سؤال: ما هو الحلم الاول الذي يداعب خيال كل شاب وشابة تونسية في بداية الالفية الثالثة؟ جواب: الهجرة الى ارض الله الواسعة... ونقطة على السطر. حضارة عريقة تمتد الى 3 آلاف عام في عمق التاريخ. اصول بربرية، فتوحات عربية، راية اسلامية وإضافات مختلف ألوانها فينيقية، رومانية وأمجاد قرطاجنية. بلد آمن مطمئن، لا حروب ولا ثورات ولا تطاحن اهلي، الدستور يرفرف فوق الجميع وإدارة ذات تقاليد عريقة وانتصار مؤسساتي لروح القوانين. هنا اكثر البلدان العربية حداثة، تونس وشقيقها لبنان، حيث حسمت دولة الاستقلال من البدء، مسائل المطلق والدنيوي السياسي، وانتصرت لروح التحرر والاجتهاد، واعتبرت النساء شقيقات الرجال، فأصبحن شريكاً كاملاً في البيت والمصنع ودائرة القرار. هنا، التعليم اجباري ومجاني لكل شاب وشابة الى سن ال16 عاماً، ربع سكان البلاد المحصى ب10 ملايين ساكن على مقاعد الدراسة و50 في المئة من طلاب الجامعات من الإناث. هنا، الناتج المحلي الاجمالي للسنوات العشر الماضية ايجابي مقارباً ال5 في المئة. الدخل الفردي لا يقل عن 2500 دولار، وخط الفقر انحسر في عتبة ال6 في المئة، اكثر من 76 في المئة يملكون مساكنهم و90 في المئة يتمتعون بالنور الكهربائي والمياه العذبة وخدمات الاتصال من الهاتف الثابت والجوال. هنا تونس الخضراء، لا شيء تحت الارض، لا نفط ولا غاز، وفي السماء سنوات سمان بعد اعوام عجاف بالتداول، قطعاً ليست جنة الخلد ولا جحيم الشمال الكوري ولكن في الأفق ألف سؤال وسؤال. لعل ابرزها في عقل الشبيبة: كيف اضمن التأشيرة للضفاف الشمالية وفي أسوأ الحالات كيف اصل سالماً غانماً الى بلاد الطليان بعد مغامرة قوارب الموت "والحرقة" أو ما يعرف بالهجرة السرية. وما بين عظمة التاريخ وأقدار الجغرافيا، النجاحات والانجازات الاقتصادية الكمية وأبهة الحداثة وأحلام الشبيبة من جهة، تعلن المفارقة التونسية عن نفسها لترسم صورة سريالية حرية بالبحث اجتماعياً ونفسياً... المصادفة وحدها جمعتهما منذ ان فرقتهما نهاية تحصيلهما الجامعي وأيام كلية الآداب بحلوها ومرها. تعانقا طويلاً، واتفقا ان يسرقا من الزمن لحظات، لاعادة الكاميرا الى الوراء. ضحكا الى حد الثمالة. وانحبست دمعة حارة في ذكرى زميل غيبه الموت وآخر وراء القضبان. اعتدلا في الجلسة احتراماً لكهولة زاحفة. غادرا الاحلام الكبرى والافكار العظيمة، وعادت الاشياء اليومية الصغيرة كمركز للخطاب والمحادثة. لم يتجاوزا بعد ربيعهما الثلاثين ولكنهما ككل فقراء هذه البلد وطبقته المتوسطة التي لم تعد تعني شيئاً سوى رداءها اللفظي الديبلوماسي. كبرا بسرعة، تزوجا رفيقتا دربهما في الجامعة، انجبا البنين والبنات، تمكن حمادي من التوفير وتحصيل مسكن "اجتماعي" في محلة المروج جنوب العاصمة التونسية، وظفر بسيارة قديمة جلبها احد المهاجرين في اوروبا. اما سعد فقد اختار التمتع بمباهج الحياة الدنيا بصحبة زوجته العاشقة للرفاه وحياة الفنادق 5 نجوم... ومع ذلك فقد بدا حمادي مهموماً، متجهماً وأسر لزميل دراسته برغبته الحارقة في الهجرة نحو الخليج كزميلهما السابق نبيل ورفيقه فتحي. قال في دهشة التماثل الافتراضي لقد عاد نبيل السنة الماضية بسيارة رباعية الدفع 4×4. تصور كم يلزمني من معاناة السنين للظفر ب"الشبح" وسيارة الاحلام... والأهم من ذلك هل فكرت في مستقبل الابناء؟ لقد كنا محظوظين ولحقنا آخر ثمار دولة الاستقلال والرفاه. تعليم مجاني ومنحة دراسية في الجامعة وأبواب العمل مفتوحة للجميع... ولكن لا شيء من هذا مضمون غداً لابنتي. تخيل بأن التاريخ يعيد نفسه وأعود مثلما كان ابي العامل البلدي "زبال الحدائق العمومية" في قاع السلم الاجتماعي... فكم هو قاسياً ان تتجرع الفقر مرتين في بداية الصبا وهوان الشيخوخة المرّ. ابرزت احصاءات رسمية في تونس، اعلنت نهاية العام الماضي بأن 763980 تونسياً يعيشون في الخارج منهم 5524 من ذوي الكفايات العالية. استقطبت منهم اوروبا 624500 مهاجر وتفرق البقية ما بين بلدان العرب وأدغال افريقيا ومدائن الاحلام في اميركا واستراليا. تاريخياً غدت تونس ارضاً للاستيطان اكثر منها جسراً نحو الضفاف الاخرى. ففي عام 1946 لم يهاجر منها سوى ألفي مواطن نحو فرنسا. ليرتفع عددهم في سنة الاستقلال عام 1956 الى نحو 6 آلاف ممن ارتبطوا بمصلحة مع الفرنسيين او بعض اليهود الذين توجسوا خفية من احداث الشرق الاوسط. فتحت اوروبا ذراعيها لعمال مستعمراتها القديمة مع نهاية الستينات وبداية السبعينات لانجاز بنيتها التحتية ومشاريع الحداثة، فشهدت قرى ومدن الساحل التونسي وشماله نزوح اعداد مهمة منها نحو مدائن الشمال قبل ان تغلق الابواب مجدداً سوى عبر ما يعرف بجمع شمل العائلات، فابتدع اهل الجنوب تقية الزواج ومصلحة الابناء كجسر للجنة الموعودة. وتبرز كشوفات البعثات الاجنبية في تونس، بأن غالبية الراغبين في تحصيل تأشيرة الى بلدان الشمال في السنوات الاخيرة ممن حصلوا على شهادة البكالوريا في تونس ويرغبون في اتمام تعليمهم الجامعي هناك او الحاصلين على شهادات جامعية عليا والحالمين بفرص عمل مغرية وآفاق اوسع في الخارج. ولاحظ الدكتور المهدي المبروك استاذ علم الاجتماع في الجامعة التونسية في بحثه عن الخصائص الديموغرافية والتعليمية والاقتصادية للمهاجرين السريين التوانسة في السنوات الاخيرة، بأن في الاعوام الثلاث الماضية بدأت النساء في المغامرة نحو بلاد الطليان. والمهاجر السري التونسي هو غير متزوج عموماً مع تنامي عدد المهاجرين المتزوجين مؤخراً. وأبرز الباحث ان غالبية المهاجرين السريين لم يتجازوا التسع سنوات في التعليم. ومنذ سنة 1996 الى سنة 2000 ارتفعت نسبة المهاجرين السريين ممن درسوا في المرحلة الثانية من التعليم الثانوي. لكن منذ سنتين عثر الباحث على مهاجرين ممن درسوا اكثر من سنة في التعليم العالي او الحائزين