تركزت الأنظار على اجتماعات وزير الخارجية كولن باول مع قادة الفلسطينيين والاسرائيليين في محاولة لايجاد مخرج من الأزمة التي تهدد استقرار المنطقة بأسرها. وكان باول، بعد تأخير دام ثمانية أيام والتهديد بمقاطعة ياسر عرفات، وصف الاجتماع الذي طال انتظاره مع الرئيس الفلسطيني بأنه "مفيد وبنّاء". انها الصيغة الديبلوماسية الملطّفة للاشارة الى عدم احراز تقدم حقيقي، وهو ما لا يثير الاستغراب اخذاً في الاعتبار العوائق الكبرى امام تسوية قابلة للبقاء، وعلى رأسها كون الوسيط في العملية هو في الوقت نفسه شريك اسرائيل في حربها على الفلسطينيين وداعمها الديبلوماسي والمالي والتسليحي الرئيسي. ان علينا، نحن الذين ننتظر بفارغ صبر اختراقاً من نوع ما، أن نضع نصب أعيننا ثلاثة عناصر رئيسية عند التفكير بامكانات وآفاق مخرج من وضع "معادلة الصفر" بين الفلسطينيين والاسرائيليين، المطروحة حاليا في شكل أشمل وأقسى من أي وقت مضى. هذه العناصر هي، أولاً، التركة التاريخية للمساعي الأميركية للسلام في الشرق الأوسط. ثانياً، المنظور العالمي لذلك الطرف الذي عيّن نفسه المصالِح الوحيد للطرفين، والوسيط النزيه الوحيد للتسوية، والعنصر المساعد الوحيد للتوصل اليها. ثالثاً، استراتيجية اسرائيل واهدافها الحقيقية ومنظورها للنتيجة المطلوبة. من المؤكد ان الاتصالات والمفاوضات التي ستحدث على المدى القريب ستركز على القضايا الجزئية: من بينها وقف النار وكأن أمامنا حرب بين جيشين، ونبذ الارهاب ولو كان ذلك من قبل الضحية وليس الجلاد، والتعاون الأمني رغم تدمير الاجهزة الأمنية الفلسطينية وسحق عناصرها - وكلها عناصر ل"عملية السلام"، هذا التعبير السيء الصيت منذ أوسلو. وربما كان تنديد عرفات بالهجمات على المدنيين، خصوصاً ضحايا التفجير الانتحاري الأخير في القدس، كافياً لكي يحصل على لقاء مع وزير خارجية القوة العظمى الوحيدة. لكن التقارير تقول ان من الضروري على عرفات خلال الأيام المقبلة "تطوير" بيانه، أي ان هناك العزم على استخلاص المزيد من التنازلات من القائد الفلسطيني المحاصر، الذي لم يبق لديه ما يقدمه سوى ورقة الانتفاضة، وهي ورقة لا يملكها أصلاً وتشكل بوضوح خطاً أحمر لكل الفلسطينيين وغالبية العرب. لكن كسر الجمود سيتطلب اكثر بكثير من مجرد "عملية" من هذا النوع، مهما حفلت بالتنديدات والبيانات والاجراءات التزويقية، لأنه يحتاج الى تغيير أساسي في سياسات ومواقف كل الأطراف. ان على الأفق السياسي أن يرتبط في شكل وثيق بالقضايا الجزئية، اذا كان لهذه الأخيرة أن تكون الخطوات الضرورية نحو الخريطة السياسية. هذه الخريطة موجودة بالفعل وهي تقوم على توافق عالمي، بل أن جوهرها يعود الى 35 سنة. واذا كانت اتخذت أشكالاً مختلفة خلال السنين فإن أسسها بقيت ثابتة: الأرض مقابل السلام، انهاء الاحتلال، ازالة المستوطنات، دولة فلسطينية جنباً الى جنب مع اسرائيل وليس داخلها، وحل عادل لمشكلة اللاجئين حسب القانون الدولي. ولعل "تطوير" العناصر الثلاثة أعلاه، التي تساعد على فهم السبب في