منذ الفترة السابقة للحرب على العراق حتى الآن، تزايد عقد المقارنات - سواء في وسائل الإعلام العربية أو الأميركية أو في صفوف المثقفين والكتّاب العرب - بين الرئيس العراقي السابق صدام حسين والزعيم الراحل جمال عبدالناصر. نقول "تزايدت" المقارنات لأنها لم تكن وليدة أزمة الحرب على العراق ذاتها، بل سبقتها بكثير، ولأن المقصود بها ايحاءات سلبية، في حين كانت مقارنات سابقة وجدت بين الرجلين ما يراوح بين الايجاب والسلب. انطلقت بدايات هذه المقارنات من صفوف المعارضين لسياسات الرئيس المصري الراحل أنور السادات في السبعينات، من مصريين وعرب، خصوصاً في مختلف الفصائل القومية واليسارية، وحتى الناصرية، اذ بحثوا حينئذ عن قيادة عربية تجسد البديل لسياسات السادات التي اختلفوا معها. وتنوعت الاجتهادات، فمنهم من رأى البديل في القيادة الليبية، ومنهم من وجده في الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، وآخرون تطلعوا إلى القيادة العراقية التي كان صدام حسين حينذاك رجلها القوي - ولم يكن بعد زعيمها الأوحد - وبدأ هؤلاء في عقد المقارنات بين الرئيس عبدالناصر وهذه الزعامات، سعياً الى إبراز أوجه التشابه، بينما تصدى لهم إما كتّاب ومثقفون مؤيدون لسياسات السادات، أو من داخل فصائلهم الفكرية والسياسية نفسها لتفنيد تلك المقارنات. لكن المنحى السلبي لهذه المقارنات بين عبدالناصر وصدام بدأ، في رأينا، منذ حرب العراق ضد إيران في أيلول سبتمبر 1980، فهناك من تطوع حينذاك لتشبيه عبدالناصر بصدام، محاولاً المقارنة بين سياسات عبدالناصر العربية بشكل عام وبين هجوم العراق على إيران باعتبارها جميعاً سياسات توسعية. لكن هؤلاء وجدوا من تصدى لهم على الجانب الآخر فوضع التشابه في إطار ايجابي مقارناً بين ما سماه هؤلاء باعتبار العراق "حارس البوابة الشرقية" للأمة العربية في وجه ما اعتبروه هجمة "إيرانية قومية فارسية" معادية للعرب، وجهود عبدالناصر للدفاع عن استقلال الأمة العربية ودرء التهديدات الخارجية، وتحقيق أمنها القومي عسكرياً وسياسياً وأمنياً. كما وجد هؤلاء ضالتهم في عداء كل من الزعيمين للتيارات الإسلامية السياسية ذات التوجهات الاصولية ورأوا في ذلك دفاعاً عن الثقافة العربية ودورها التنويري. أما ثالث الحالات التي جرى فيها التشبيه بين عبدالناصر وصدام فكان ابان فترة الغزو العراقي للكويت في 2 آب اغسطس 1990، وكانت الرسالة سلبية في تلك المرة من وجهة نظر منتقدي الغزو - وكانوا هم الغالبية عربياً وعالمياً - اذ شبّه الغزو العراقي للكويت بالدور العسكري المصري في اليمن خلال الفترة من أيلول 1962 حتى تشرين الثاني نوفمبر 1967. والواقع أن الردود على هذا التشبيه بالنفي كانت الأكثر صدقية لأسباب عدة، أولها أن ادعاءات القيادة العراقية حينذاك بأن غزوها للكويت جاء استجابة لدعوة أو استغاثة من عناصر كويتية تحركت بهدف اسقاط النظام الأميري هناك، وشكلت مجلس قيادة ثورة تهاوى بعد فترة قصيرة من انطلاقه وأقلعت حتى السلطات العراقية عن استخدامه، نظراً الى كون التسلسل الزمني لإعلان هذه العناصر عن نفسها وعن قيامها بإدعاء إحداث تغيير في الكويت جاء تالياً للغزو العراقي وليس سابقاً