يرتدي الملابس نفسها ستة أشهر. ولئن تعرض "ابن العائلة" ذو الموقع المتميز للاهانة كان محظوظاً بنجاته من التعذيب الذي طاول مساجين بينهم مسؤولون سابقون أجبروا على تقليد أصوات البقر والحمير والديكة أثناء جلسات التعذيب. يتحدث الجادرجي في الصفحة 162 عن "صراخ ألم يجهل الآخرون إذا كان صادراً عن جريح أو مريض أو مجنون" أو إذا كان تحدياً مقصوداً، ويثير الاستغراب والاعتقاد بساديته عندما يقول: "كنا نفرح أحياناً عندما نسمع هذا الصوت ونتوق اليه لأنه التحدي الوحيد لسلطة الحرس". يلفتنا التعبير البارد الذي قد يعود الى البعد الزمني أو المكابرة. عندما يُحكم على زوجها بالسجن المؤبد، تحدِّق من النافذة في "جمال الطبيعة" وتفكر أن زوجها لن يرى "جمال الطبيعة" ثانية. نتساءل باستغراب ما إذا كان رد فعلها أقصى العاطفة قبل أن نقرأ عن هطول الدموع ك"تيار هادر" على رغم نشوئها على التحذير من ان البكاء ضعف. "بكيت على حالي وشعرت بأن كلانا يعيش في سجن، هو سجين ظلم النظام وأنا سجينة ظلم تقاليد المجتمع وأعرافه" ص 192. تشكو اللغة التقليدية والتكرار وتفقد السلاسة أحياناً، وتوحي بالكتابة بالانكليزية والترجمة عنها في بعض المقاطع، إلا ان "جدار بين ظلمتين" يبقى شهادة حيوية عن عبثية الوجود التي لا تردع في الدول البوليسية وخضوع حياة الفرد الثمينة لنزوات الحكام. يفرج صدام حسين عن السجين البريء لكي يضع مشاريع عمرانية استعداداً لعقد مؤتمر دول عدم الانحياز في بغداد. يخرج السجين ويدشن حريته بزجاجة بيرة باردة ثم يضع المشاريع ويترك بلاده.