شلّ هذا التوافق العالمي وتوضح ما قد نحتاجه للتوصل الى سلام معقول ودائم، أهم بكثير من "التطوير" المطلوب لتصريحات عرفات التنديدية الأخيرة. ففيما يخص العنصر الأول، هناك تاريخ يعود الى 1969 من الرفض لذلك التوافق، من قبل "الوسيط النزيه" و/أو اسرائيل. بل أن اسرائيل رفضت عددا من الاقتراحات الأميركية حتى عندما لم يشمل البعض منها انسحابا كاملا أو الاعتراف بسيادة فلسطينية. الضحية الأولى في هذا التاريخ كانت خطة روجرز 1969، ثم احباط اسرائيل لمهمة الحاكم سكرانتون، مبعوث الرئيس ريتشارد نيكسون في 1970، ورفضها اقتراح أنور السادات 1971 القائم على مبدأ الأرض مقابل السلام والاعتراف المتبادل، ورفض دعوة الرئيس جيمي كارتر الى مؤتمر دولي في جنيف 1977، وخطة الرئيس رونالد ريغان 1982، وخطة جورج شولتز 1988، وخطة جيمس بيكر 1989، واحباط محاولة الرئيس جورج بوش الأب ربط ضمانات القروض بقضية الاستيطان في القدس ومحيطها 1990. ولا بد أن الرئيس بوش الابن يضع في الحساب، عندما ينظر الى نتيجة طلبه من شارون قبل أقل من اسبوعين الانسحاب "فورا" و"دون تأخير"، الورطة التي واجهها والده مع اسرائيل وقتها. بالمقابل، ربطت منظمة التحرير الفلسطينية والدول العربية مواقفها بالعناصر الرئيسية في التوافق العالمي الذي عبّرت عنه وثائق تفوق الحصر، من بينها العرض الذي قدمه السادات في 1971، وقرار مجلس الأمن في 1976 الداعي الى تنفيذ القرار 242 وحل الصراع على أساس الدولتين، واعلان البندقية في 1980 الذي اعترفت فيه الدول الأوروبية بحق الفلسطينيين في تقرير المصير، وخطة الملك فهد بن عبد العزيز عندما كان وليا للعهد في 1981، واعتراف منظمة التحرير الفلسطينية باسرائيل في 1988، واعلان الاتحاد الأوروبي في 1998، وصولاً الى خطة ولي العهد السعودي الأمير عبد الله بن عبد العزيز التي أقرتها القمة العربية الشهر الماضي، وعرضت الاعتراف الكامل باسرائيل مقابل انهاء الاحتلال. العقبة الرئيسية الثانية أمام كسر سريع للجمود تتعلق بالمنظور العالمي لدى الرئيس جورج بوش، الذي يرى مشهداً حالكاً يتطلب سياسة "القبضة الحديدية" ل"اخراج الارهابيين من جحورهم" واجتثاث جذور هذه اللعنة باللجوء الى القوة العارية وحدها. ويتناقض هذا الموقف "العضلاتي" مع الوسائل التقليدية، التي تشمل اقامة الآليات الأمنية اللازمة واستعمال اجهزة القضاء والسيطرة المالية والوسائل الديبلوماسية لدحر الارهاب. من هنا فإن العقبة الرئيسية أمام مهمة أميركية ناجحة في الوقت الحاضر تتمثل في المنظور الحالي الكاذب، الذي لا يرى في حرب شارون على السكان المدنيين خرقاً لميثاق جنيف 1949، وجريمة حربية بالمعنى الذي ثبتته محاكمات نورمبرغ، بل يعتبرها حرباً لتفكيك البنية التحتية للارهاب. هذا المنطق القصير النظر هو ما أثر على الرئيس الأميركي المعروف بمستواه الفكري المتواضع، وجعله يسارع الى تأييد جرائم الحرب الشارونية متوهماً أنها تدعم حملته على الارهاب. لكن بعض مستشاريه المعروفين بالواقعية، اضافة الى سياسيين متقاعدين