"بهجة العمى" هي الرواية الأولى للكاتب ياسر ابراهيم، بعد مجموعتين قصصيتين: "لحم الحي" 1993 و"الطرف الأزرق من الطيف" 1996. بشكل أو بآخر ينتمي نوع كتابة "بهجة العمى" إلى كتابة مارقة، خارجة عن سياقات الكتابات الروائية التقليدية، كتابة تكتسب شرعية وجود هشة وورقية تُواجه في الأغلب، الرفض والنفي والاستبعاد. الحكاية التي تدور الرواية في فلكها حكاية بسيطة، وتكاد تكون ماثلة في مشهد واحد بسيط يجري إجتراره عبر مئة وخمسين صفحة، "الحكاية تبدأ بافتراض رجلين أحدهما أعمى والآخر مبصر- ربما يكون الأول هشام، وربما أكون أنا الثاني رمزي - كانا يمشيان معاً في مكان ما ووقعا في بئر، نفترض أنه عميق فمات الاثنان". هذه هي الحكاية الافتراضية، التي تفترض أيضاً ألا يأخذها القارئ على محمل الجد والواقعية، بالتأكيد الدائم على الإفتراض، والاستخدام المتكرر لألفاظ الشك مثل "ربما" و"قد" و"أظن" وغيرها، نحن نفترض، فقط، وجودها، الأعمى والمبصر، وهما الشخصيتان الروائيتان اللتان تبدأ بهما اللعبة السردية وتنتهي، وهما، أيضاً، ليسا سوى حدث عارض في حياة الراوي الأساسي للرواية الذي يظهر مستخدماً ضمير المتكلم أو ضمير الغائب مرات قليلة للغاية في الرواية، أهمها ظهوره الأول لكي يخبرنا، باللهجة العامية، بأنه كان يسير إلى جوار حفرة لبناء برج سكني حديث، فوجد في هذه الحفرة بقية صفحة من صحيفة مكتوب بها خبر صغير عن رجلين أحدهما أعمى والآخر مبصر ميتين في بئر، وهذه حكاية كيف توصل الكاتب إلى موضوع روايته التي هي "مش مترتبة، وكلمتين من هنا وكلمتين من هناك". تزخر الرواية بالعديد من هذه المفارقات، أحياناً هزلية وأخرى بالغة القتامة والعنف، وتفجر الكثير من التساؤلات والسخريات والانتقادات حتى إنها تجعل من "الرواية كنوع أدبي" محل التساؤل الأول، مفاهيم مثل الشخصيات، الحدث، العقدة، الذروة، البناء، الرواية، وغيرها توضع موضع الهجوم غير المباشر عبر طريقة الكتابة التي يمارسها الكاتب الذي هو قارئ يعلن عن نفسه في الرواية بصفته قارئ حوادث من طراز خاص، وقرأ حادثة فأخذ في إعادة صياغتها وكتابتها، فكيف كتبها؟ يتوالى السرد عبر ضميرين أساسيين: الضمير الأول الذي يطالعنا منذ بداية الرواية هو صوت هشام الأعمى، وتاريخه الشخصي المنشور خلال صفحات الرواية ويمكن تجميعه على النحو الآتي: تلميذ أعمى متفوق نسبياً تخرج من كلية الحقوق وصار مدرساً بالجامعة ومستشاراً لاحدى الهيئات القانونية الحكومية بمساعدة احد كبار الأساتذة الذي كان قد ضبطه في علاقة غرامية مع ابنته فزوجه منها، له مغامرات عاطفية عدة، بفضل عماه، تستخدمه الطالبات والنساء في علاقات غرامية، لهذا فهو يعرف الكثير عن النساء والعمى، في نهاية المطاف وهذه الحياة الصاخبة وفي بداية الرواية يلتقي رمزي وتنشأ بينهما علاقة، ومغامرة صغيرة تستغرق يوماً وليلة هي كل زمن الرواية، ولأن هشام، الذي لا يعرف، كان في الخامسة والأربعين لأم في الخامسة والخمسين، لا يحلم مثلما تحلم له اسرته بمجد الأعمى المثال والنموذج العمىد طه حسين، فإن هشام يطلق زوجته ويغادر العالم الذي لا يمنحه سوى العمى، عالم مؤسسة الزوجية، والمؤسسة