لا أدري من هو العبقري الذي نصح الرئيس جورج بوش الإبن ب "الاستقالة" من دور الراعي المباشر والفاعل لمسيرة السلام في الشرق الأوسط، والاكتفاء بدور المتفرج، أو بالأحرى المواصل لسياسة "ازدواجية المعايير" وترك الأطراف المعنية تتصارع بلا بوصلة توصل للأهداف وفق مرجعية مدريد، واطلاق يد الارهاب الصهيوني والتطرف الأعمى الذي يقوده السفاح آرييل شارون في التنكيل بالشعب الفلسطيني ومحاصرته وقصفه بالصواريخ وتقطيع أوصاله وقتل أطفاله وتدمير البنى التحتية وإفلاس اقتصاده الوطني الضعيف أصلاً. والأصح هو أننا نعرف تماماً من الذي ورط الرئيس الجديد وادارته في الترويج لمقولة أن على الأطراف العربية والإسرائيلية التفاوض مباشرة أو التقاتل وجهاً لوجه من دون تدخل من الولاياتالمتحدة التي لا تكتفي بالمساواة بين القاتل والقتيل والجلاد والضحية بل بالانحياز دوماً الى الجلاد وتبني سياساته الهوجاء ولوم الضحية بزعم أنها ترعى العنف وتدعم الإرهاب وبأن على السلطة الوطنية الفلسطينية "واجب" وقف العنف قبل استئناف مسيرة السلام، مع أن القاصي والداني يعرف ان إسرائيل هي التي تمارس ارهاب الدولة وتستخدم القوة لقمع شعب أعزل من السلاح وتدخل في مواجهة بين جيش مدجج بالأسلحة وأكثرها محرم دولياً وبين أطفال وشباب لا يملكون سوى الحجارة والإيمان بعدالة قضيتهم وشرعية حقوقهم. وقبل اكتمال عدة "المئة يوم الشارونية" تعيش الادارة الأميركية الجديدة حالة انفصام وضياع بين "النصيحة المسمومة" والواقع الجلي وبين قوى التوريط والتحريض، وكأن آخرها "عريضة" أعضاء الكونغرس التي تنحاز للإسرائيليين وتدين الفلسطينيين، وبين ضرورات الاستراتيجية والمصالح الأميركية في المنطقة وسط متغيرات اقليمية وتطورات دولية كبرى جابهت الولاياتالمتحدة خلال عدة "المئة يوم البوشية" وفق المثل القائل "أول دخوله شمعة على طوله" بعد أن ساد الترويج خلال معركة الانتخابات الرئاسية للتخفيف من الأعباء الدولية و"الانخراط" المباشر للولايات المتحدة في قضايا الشرق الأوسط ومسيرة السلام والالتفات للقضايا الداخلية لا سيما تلك المتعلقة بالاقتصاد الأميركي الذي كثر الحديث عن اتجاهه للتباطؤ. هذه التطورات والمتغيرات لا بد أن تدفع إدارة الرئيس بوش لاعادة النظر في سياسته المعلنة والعودة للعب دور فاعل ومباشر في القضايا الدولية ولا سيما في الإسراع بتصحيح مسار السلام في الشرق الأوسط ونزع فتيل الانفجار الذي قد يؤدي تسارع الأحداث الى تسببه بنشوب حرب جديدة بحسب تقارير الاستخبارات الإسرائيلية والغربية. فمنذ اليوم الأول لتسلم بوش الإبن زمام الأمور في البيت الأبيض تسارعت الأحداث على عكس ما تشتهي سفن تحريض "المورطين" وأولهم اللوبي الصهيوني ووجدت ادارته، التي ما زالت تتلمس خطاها، نفسها أمام رزمة من الأزمات التي تجبرها على الانغماس فيها من رأسها الى أخمص قدميها وهي على سبيل المثال لا الحصر: 1- التطورات الدراماتيكية على أرض الواقع، اذ تصاعدت وتيرة الانتفاضة الفلسطينية وازدادت حدة ردود الفعل الإسرائيلية الاجرامية ضد الشعب الفلسطيني بعد فوز آرييل شارون وتشكيله حكومة تضم الأحزاب المتطرفة ومعها حزب العمل الذي نزع قناعه الكاذب وتحول الى بوق لشارون وليكوده ليتبنى مواقفه المتطرفة. 