عليه. وفي تفصيل هذا الفارق على الجانب اليمني، نقول إن ثورة أيلول 1962 كانت تحركاً مشتركاً لعناصر عسكرية ومدنية مناهضة للحكم الإمامي وسبق نجاحها ومطالبتها للقوات المصرية بالتدخل لدعمها وحدوث هذا التدخل فعلياً بفترة. أما ثانيها فهو أن الحال اليمنية عام 1962 كانت لها خصوصيتها التي لا تتوافر في معظم خصائصها مع الحال الكويتية عام 1990: يمن الأئمة كان في حال من العزلة الكاملة عن العالم الخارجي فرضها حكامه بشكل يتناقض مع تطور أوضاع العالم بعد الحرب العالمية الثانية ومعطيات الثورة العلمية والتكنولوجية، وكان نظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي غير متوائم مع التوقعات والتطلعات المشروعة للشعب اليمني، خصوصاً الفئات المتعلمة في صفوفه. ومن ناحية النظام السياسي، فبينما اتسم الحكم اليمني بالطابع الأوتوقراطي التقليدي، فإن الحكم الكويتي مر بمحاولات ديموقراطية تباينت في درجات النجاح والفشل. وبينما اتصف النظام الاقتصادي والاجتماعي في اليمن بالتفاوت الصارخ بين الحاكمين وقلة حولهم من جهة والغالبية من المحكومين من جانب آخر، وبسوء توزيع للثروات والدخول بين أبناء الشعب الواحد وهو امر تناقض مع الحال الكويتية حيث ان الحرمان من الحقوق السياسية والتفاوت الطبقي كان مقصوراً على التباين بين من يحمل الهوية الكويتية ومن يعمل بالكويت ولكنه لا يحمل هويتها. وفيما يتصل بالحالة الثقافية، فبينما كانت الحال اليمنية مثالاً على التجهيل المتعمد والتعتيم الشامل فإن الحال الكويتية كانت نقيضاً لذلك وشهدت الكويت منذ استقلالها خصوصاً منذ عقد السبعينات من القرن العشرين بشكل متزايد نهضة ثقافية وفكرية تمثلت في اصدار عدد من الدوريات وانشاء المجلس الوطني للثقافة والعلوم واصداراته المتنوعة في المجالات كافة والتي شكلت مصدر اشعاع داخل الكويت وخارجها في ظل دعم الدولة لها. إلا أن العامل الحاسم الذي استخدمه منتقدو هذه المقارنة بين عبدالناصر وصدام في ما يتصل بغزو العراق للكويت في آب اغسطس 1990 كان موقف عبدالناصر الواضح والحاسم والصريح عقب استقلال الكويت ورفضه القاطع لادعاءات الرئيس العراقي الراحل عبدالكريم قاسم بشأن ضم الكويت الى العراق والاستعداد للاعتداء عليها وغزوها. اما المرة الرابعة والاخيرة التي تمت فيها المقارنة بين عبدالناصر وصدام حسين فجاءت قبل الحرب على العراق وخلالها وبعدها. وقد سعى الدافعون بهذا الطرح - وهم افراد وجماعات من انتماءات فكرية وسياسية متنوعة - الى عقد المقارنة بشكل شامل بين الزعيمين وحقبتيهما. فمنهم من اعتبر سقوط نظام صدام حسين وهزيمة مصر في حرب الايام الستة 1967 هزيمة لنظم تجسد القومية العربية، ومنهم من رأى فيهما هزيمة للنموذج العلماني، وهناك من اعتبر ما اسماه بتراجع النظامين هزيمة للنظم الشمولية او السلطوية، او غير ذلك من تعبيرات يلبس بعضها ثوب الايديولوجيا والآخر ثوب "العلمية". إلا أن الملفت للنظر في حالة المقارنة بين الزعيمين في الغرب هو التركيز على عداء كليهما لاسرائيل واعتبار نظاميهما تهديداً وخطراً على أمن بل على وجود اسرائيل في ضوء تلويحهما بالقضاء على دولة اسرائيل. وبالطبع لا نكاد نرى هذا التشبيه