بكل اشكالها، ليمنح جسده بعض البصر والرؤية في عالم "رمزي" المبصر والواعي بانحرافه وعمى الواقع من حوله. بهذا السرد لتاريخ الشخصية الأساسية في الرواية "هشام" أكون قد دمرت تماماً طريقة الرواية في الكشف عن شخصياتها واحداثها لأنها تقول ذلك بتفكيك مستمر ودائم لمشهد أساسي واحد، مشهد لقاء هشام برمزي وما جرى بينهما في يوم وليلة. أما رمزي المبصر، فهو أكثر عمى من هشام، لا يقدم النص عنه سوى القليل من التفاصيل الواقعية ربما، على وجه الشك ايضاً، هو عازف ايقاع بإحدى الفرق الموسيقية الذي هجر زوجته وطفله، ليتفرغ للعيش ومعرفة العالم السفلي السري في القاهرة، بينما يعرف هشام الانحلال الجنسي ونساء الطبقة الراقية، وبلقاء الشخصيتين ينفتح أفق النص على حكايات الجنس والسلطة والسياسة والتراث الأدبي أيضاً!. رمزي - لاحظ أن اسمه يتكون من كلمة "رمز" بإضافة ياء النسبة - يمكن اعتباره وجهاً آخر من وجوه هشام، وجه المبصر، لكنه الأكثر عمى، وهو الأكثر تحركاً داخل صفحات التراث الأدبي، يستلهم حكايات العمىان في كتب التراث "كرجوع الشيخ إلى صباه" و"الف ليلة وليلة"، و"روايات الأيام" و"مالك الحزين"، و"ليلة القدر" وذات وشخصيات أدباء عميان مثل بشار بن برد وأبو العلاء المعري وطه حسين وغيرهم كثير. أحياناً يظهر "رمزي" بصفته "الهو" بمصطلح فرويد - الذي ينشد إشباع رغباته الجسدية، واحياناً أخرى يبدو رمزي بصفته الأنا الأعلى العاقل المنطقي صارم الاحكام، العارف والمنغمس في الرذيلة معاً. وغير شخصيتي هشام ورمزي لا تقدم الرواية أي شخصيات اخرى، فقط اسماء، على كثرة ما في الرواية من فتيات ورجال ونساء، فهم أقرب إلى انماط الزوجة المترفة، الأم المتفلسفة بالامثال الشعبية، الأخت، استاذ الجامعة، وغيرهم. بين صوتي هشام ورمزي تسرد الرواية، احياناً بالتبادل بين هشام ثم يليه صوت رمزي، يستأثر أحدهما بمساحة السرد خلال مقطع كامل أو يتداخل الصوتان في المقطع نفسه، وفي حالات محدودة يقفز إلى السرد صوت ضمير الغائب، الذي يعلق أو يتدخل لمجرد التداخل، ليست هناك اختلافات أو فروق أساسية بين صوتي هشام ورمزي، فما يقولانه يكاد يتماثل، وباللغة نفسها تقريباً، حتى لتبدو الرواية بأكملها عبارة عن مونولوج داخلي طويل، يقول هشام عن رمزي "بدا لي في تلك اللحظة أن صوته ربما كان احد أصواتي الداخلية، تلك الأوهام التي تجعلني أدين نفسي". وتبدو الرواية برمتها تجربة في البناء والهدم المستمر، بتأكيد نفي ما سبق إثباته، وتدمير ما قد يكون تم إكمال بنائه، وتعضيد ثقة القارئ فيه، وأمثلة ذلك كثيرة، مثلاً الذروة الأساسية في علاقة هشام بزوجته فهناك بناؤها وتأكيدها في مشهد بالغ الطرافة والعمق، هشام يعود الى البيت بصحبة صديقه رمزي ويجلسون لتناول الشاي وأكل الحلوى، يدرك هشام - الأعمى - ان زوجته وصديقه يتبادلان الحب أمامه، محاولين كتم أصوات لذتهما، يتركهما ثم يرتدي ملابسه ويخرج مع صديقه بعد ان يطلق زوجته، هذا الحدث الذي دُعم كثيراً بوصف طبيعة شخصية الزوجة، يُنفى تماماً بعد صفحات طويلة، على لسان رمزي، الذي يرى أن ما حدث لم يحدث سوى في خيال هشام فقط، في إحدى اللحظات الفارقة، التي