2- اتساع موجة المعارضة والعداء للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط يشحن الشارع العربي ضدها ويهدد مصالحها في حال استمرار هذا النهج الخاطئ وتبني سياسة الكيل بمكيالين خصوصاً بعد اقدام الولاياتالمتحدة على استخدام حق النقض "الفيتو"، في مجلس الأمن الدولي لمنعه من تبني قرار بإرسال مراقبين دوليين لحماية الشعب الفلسطيني. ولا بد أن يكون وزير الخارجية الأميركي "الجنرال" كولن باول قد بدأ بمراجعة حساباته بعد عودته من جولته في المنطقة والإعراب عن "استغرابه" لحجم "العداء" في الشارع العربي للولايات المتحدة. وهو يعلم جيداً من خلال تجربته في حرب الخليج ودراسته لشؤون المنطقة أن هذا العداء ما كان ليتنامى لولا انحياز الولاياتالمتحدة لإسرائيل وأن المصالح الأميركية ما كانت لتتهدد لولا وجود إسرائيل وتعنتها وممارساتها الإجرامية. 3- انعكاس اتجاهات نبض الشارع العربي على القيادات وهو ما تجلى خلال القمة الأخيرة في عمان وأظهر حجم الضيق الذي تشعر به من تقاعس الولاياتالمتحدة وتخليها عن مسؤولياتها التاريخية وانحيازها الى جانب الظلم. وسمع سيد البيت الأبيض من "الأصدقاء" و"الحلفاء" قبل غيرهم نصائح ومواقف تترجم هذا الواقع وتدعو الى "وقفة ضمير" وسرعة حركة لإنقاذ الموقف، ليس من أجل السلام ولمصلحة العرب فحسب بل حرصاً على ما تبقى من صدقية الولاياتالمتحدة ومصالحها الحيوية. 4- بروز تيارات دولية تعبر عن التململ من السياسة الأميركية وترفض "انفرادها" بالسماح لإسرائيل بتدمير الاستقرار ومسيرة السلام بعد اصرارها على الانفراد بتقرير مصير هذه المسيرة طوال العقد الماضي. وعبرت الدول الأوروبية عن هذه التيارات فدانت العنف الإسرائيلي وسياسة الاستيطان الشارونية وطالبت بلعب دور فاعل لمنع الانفجار وتصحيح المسار، كما جارتها روسيا التي نشطت أخيراً بإرسال مبعوثين الى المنطقة مع وعد بإطلاق مبادرة جديدة. 4- ثبوت فشل سياسة الاحتواء للعراق بعد الضربة العسكرية التي استهل بها بوش عهده... وتصاعد الدعوات لرفع العقوبات مما دعا الولاياتالمتحدة لإطلاق مقترحات ما يسمى بالعقوبات "الذكية" وتوفر قناعة بأنه لا يمكن عزل قضية العراق عن تطورات الشرق الأوسط. 5- تزامن هذه الأحداث والمتغيرات مع صدور دعوات صريحة داخل الولاياتالمتحدة لإدارة الرئيس بوش للتخلي عن ترددها وعدم "التلطي" وراء مزاعم الحاجة لوقت أطول لرسم سياسة واضحة في الشرق الأوسط. وقد انطلقت هذه الدعوات من أرض الواقع بهدف حماية المصالح الأميركية أولاً وجاء آخرها على شكل توصيات في تقرير مشترك عن مؤسستين مؤثرتين في صنع السياسة الأميركية هما: مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك ومؤسسة جيمس بيكر وزير الخارجية السابق في عهد بوش الأب للسياسة العامة في هيوستن معقل بوش الإبن. فقد دعت المؤسستان صراحة الى سياسة واضحة لخفض التوتر والعنف في الشرق الأوسط على رغم الادعاء بأن الوقت غير ملائم لمبادرة رئيسية لحل النزاع بصورة شاملة، كما دعت الى العمل لخفض العداء لأميركا ورفع العقوبات "غير الفاعلة" عن العراق وتعزيز العلاقات مع دول الخليج من أجل حماية المصالح الأميركية من طريق تقديم "تنازلات صعبة".!! وحتى دنيس روس المنسق السابق لعملية السلام في الشرق الأوسط، المعروف بانحيازه لإسرائيل، أكد بعد انتهاء مهمته ان السلام يتم بتفاهم مسبق وليس بعمل عسكري. لذا لا بد من اعادة تعريف الدور الاميركي في عملية السلام في شكل لا يجعل منها مفاوضاً مع الاعتراف بأن الحقائق على الأرض قد تفرض نفسها وتدفع واشنطن الى اتباع سياسة تتحلى