ان تكتب عن الحجاب وظاهرة التدين من تونس، وفي واقعها، فهذا يحيلك الى محاذير كثيرة ويدفعك نحو رمال متحركة بدءاً من سوء الفهم والتفهم ومروراً بقوالب جاهزة ترى العالم في حرب الكل ضد الكل في خندقين معنا أو ضدنا وانتهاء بدعاية مشوهة تصوّر "الخضراء" تونس جحيماً لا يطاق لكل من أطلق لحيته، أو من تزينت بالحجاب. وفي الثالث من آب اغسطس الماضي حملت "اميمة" ابنتي الى حديقة "دح دح" للألعاب مدينة الملاهي الكبرى في العاصمة احتفاء بعيد ميلادها الثاني. وكان لافتاً في هذه الأمسية الحارة للصيف الساخن وجود اعداد مهمة من الشابات والسيدات يتجوّلن مع عائلاتهن في الحديقة ويلعبن بكل حرية مع اطفالهن. ولم يكن هناك شرطي وراءهن. بل إن التونسيين شاهدوا عبر شاشات التلفزة وفي مقر الرئاسة التونسية في قرطاج وفي مناسبات رسمية تونسيات محجبات مع ظهور بعض الخصلات من شعرهن بانتباه لخطاب الرئيس زين العابدين بن علي مما يعد مؤشراً مهماً على نهاية حال التوجس وقطع السلطات التونسية نهائياً في اتجاه التمييز بين ظواهر التدين والتطرف والإرهاب. ولم نسمع عن شابات محجبات قادمات من المهجر سواء من فرنسا أو ألمانيا أسيء التعامل مع ما يحملن من قناعات. ويعد فيلم "عزيزة" للمخرج التونسي عبداللطيف بن عمار والذي صور في منتصف السبعينات اول من نقل الى العالم صوراً جديدة لشابات تونسيات يلبسن شيئاً جديداً غير "السفساري" لباس المرأة التونسية في العصور الحديثة وغطاؤها الشرعي والمجتمعي الذي يحجب نظرات نزقة او شهوات منفلتة. إذ بدأت ظاهرة الحجاب تكتسح الثانويات والجامعات وبعض العائلات لتصطدم بأولى حلقات الصراع بين السلطات والإسلاميين الأصوليين في بداية الثمانينات والأهم من ذلك بالإرث البورقيبي الذي نهل من معين الكمالية التركية والحداثة الأوروبية والذي تجسد في قوانين مثيرة وسياسات منفعلة. سميرة، سيدة تونسية، هاجرت مع زوجها الى فرنسا منذ نحو 10 سنوات. وتعد الجالية التونسية في فرنسا الأكثر عدداً ونشاطاً من اجمالي 700 ألف تونسي مهاجر في اوروبا وبلدان المغرب العربي وبعض الكوادر في دول الخليج. ويبدو ان بين الهجرة والتوانسة مشاعر تتراوح بين الأحلام بالثورة والارتقاء بمستوى العائلة وحنينهم الدائم الى بلدهم، لذلك لا يمكثون كثيراً في "الخارج" كما يقولون وأقصى امنياتهم العودة بسيارة وبناء "قبر الحياة" وبعث مشروع استثماري، في حين يطمح اللبنانيون مثلاً لاعتلاء منصب الرئاسة في اميركا الجنوبية. وكثيراً ما يعمد التونسي في المهجر الى الانزواء في ببوشته "الصدمة" ولا يحتك كثيراً بالمجتمع المهجري... تحجبت سميرة منذ 10 سنوات في تلك المدينة الصغيرة في لي فوغ شمال شرقي فرنسا. وقد تعزز شعورها كما تقول بالفخر بالحجاب لأمر ديني واضح لا يحتمل التأويل، وبعد رحلتها الى بيت الله للحج. وتعتقد سميرة ان فرنسا بلد يحترم الحريات الدينية فهم يحترمونني عندما ألبس الخمار ويحترمون تديني سواء في مقر عملي المتنقل بين بيوت الفرنسيين للتنظيف أو في الأسواق. وتؤكد انه لا وجود لأي نوع من القلق أو الضغوطات سوى في محطات المترو حيث النظرات والممارسات العنصرية تجاه الأجنبي عموماً. فهؤلاء المتعصبون يبرزون لنا نظرات "تقزز" من الحجاب والخمار لأنه الشكل البارز والواضح ليس لهويتنا الدينية بل لجغرافيتنا وتاريخنا غير الفرنسي وكعمال وعائلات نزاحهم في قوت يومهم ومكتسباتهم الاجتماعية. ولعل العائق الرئيس في حياة المحجبات في فرنسا هو منع المحجبات من الدراسة في الثانويات والجامعات وأكثر من ذلك فالمرأة المحجبة يمكن ان تصبح اسيرة لمزاج مدير القاعات الرياضية عندما تريد ان تمارس الرياضة مثل بقية الفرنسيات. واستُفزت سميرة عندما سألناها عن بعض الحوادث أو الطرائف التي مرت بها في تجربتها مع الحجاب معتبرة ان الحديث عن الخمار مقدس وأمر لا يجوز فيه تناول طرائف. وتتذكر منيرة 29 عاماً ايام كانت تلبس "القرّية" ولا تبالي بالمسافة بين طرف الثوب وركبتها و"الشيخات" على البحر وليالي المراقص الليلية في المرسى والحمامات وهي تدعو الله ان يغفر لها ويتوب عليها بعد ان عرفت الطريق إليه ولبست الحجاب. وكان طريقها نحو الحجاب في بلاد الغربة في مدينة نيس الفرنسية من خلال دعوة احدى النساء اللواتي سبقنها الى الإيمان كما تقول. ولفتت منيرة الى أن لبس الحجاب جعلها تشعر أنها مختلفة عن الأخريات وأن نظرات حب الاستطلاع تلاحقها من قبل الجيران وفي السوق، اما في المترو فالذي يجري أعنف من ذلك. وأبرزت منيرة ان شرطها الوحيد على اصحاب العمل في نيس هو الاّ تنزع حجابها ولا يهم بعد ذلك الراتب. وتؤكد انها لم تجد اية صعوبات في الاندماج بزيها، خصوصاً ان عملها يحتم عليها المرور على المطاعم والحانات والمقاهي. اما في المدرسة الابتدائية فلا تمنع المحجبات، ويبدأ المنع في الثانويات والجامعات. ومع ذلك فإن منيرة التي تنتقل بين المحافظات الفرنسية ترى ان نظرات الفرنسيين والفرنسيات للمحجبة في المدن الصغيرة محورها التعجب، وفي باريس "شيء طبيعي". تصر السيدة آني الفرنسية على قضاء عطلتها على شواطئ تونس الجميلة منذ ان تزوجت سي "احمد" قبل 16 عاماً وأنجبت منه ولداً وبنتاً. لا يعير سي احمد التونسي اهتماماً دقيقاً بالتعاليم الدينية. وتؤكد ان مسألة لبس الحجاب في فرنسا مسألة عادية حيث الحرية الدينية مضمونة بالدستور. ولكنها تعتقد ان ما يثير الفرنسيين ويدفعهم الى منعه في المعاهد والجامعات هو اتخاذه غطاء لممارسة انشطة سياسية ربما حملت إليهم رياح الإرهاب مثل الجزائر بحسب زعمها. ووسط دوامة المشاهد وحرقة الأسئلة لمحجبات تونسيات في فرنسا، تساءلت ماذا ستختار غداً ابنتي أميمة: لباس شابات تونس اليوم ام الحجاب؟