مرموقين مثل زبيغنيو بريزينسكي ولي هاملتون، ومحرري الرأي في "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست"، الذين يفكرون من منظور المصلحة العقلانية، حذروه من التداعيات الاستراتيجية السلبية على المدى الطويل لتواطؤ الولاياتالمتحدة مع هجمة شارون، ومن هنا جاءت مهمة باول الحالية. لا ننسى بالطبع أن هناك، ضد هذا الفريق، تيار المحافظين الجدد اليميني المسيطر على أوساط السياسة الخارجية والأمن الوطني، المتمثل بريتشارد تشيني نائب الرئيس، ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد ونائبه بول ولفوفيتز، وريتشارد بيرل وكثيرين غيرهم. العائق الثالث أمام سلام قابل للبقاء، بل حتى للبدء بمفاوضات حقيقية، هو منظور شارون للقوة وللواقع السياسي. استراتيجية شارون الحالية تشكل مواصلة لاستراتيجيته قبل أكثر من ربع قرن، أي اعادة رسم حدود اسرائيل لتضم كل فلسطين ما قبل 1948، "من البحر الى النهر". وصرح دوماً بأعلى صوته أن دولة الفلسطينيين هي الاردن. وأطلق هجومه الأخير تحت ذريعة تفكيك البنى التحتية للارهاب لكن الهدف الحقيقي لم يكن تدمير السلطة الفلسطينية فحسب بل سحق كل البنى السياسية والاقتصادية والثقافية والصحية والانسانية لدى الفلسطينيين، أي كل مكونات الدولة المرتقبة - وهي الاستراتيجية نفسها التي استعملها في لبنان قبل عشرين سنة. لقد بذل شارون كل جهده منذ تسلمه السلطة لاخضاع الفلسطينيين والقضاء النهائي على انتفاضتهم من أجل الاستقلال، واجبارهم إما على القبول بكيان ممزق من أربع بانتوستانات خاضعة لسيطرة اسرائيل أو مغادرة الوطن - أي الطرد أو التهجير، الذي يسميه الصهاينة تخفيفاً "نقل السكان"، الذي يحظى حالياً بتأييد نحو نصف الاسرائيليين. هكذا نجد ان محاولات باول للتوسط في صفقة ستفشل حتما ما لم يتم تفكيك الاحتلال وفقا للقانون الدولي والوفاق العالمي. وعلى المفاوضات ان تربط القضايا الجزئية المفضلة لدى اسرائيل وخطط تينيت وميتشل بكل ما فيها من الكليشيهات، بالقضايا الرئيسية، من بينها وضع القدس وحقوق اللاجئين والماء والحدود. لكن قوى المحافظين الجدد في أميركا واللوبي الاسرائيلي وأصدقاء اسرائيل في الكونغرس وطامحين الى الرئاسة مثل جون كيري وجوزيف ليبرمان وغيرهما، يصورون تسوية كهذه على انها تفريط باسرائيل، تلك الخطيئة التي لا تغتفر في السياسة الأميركية. ضد هؤلاء يقف البراغماتيون الذين سيحاولون الدفع نحو مؤتمر دولي جديد على غرار مدريد 1991، مع ثمن مقابل فيما يخص العراق. الفئات الأميركية الحاكمة تجد انها تستطيع الاندفاع في تأييد اسرائيل أكثر من أي وقت مضى، خصوصاً بسبب الانحياز الساحق لاسرائيل في وسائل الاعلام وبين صانعي السياسات، وهو ما يمنع من توجيه اي ضغوط أميركية حقيقية الى اسرائيل. هكذا نجد على الصعيد الداخلي صراع ارادات يتوقف على نتيجته المنحى الذي تأخذه محاولات التسوية. ويمكن القول ان المشهد لا يبشر بالخير بالنسبة لتسوية عادلة ودائمة. * استاذ في جامعة ماساتشوستس دارتموث في الولاياتالمتحدة.