بالصدقية. هذه المؤشرات والدعوات والتطورات لا بد أن تقنع الرئيس بوش الإبن وادارته ان عاجلاً أو آجلاً، وربما قبل فوات الأوان، بالعودة الى ادارة عملية السلام بشكل مباشر وفعال متخذاً العبرة من والده الذي كان عراب المبادرة الشهيرة التي قادت جميع الأطراف الى مؤتمر مدريد وفق مبدأ الأرض في مقابل السلام وقرارات الشرعية الدولية. ولو عاد بوش الابن الى التاريخ لأخذ العبرة من أسلافه وبينهم من تبنى في البداية سياسته بالابتعاد عن الشرق الأوسط والالتفات للقضايا الداخلية ثم "انخرطوا" في شكل مباشر في شؤونه وشجونه. ولا يخلو سجل أي رئيس أميركي من مبادرة ما خلال عهده: مبدأ ايزنهاور ومبادرته لوقف العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. ثم كينيدي ومعارضته امتلاك إسرائيل السلاح النووي. ثم جونسون بانحيازه لإسرائيل على غرار ترومان بعد روزفلت. ثم نيكسون وفورد ومبادرة روجرز ثم سياسة كيسنجر القائمة على "الخطوة خطوة وتفتيت أزمة الشرق الأوسط ودولها وتبنيه مفاوضات وقف اطلاق النار على الجبهتين السورية والمصرية بعد حرب 1973. ثم جيمي كارتر ومبادرته الشهيرة التي لم تكتمل بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية لكنها انحرفت نحو كامب ديفيد واتمام معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية. تبعه ريغان بمبادرته المعروفة التي تنافست مع مشروع السلام العربي الموحد. ومن بعده جورج بوش بمبادرته المشتركة مع وزير خارجيته وتبنيه رعاية مسيرة مدريد للسلام بالمشاركة الخجولة مع روسيا وصولاً الى بيل كلينتون ومبادراته الكثيرة وانخراطه التام في عملية السلام حتى آخر يوم من ولايته الثانية. فهل يأخذ بوش الابن العبر والدروس من تجارب أسلافه ويدرك انه لا يمكن ان "يستقيل" أو يقيل الولاياتالمتحدة من دورها في الشرق الأوسط خصوصاً في ظل النظام الدولي الجديد الذي توجها "قوة عظمى وحيدة" وراعية اساسية للسلام في المنطقة. وان الحكمة تقتضي ان يتخلى عن تردده ويرفض نصائح "المورطين" ليسارع فوراً الى لعب دور فاعل ومباشر لإحياء عملية السلام ونزع فتيل الانفجار المرتقب وربما الى الدعوة لمدريد أو أي شكل آخر من أشكال الحل بفتح الباب أمام جميع المسارات والضغط على إسرائيل كما فعل والده بعد فشل سياسة المراوحة والتشبه بالنعامة في دفن رأس الولاياتالمتحدة بالتراب لتجاهل ما يجري على أرض الواقع. فالراعي يجب ان يكون عادلاً وحازماً وحاسماً في آن وشارون لن يكون أكثر عناداً من سفاحين سبقوه ومتطرفين خاضوا تجربته ثم رضخوا للواقع مثل مناحيم بيغن في كامب ديفيد، واسحق شامير في مدريد، واسحق رابين في أوسلو، بل حتى بنيامين نتانياهو الذي اضطر لتقديم الكثير مما يسمى بالتنازلات والتراجع عن سياسته الليكودية لا سيما خلال الاتصالات السرية التي اجريت عبر عدة قنوات سرية كما كشفت الوثائق أخيراً. الدرس الأول والأخير الذي لا بد أن يتعلمه بوش الابن اليوم هو ان بداية عهده وتعاطيه مع الأحداث شكلا مرحلة فاشلة وانتهت... وأن عليه العودة للعب دور الراعي النزيه مهما طال الزمن وازدادت حدة التعنت والتطرف الإسرائيلية حفاظاً على صدقية الولاياتالمتحدة ومصالحها الحيوية في المنطقة. فالاستقالة من الشرق الأوسط تؤدي الى تهديد هذه المصالح... وقد يفوت الأوان قبل ان يكتشف الرئيس الأميركي وادارته ان شارون وزمرته هم أكبر أعداء لهذه المصالح. * كاتب وصحافي عربي.