تصر على تدمير ما تم التأكيد عليه يصرح رمزي بأنه "في تلك المسيرة من العماء لن يستطيع ذلك النص أن يقول شيئاً على الأطلاق" بعد أن كنا قد اقتنعنا بأن النص "هو عمل الراوي الغائب، ها هو رمزي هو الذي يكتب النص. وإذا أضفنا إلى ذلك التداخل الغزير في استخدام الضمائر، حيث تتداخل الأصوات في شكل مربك، واحياناً ملغز ومبهم، أكد ذلك أن زعزعة الثقة في البناء كله هو القوام الأساس للعبة الروائية الجديدة التي تستخدم بعض الأدوات التقليدية من سرد وشخصيات وأحداث وإيهام وتخييل... ولعبة "بهجة العمى" هي لعبة ذهنية في الأساس، تتعامل مع المفاهيم والأفكار والتصورات والكلي، أكثر من تعاملها مع الفردي والشخصيات والاحداث والسرد القصصي، فالتأملات تشغل حيزاً كبيراً من خطاب كل من هشام ورمزي والبحث عن معاني العمى العضوي والرمزي والاجتماعي وعلاقاته بالسلطة السياسية، وبالساحر السياسي، الذي يعمي الجماهير عن حقيقة ما يحدث، هي الشاغل الأكبر في الرواية كلها، بحيث يصير لدينا في النهاية رمزين متشخصين، العمى والبصر. وفي اتجاه مناقض لمفاهيم البناء والشخصيات والعقدة والأحداث واللغة الأدبية تدشن كل ذلك، بهجة العمى صورتنا كرواية، تجمع بين المتناقضات في الشكل والمضمون، وتفسح مجالها لاختبار واحتواء أشكال أدبية أخرى كالمقالة والتحليل النقدي والتأملات وشذرات الحكمة، وتترك بنيتها التي لا مركز لها، للتفكك والشك والانهيار، شظايا من شخصيات وأحداث وبحث عن معنى العمى في قواميس اللغة والأمثال الشعبية وحكايات الأدباء العمىان، والشخصيات الروائية العمىاء في الروايات العربية الحديثة. أما العالم الذي تصفه الرواية فهو العالم الذي لم يعد للوفرة والشح فيه مكان، ولم يعد هناك مكان لأي شيء... وبذلك لا يكون هناك مكان للفوارق الاجتماعية في هذا المجزر الآلي "وكذلك هو العالم الذي فيه شبه كبير بين وجوه البشر ووجوه الحيوانات، فحديقة الحيوان هي الشكل المجرد للحديقة البشرية، وهو العالم الذي يحلم فيه هشام، ذات مرة، أن يخرج الطلبة عراة تماماً احتجاجاً على هذا العالم الذي تحول إلى صورة واحدة ومكررة ومعدة للاستهلاك الجماعي، بعبارات الكاتب. هو أيضاً عالم البحث عن البصر في ظل عمى جماعي مقيم وتصنعه عوامل متشابكة ومتداخلة، السياسة التي هي لعبة الساحر الذي يُعمي مشاهديه عن حيله وألعابه، والعلاقات الاجتماعية التي يضيع فيها أي معنى للمشاعر الانسانية وعلاقات الحب والكراهية، عالم من الوجود الفردي المنعزل والمهمش والمحبط. واللغة التي تقدم هذا العالم من خلالها بهجة العمى هي لغة جارحة، حادة، وانفعالية أحياناً، وأبعد ما تكون عن لغة الحياد والتشيؤ من قبل الكاتب، تتماهى فيها الحدود بين الفصحى والعامية والالفاظ الأجنبية التي تكتب بالحروف العربية، لغة تتطابق مع نفي الأدبية عن الرواية، وتستبعد الاسلوب والبلاغة والمجاز، تسمى الأشياء والحركات والمحرمات باسمائها المتداولة في الحياة اليومية، ولا تخجل من اللذة والشهوة والفوضى لأن الكاتب، الجريء حقيقة يخلص لنظرية هشام القائلة بأنه يجب ألا "تغمض عينيك وتتخيل، لكن افتح عينيك فقد انتهى الخيال طالما نحن في هذا البئر".