الاتهامي إلا احياناً بين السطور وعلى استحياء في المقارنات التي جرت بين الزعيمين ونظاميهما السياسي داخل صفوف المنتقدين لهما الذين اجروا هذه المقارنات داخل الوطن العربي من كتّاب ومثقفين وغير ذلك. ومن جانبنا نرى ان هذه المقارنة حتى في شموليتها وتناولها الاجمالي للزعيمين والنظامين السياسيين لهما تفتقد الى العديد من مقومات التشابه والتماثل بين الحالتين. فهناك تباين واضح بين حجم ونوع الحرمان من الحريات وممارسات القمع السياسي في الحالتين، كما انه بينما تلقى النظام السياسي العراقي الاتهامات بأنه مارس الابادة بحق قطاعات من شعبه في مناسبات مختلفة، خصوصاً الاكراد والشيعة، فإننا لم نشهد هذا الاتهام في حال الرئيس عبدالناصر لغيابه واقتصار انتقاد الممارسات المنافية للديموقراطية على المعارضين النشطين سياسياً. كذلك فإن هزيمة مصر عبدالناصر 1967 ومن دون التقليل من ثقل هذه الهزيمة وما مثلته من انكسار في مسيرة الشعب المصري ومعنوياته خصوصاً الشباب فانها لا ترقى بأي حال من الأحوال الى السقوط الكامل خصوصاً في حال العاصمة بغداد نظام الرئيس صدام حسين. وبينما رأينا في حال الرئيس عبدالناصر اسراعاً منه الى الاعلان عن مسؤوليته الكاملة عن الهزيمة والاعلان عن التنحي عن الحكم، فإننا لم نشهد اعلاناً مماثلاً من القيادة العراقية السابقة لا بعد غزو العراق للكويت او عقب الهزيمة في حرب العراق الاخيرة. ولا ينفي ما تقدم وجود وجوه للتشابه في ان الزعيمين تحدثا وان بدرجات متفاوتة عن تآمر دولي متعدد الاطراف ادى الى الهزيمة. امر آخر يمثل نقطة الخلاف بين الحالتين: عراق صدام ومصر عبدالناصر، فقيادة الرئيس عبد الناصر كانت قيادة "كاريزمية" من طراز لا يتكرر كثيراً ولا يرتبط بالضرورة بكون صاحبه رئيس دولة بل بكونه صاحب شعبية او جماهيرية تلقائية في صفوف ابناء بلده او امته. وبالتالي، لم يكن مصدر قوة الرئيس عبدالناصر هو الجيش بالرغم من انه الاداة التي اوصلت تنظيم "الضباط الاحرار" للحكم في 23 يوليه 1952، ولم يكن هو التخلص من العديد من المعارضين السياسيين او القبضة القوية للاجهزة الامنية، بالرغم من العديد من التحفظات التي ابداها العديدون بشأن دور تلك الاجهزة في مجمل الحياة السياسية في عهد عبدالناصر. بل كان مصدر هذه الشعبية والشخصية الكاريزمية هو العلاقة المباشرة والتفاعل الحي بين عبدالناصر والجماهير المصرية، بل والعربية، ووجود تواصل بين الطرفين بشكل مستمر جعل للعلاقة خصوصيتها. وكل ما تقدم لا ينطبق بشكل طوعي على الحال العراقية في زمن الرئيس صدام حسين، وتحت حكمه وحكم اجهزته. واخيراً، فإن الرئيس عبدالناصر حاول قدر الامكان عقب هزيمة 1967 تصحيح بعض الاخطاء ومراجعة بعض الامور النظرية والممارسات العملية بهدف الاصلاح وذلك بدرجات متفاوتة من النجاح وبقدر ما سمح به الزمن الباقي من حياته، وهو امر لم نشهد له بشكل واضح مثيلاً في حال العراق بعد حرب 1990 - 1991 وان كان البعض يرى ان جنوح النظام العراقي السابق الى استخدام الشعارات الاسلامية عقب تلك الحرب كان احد اشكال المراجعة الضمنية لنظرياته وممارسته بهدف تعظيم المكون الاسلامي وموازنته للبعد القومي. * كاتب مصري.