معرض "أنا عربية" يفتتح أبوابه لاستقبال الجمهور في منطقة "فيا رياض"    باكستان تقدم لزوار معرض "بَنان" أشهر المنتجات الحرفية المصنعة على أيدي نساء القرى    مطارات الدمام تدشن مطارنا أخضر مع مسافريها بإستخدام الذكاء الاصطناعي    ديوانية الأطباء في اللقاء ال89 عن شبكية العين    الحملة الشعبية لإغاثة الفلسطينيين تصل 702,165,745 ريالًا    الجبلين يتعادل مع الحزم إيجابياً في دوري يلو    "أخضر السيدات" يخسر وديته أمام نظيره الفلسطيني    حرمان قاصر وجه إهانات عنصرية إلى فينيسيوس من دخول الملاعب لمدة عام    الأهلي يتغلب على الوحدة بهدف محرز في دوري روشن للمحترفين    أمير منطقة تبوك يستقبل رئيس واعضاء مجلس ادارة جمعية التوحد بالمنطقة    مدني الزلفي ينفذ التمرين الفرضي ل كارثة سيول بحي العزيزية    مدني أبها يخمد حريقًا في غرفة خارجية نتيجة وميض لحظي    أمانة القصيم توقع عقداً بأكثر من 11 مليون ريال لمشروع تأهيل مجاري الأودية    ندى الغامدي تتوج بجائزة الأمير سعود بن نهار آل سعود    البنك المركزي الروسي: لا حاجة لإجراءات طارئة لدعم قيمة الروبل    6 مراحل تاريخية مهمة أسست ل«قطار الرياض».. تعرف عليها    «سلمان للإغاثة» يختتم المشروع الطبي التطوعي للجراحات المتخصصة والجراحة العامة للأطفال في سقطرى    المملكة تفوز بعضوية الهيئة الاستشارية الدولية المعنية بمرونة الكابلات البحرية    محرز يهدي الأهلي فوزاً على الوحدة في دوري روشن    نعيم قاسم: حققنا «نصراً إلهياً» أكبر من انتصارنا في 2006    القادسية يتفوق على الخليج    النصر يكسب ضمك بثنائية رونالدو ويخسر سيماكان    الجيش السوري يستعيد السيطرة على مواقع بريفي حلب وإدلب    "مكافحة المخدرات" تضبط أكثر من (2.4) مليون قرص من مادة الإمفيتامين المخدر بمنطقة الرياض    خطيب المسجد النبوي: السجود ملجأ إلى الله وعلاج للقلوب وتفريج للهموم    السعودية تتسلّم مواطنًا مطلوبًا دوليًا في قضايا فساد مالي وإداري من روسيا الاتحادية    والد الأديب سهم الدعجاني في ذمة الله    الشؤون الإسلامية تطلق الدورة التأهلية لمنسوبي المساجد    «الأونروا»: أعنف قصف على غزة منذ الحرب العالمية الثانية    خطيب المسجد الحرام: أعظمِ أعمالِ البِرِّ أن يترُكَ العبدُ خلفَه ذُرّيَّة صالحة مباركة    وكيل إمارة جازان للشؤون الأمنية يفتتح البرنامج الدعوي "المخدرات عدو التنمية"    وزارة الرياضة تُعلن تفاصيل النسخة السادسة من رالي داكار السعودية 2025    التشكيلي الخزمري: وصلت لما أصبو إليه وأتعمد الرمزية لتعميق الفكرة    الملحم يعيد المعارك الأدبية بمهاجمة «حياة القصيبي في الإدارة»    تقدمهم عدد من الأمراء ونوابهم.. المصلون يؤدون صلاة الاستسقاء بالمناطق كافة    طبيب يواجه السجن 582 عاماً    «كورونا» يُحارب السرطان.. أبحاث تكشف علاجاً واعداً    ذوو الاحتياجات الخاصة    انطباع نقدي لقصيدة «بعد حيِّي» للشاعرة منى البدراني    عبدالرحمن الربيعي.. الإتقان والأمانة    رواد التلفزيون السعودي.. ذكرى خالدة    اكتشافات النفط والغاز عززت موثوقية إمدادات المملكة لاستقرار الاقتصاد العالمي    فصل التوائم.. البداية والمسيرة    «متلازمة الغروب» لدى كبار السن    "راديو مدل بيست" توسع نطاق بثها وتصل إلى أبها    بالله نحسدك على ايش؟!    