Naseer Aruri. The Dishonest Broker: U.S. Role in Israel and Palestine. الوسيط الخادع: الدور الأميركي في إسرائيل وفلسطين. South End Press. 2003. 265 pages. "أنني أتعلم من هذا الرجل، شارون، كلما جاء وزارنا هنا في واشنطن". بهذه الكلمات رحب جورج بوش الإبن بشارون خلال زيارته السادسة, إلى البيت الأبيض في حزيران يونيو 2002، كما يسجل نصير عاروري، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة ماساشوستس الأميركية. ووصف "الوسيط النزيه" هو ما تهوى الإدارات الأميركية المتعاقبة، بما فيها إدارة بوش الراهنة، نعت نفسها به في سياق تعاملها مع أطراف الصراع العربي الإسرائيلي. لكن هذا الوسيط النزيه ليس سوى وسيط خادع بإمتياز، كما يقول عنوان الكتاب، خاصة وأن آخر مراحل نزاهته تتمثل في تلمذته على يد مجرم حرب مثل شارون. هذا بعض ما نستنتجه من قراءة عاروري الحافلة بالتفاصيل والرصد الموثق لسيرة تدخل أميركي في الشرق الأوسط تتصف بالإضطراب والتدهور في منحنى هابط - منحنى بدا في لحظة تاريخية ما، لحظة العدوان الثلاثي في حرب السويس سنة 1956 وإنذار إيزنهاور للمعتدين بوقف إعتدائهم على مصر، وكأنه سيتخذ مساراً مختلفاً كلياً عما اتخذه في ما بعد. ف"ما الخطأ الذي وقع" بين لحظة إيزنهاور تلك ولحظة بوش المتتلمذة على يد شارون سنة 2002؟ ما الذي حدث حتى تدهورت السياسة الأميركية في المنطقة من الحياد، بل حتى شبه المساندة للعرب، إلى "الأسرلة" التامة، بل إلى "اللكودة" التي تثير حنق حتى أنصار حزب العمل الإسرائيلي! هذا ما يرصده ويريد فهمه نصير عاروري في هذا الكتاب السريع الإيقاع والثابت على أطروحة لا حياد عنها هي الإنحدار المتلاحق في الموقف الأميركي المنحاز لإسرائيل وصولا إلى حالته الراهنة اليوم. فعلى طول الإثني عشر فصلاً يتابع القارىء المنحى المتدهور على كل الصعد. فالولاياتالمتحدة التي وافقت، بل صممت قراري مجلس الأمن 242 و338، والتي تنظر إلى الضفة الغربية وقطاع غزةوالقدسالشرقية بوصفها أراضي محتلة، هي نفسها التي رأت، على لسان دونالد رامسفيلد، أن احتلال تلك الأراضي غنيمة حرب عادية، وأن من المفهوم أن يحتفظ المنتصر بالجائزة بعد الحرب. والولاياتالمتحدة التي رفضت اعتبار القدس عاصمة إسرائيل، بإعتبار القدس أرضا محتلة أيضاً وموضع صراع عاصف بين الطرفين، هي نفسها التي تشتري أرضاً مسروقة أصلاً من الفلسطينين لتقيم عليها سفارتها، تبعاً لقرارات الكونغرس في منتصف التسعينات بالإعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. والولاياتالمتحدة التي كانت تنتقد المستوطنات باعتبارها عقبة كأداء أمام السلام، أصبحت تتراخى في نظرتها تلك وتتراجع في نقدها وتقول إن سياستها هي قبول "ما يتفق عليه الطرفان"، وهي تعلم أن ليس ثمة توازن قوة بين الطرفين. وهي تعلم أنها بتخليها عن الضغط والنقد فإنما تقرّ للقوة الطاغية بفرض ما تريد. والولاياتالمتحدة التي علقت مؤقتاً في أيلول سبتمبر 1953 مساعداتها لإسرائيل لأنها انتهكت القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن في ما خص مياه نهر الأردن، هي نفسها التي تتفّه القانون الدولي والأممالمتحدة برمتها ليس فقط حيال فلسطين، بل حيال العالم كله. "العلاقة الخاصة" بين أميركا وإسرائيل تطورت بشكل مثير، وفي كل مرة تغذت من "مبدأ" هذا الرئيس الأميركي أو ذاك في تعامله مع المنطقة. فمع "مبدأ ترومان" في إحتواء النفوذ السوفياتي، وكذا مع "مبدأ إيزنهاور" في مساعدة دول المنطقة مادياً وعسكرياً لوقف الإمتداد الشيوعي، تبوأت إسرائيل موقعاً أساسياً في المواجهة واندفعت إلى حمل الراية الأميركية. لكن الإحتفاء الإستراتيجي الكاسح بإسرائيل كان عليه أن ينتظر "مبدأ نيكسون" ووزير خارجيته ومستشاره للأمن القومي هنري كسينجر كي يبدأ مشوار التحالف الوثيق المقدم على أي حساب آخر. ف"مبدأ نيكسون" اعتبر إسرائيل حجر الزاوية في السياسة الأميركية في المنطقة، والوكيل