على الليسانس. وعزا هذا التطور في المستويات التعليمية الى ارتفاع نسبة التمدرس وأزمة تشغيل خريجي التعليم العالمي. واستنتج الدكتور المبروك بأن المهاجرين ينتمون الى شرائح اجتماعية فقيرة وليست معدمة وغالبيتهم يعملون في مهن هامشية مثل الخدمات والبناء، لكن الباحث سجل في السنوات الاخيرة حالات لمهاجرين ينتمون الى عائلات متوسطة الدخل. لا توجد احصاءات رسمية او مستقلة لاعداد الشباب المهاجرين سنوياً من المدن الساحلية، قليبية والمهدية وصفاقس، نحو الضفة الشمالية الايطالية، ولكن استمرار اكتشاف شبكات مهاجرة على رغم اليقظة والتنسيق المستمرين بين الجهات المختصة التونسية والايطالية وقوارب الموت التي دفعت قرابة 30 شاباً تونسياً الى بطن الحوت في السنة الماضية، تدفع الى التساؤل عن تلك الرغبة الجامحة والقاتلة احياناً في الحرقة والهجرة السرية لأحفاد أليسار. اندهش الجميع لغياب أنيس عن حفلة زفاف محاسن اول عنقود عائلته اول ايام عيد الفطر الاخير. كان انيس، ولا يزال، الشاب الجامعي الانيق الذي يضفي اجواء من الألفة والسرور على الجلسات والافراح العائلية ويمتعها بأعذب الاغنيات بصوته الشجي وعشقه الدائم للموسيقى ومباهج الحياة. صعق أب محاسن الدكتور احمد لما اخبره انيس بانقطاعه عن الموسيقى وأجواء الاعراس بدعوى حرمتها دينياً، فلم يعهد عن الفتى الجميل تزمتاً او تعصباً بقدر ما كان يسعى ككل تونسي لأخذ كل شيء بطرف ومصالحة الدين بالدنيا. وقالها انيس في جملة مختصرة ومفيدة قاطعة: "لقد اخترت الهجرة الى الله". ربما بدا الحديث عن عودة التدين الى صفوف الشبيبة التونسية مستهلكاً ولكن حيث وليت وجهك نحو العائلة او رفاق الحي او المحلة وزملاء الكلية او المكاتب تكتشف أن احدهم اصبح قلبه معلقاً بالمساجد او اختارت احداهن ارتداء الحجاب. ولقد اتخذت المسألة حيزاً رسمياً عندما دعا نواب الأمة في مناقشتهم هذه الايام لموازنة تونس لعام 2003 للبحث في أسباب وعودة التدين في دولة الحداثة وإقبال الشباب على المساجد. وتساءلت نائبة عن سر عودة الزي الطائفي بعد غياب عقد التسعينات. قال الشيخ السبعيني: "يريدون غلق ابواب الهجرة الى بلدان الشمال بعد ان فتحوا علينا ابواب "جهنم" عبر الفضائيات، فأصبحنا عاجزين عن التحكم في بناتنا وأبنائنا الذين اكتشفوا مباهج الحياة الدنيا هناك وآفاق الحرية الواسعة في الشمال وطمأنينة الايمان في فضائيات الشرق". وأضاف سائق التاكسي بعفوية المواطن البسيط: "القات او اتفاقية التجارة العالمية، وما يحكى عن الشراكة الاورمتوسطية لا حول ولا قوة لنا به بقدر ما ستفتك بنا وبأرزاقنا... هم اعلنوا علينا الحرب بمعاهدات ومواثيق ونحن سنقطع عليهم طمأنينتهم غزاة في البحار ومهاجرين...". هنا تونس حيث اصبحت الهجرة الى الله او في ارضه الواسعة راية وخط المقاومة الاخيرة لشبيبة الطبقة المتوسطة التي فقدت ثقتها في نفسها وفي المستقبل.