في ما يلي رد الزميل ماهر عبدالجليل على تحقيق عن الحجاب في تونس نشر السبت الماضي: ما بين فترات خمود ولحظات احتقان، تعود مسألة الحجاب في تونس لتطفو على السطح. وتنشط الآلة السياسية الماكرة في الحكم والمعارضة وهيئات المجتمع المدني، لتغذي شرايينها المتكلسة بقضية قديمة - جديدة، تلاعبت بها الأهواء منذ بداية القرن الماضي. يكفي ان نتصفح هذه الأيام الصحف الفرنسية أو بعض الصحف العربية أو مواقع شبكة الانترنت أو تقارير بعض المنظمات الحقوقية، لنكتشف عودة الاحتقان بعد حرمان شابات تونسيات من اجراء الامتحانات المدرسية والجامعية بحجة ارتدائهن الحجاب. لا شك في ان تونس تشهد منذ بداية الألفية الثالثة، حالاً من المد الجارف للتدين تعبّر عن نفسها في المساجد وأحاديث الشبيبة والمناسبات الدينية والاجتماعية. خبا بريق التطرف الاسلامي بعد فصول التسعينات الساخنة من القرن الماضي. لا أحد انكب في الجامعات ومراكز البحوث العلمية على دراسة هذه الموجة الجديدة، وأسبابها وآفاقها في المستقبل. وعندما جاءت لحظة الحساب دفعت النسوة الفاتورة كالعادة وثمن تفاعلات حية في مجتمع يبحث عن ذاته وسط اسئلة ملحة. وكن على خط النار الأول، في بلد حقق فيه مكتسبات وحقوق ومواقع ريادية عجزت عن الارتقاء اليها أغلب رفيقاتهن في الدول المجاورة. لا أحد اهتم بالأعداد المتزايدة من الشباب في المساجد، ولم نسمع عن تحرشات بمن اتخذ التدين سبيلاً في حياته. فذلك يدخل ضمن مقدسات الحريات الشخصية. كان يكفي ان يعود بعض الشابات الى ارتداء الحجاب، ليندفع بعض النخب ويعلن حال الاستنفار من "البعبع" الذي يطل برأسه من جديد. وتدعو السلطات الى محاربة الزي الديني وتذكرها بسلطة القانون والمنشور 108. وفي الحقيقة أشعر بحال فصام تعبّر عنها الشخصية التونسية في هذه المسألة بالذات. ففي وسط العاصمة التونسية في محلة باب الخضراء،لا تزال لافتة حديد ترشدك الى نهج يحملك الى محلة الترغبة. نهج الحجاب العابق بالحياة في محلات الخياطة. درسونا في الثانويات عن "معركة الحجاب" التي خاضها أبو الاستقلال الحبيب بورقيبة دفاعاً عن الهوية التونسية في وجه الاستعمار الفرنسي الغاشم. لم نفتح أعيننا على امهاتنا يعتمرن الحجاب ولا أخواتنا ولا بنات الجيران. اكتشفناه في منتصف السبعينات وبداية الثمانينات مع المدّ الاسلامي الأول. كما اكتشفنا قبله صيحات التحرر النسوي وحركة الشبيبة الرافضة في باريس 1968. لنتفق، هنا تونس، وليست تركيا أو فرنسا العلمانية والحجاب كواجب شرعي لم يقم على التفصيل أو قمع النساء في اختياره بحسب بيئتهن المحلية. المنشور المذكور سابقاً لم توقعه السلطات الحالية، بل رجالات دعوا الى الليبرالية والديموقراطية، والدفع بالقضية الى صدارة الأولويات، يعيد الجميع الى الاحتقان، ويلغي اهتمامات أشد الحاحاً وحيوية، يدركها الجميع ويهربون من استحقاقاتها في حرب كسر العظم المتنامية. لا شك في ان الحق في الحرية، حق غير قابل للتذرّر. ولكن أمام توالي الأزمات في هذه المسألة والتي لا يدفع ثمنها سوى الشابات والسيدات اللواتي اخترن لبس الحجاب، من صحتهن النفسية وربما مواقع اعمالهن وتاجهن المعرفي والعلمي، في حين ينسحب الجميع بعد انجلاء غبار المعارك... ليطرح السؤال؟ لماذا عجزت المرأة التونسية في مسألة الحجاب، في حين تفتحت قريحتها وذكاؤها الانساني لمواجهته مع الاستحقاقات الأكثر حداثة. فالسفساري، ذلك الثوب الفضفاض والمستحضر لكل معاني الحشمة والستر، النابع من مخيلة نساء تونس ورمز هويتهن على مرّ السنين، المتوافر للفقيرات وصاحبات النعمة من الخيط الاصطناعي الى غزل الحرير... تكاد صناعته تندثر في حين عادت الجبة الرجالية والشاشية التونسية لتنتعش من جديد. ولا أحد بعدها اتهم بالتطرف... هنالك دائماً معارك خاسرة وأزمات متكررة... في حين ان الحل يتراءى أمامك على قارعة الطريق وذاكرة الاشياء... فالسفساري هو الحل...