المخلص الذي وحده يمكن الإعتماد عليه في اللحظات الحرجة. وحاول ريغان بعده أن ينافس نيكسون في رفع السوية التي وصلت إليها النظرة الى إسرائيل فعقد معها إتفاقية التحالف الإستراتيجي. ثم جاء كارتر ليجمع مصر والسعودية معها، ويشكل "مثلث الإعتماد الإستراتيجي" للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط. و"العلاقة الخاصة" تلك كلفت الولاياتالمتحدة 91،82 بليون دولار نقداً. أما إذا أضيفت الكلفة غير المباشرة، مثل تسهيلات القروض وإلغائها وما دفعه الإقتصاد الأميركي لشراء نفط عالي السعر بسبب الصراع، أو خلال مراحل المقاطعة، أو مستتبعات الحروب العربية الإسرائيلية وغير ذلك، فإن "سعر" العلاقة الخاصة يصل إلى 6،1 تريليون دولار. بالتوازي مع ذلك، كانت صلابة الحقوق الفلسطينية تتعرض للتهشيم التدريجي وتنزلق على منحنى آخر حوّلها من "حقوق وطنية" إلى مجرد قضايا نزاعية سكانية. وكانت الضربة القاسية قد حلت، في أعقاب حرب الخليج الأولى عام 1991 المترافقة مع انهيار الإتحاد السوفياتي، مع ترتيبات مدريد-أوسلو التي أزاحت الأممالمتحدة وفكرة مؤتمر جنيف والقانون الدولي جانباً، حيث استحوذت الولاياتالمتحدة على إدارة الملف منفردة. ورعى "الوسيط النزيه" تصميم أوسلو بشكل مفرغ من أي محتوى قانوني يربط الحل بإنهاء الإحتلال وتحميله مسؤولية ما حدث، وبالتالي النظر في كل القضايا الكبرى كالإنسحاب وتفكيك الإستيطان واللاجئين والقدس الخ. من منظور نزع الإحتلال. وهكذا كانت كارثة أوسلو في نقل كل المسار من مسار إنهاء إحتلال لشعب وأرض محتلة، إلى مسار جديد برعاية وتشجيع "الوسيط النزيه"، ألا وهو مسار التفاوض "بين طرفين متساويين" على قضايا متنازع عليها. وصارت الحقوق المعترف بها دولياً ساحة تمارين تفاوضية تتم المقايضة فيها بشكل تجاري سخيف. يتضمن الكتاب شواهد واقتباسات كثيرة ومذهلة حول عمق تاثير العامل الإسرائيلي في صناعة السياسة الخارجية الأميركية في المنطقة. وإن كانت هذه المقولة تقليدية وليس فيها جديد فإن قراءة ومتابعة الحوادث والمواقف تترك القارىء في حيرة شديدة حقاً إزاء السؤال الكبير: ما هي حقاً مصلحة أميركا من وراء هذا الدعم الأعمى الذي يعود عليها هي نفسها بالأذى الشديد، خاصة في العقود الثلاثة الأخيرة التي وطّن العرب أنفسهم فيها على قبول إسرائيل كجزء من المنطقة. فإسرائيل تلعب دور "اللوبي العالمي" لأي دولة أو مجموعة دول تطلب المساعدة للضغط على واشنطن بإتجاه قضية ما. هذا معروف. لكن ما هو غير معروف تماماً للكثيرين أن البيت الأبيض يضطر لطلب مساعدة إسرائيل للضغط على الكونغرس للموافقة على قرار ما. وهنا يستشهد عاروري بأن إدارة ريغان طلبت من وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه آرينز التدخل عند بعض أعضاء الكونغرس المعارضين لدعم فكرة إنشاء قوة تدخل سريع أردنية للإعتماد عليها في اندلاع طوارىء في منطقة الخليج. لكن مع ذلك رفض الكونغرس، ما أدى إلى غضب الملك حسين حينها وإطلاقه تصريحات شديدة ناقدة للإنحياز الأميركي الصارخ لإسرائيل. لكن ربما كان الأخطر من ذلك كله أن "الوسيط النزيه" يتعامى عن العنف الإسرائيلي الشاروني في السنوات الأخيرة ويبرره ويعتبره دفاعاً عن النفس ويوفر له غطاء ديبلوماسياً، كما يفصل عاروري. فعندما يقول جنرال إسرائيلي إن إسرائيل تنظر إلى كل عملية السلام نظرة عسكرية ليس إلا فإن ذلك يمر من دون تعليق. والجنرال المذكور يقول إن إسرائيل ستقلب رأساً على عقب نظرية منظّر الحرب الألماني المشهور كلاوزفيتز في اعتباره الحرب إمتداداً للسياسة بوسائل أخرى، حيث ستعامل العملية السلمية كامتداد للحرب بوسائل أخرى. و"الوسيط النزيه" يدرك ذلك كله، لكن الحيرة تظل تطرق بقوة حتى بعد قراءة الكتاب. لماذا؟ وأين المصلحة الأميركية في حشد الكراهية في عوالم العرب والمسلمين عبر احتقار القضية الأهم التي تثير عواطف وأعصاب معتدليهم وتشد من إزر متطرفيهم.