رسائل «أوريشنيك» الفرط صوتية    حملة توعوية بجدة عن التهاب المفاصل الفقارية المحوري    أمير تبوك يستقبل المواطن مطير الضيوفي الذي تنازل عن قاتل ابنه    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الدورة ال 162 للمجلس الوزاري التحضيري للمجلس الأعلى الخليجي    إنسانية عبدالعزيز بن سلمان    أمير حائل يعقد لقاءً مع قافلة شباب الغد    أكدت رفضها القاطع للإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.. السعودية تدعو لحظر جميع أسلحة الدمار الشامل    محمد بن عبدالرحمن يشرّف حفل سفارة عُمان    رئيس مجلس الشيوخ في باكستان يصل المدينة المنورة    أمير تبوك يقف على المراحل النهائية لمشروع مبنى مجلس المنطقة    هيئة تطوير محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ترصد ممارسات صيد جائر بالمحمية    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نكبات العقل . صور صدام إذ تمتزج بأعلام "حماس" ويروح البيان العربي يتحدث عن خيانة الكرد 1 من 2
نشر في الحياة يوم 15 - 06 - 2003

الحضور الحيوي للأكراد بعد انهيار نظام صدام حسين، بات يؤرق غالبية الكلام السياسي العربي السائد. هذا المقال "الأدبي - السياسي" يتلمس حساسية المسألة الكردية عربياً، ويقرأها في ضوء حقوق الأفراد والجماعات بلا استثناء.
السجالُ رخيصٌ. تولى الرعاعُ إدارةَ العجز في الانحلال الأخير للبيان العربي. ركاكة في أداء اللغة كركاكة الجيوش ذاتها في سياق البناء الحديث للأمم الركيكة، وحواضرها، وشعاب أمورها القائمة على فكرة المزرعة: تُؤَجَّر وتُورَّث.
مقايضات في الأخلاق لا مثيل لها إلاَّ في الشكل السلعي عند الريفيين، قبل تحديث عوالم المبادلات الصغيرة، بكرامة العملة، والشوق الصوفي في الورق والمعدن: العلماني يتحوَّط لخطابه بمبايعة الدينيِّ، والدينيُّ يتحوَّط لفكرة الثواب اللازمني بمبايعة الحاكم المؤسِّس ل"عدالة" النهب. ثم تأتي المجاهرة بالفُتْيا، في استباحة المَرْجِع، فراغاً كنداء الهاوية.
لا نعرف من أين نبدأ، في هذا الحصار المُحْكَم للإنحلال، بإحالة اللغة المعذَّبة إلى أنساقٍ موضوعاتٍ. الأكراد، الذين أحضرتُهم إلى المرافعة الخجولة، متهيبون من محنة النظر إلى أنفسهم في الخيال الشقي، المُعتل، لشركائهم في المكان المحيط. في إحدى الفضائيات العربية، المحمولة على نداء الدهماء، هبَّت صرخةٌ مدوية: "هؤلاء الأكراد الكفرة.. الكفرة". لم يقطع القائمون على رفاهية الإنشاء العنصري صوتَ الوافد في الهاتف كما فعلوا مع كردي قال: "إذا كانت لنا دولة..."، فأخرسوه. فُتيا التكفير تحوَّلت من متاع العالِم الفقيه، المَرْجِع، المتحصِّن بمشايعة الكوافِّ لجواز الإصدار، إلى متاع الرعاع في خطوط الهاتف. صدام حسين، نفسه، اقتدى بالرعاع في إهانة المَرْجع فأصدر فُتياه بالجهاد، من دار أدارها على غير وجه يثبت إقْرانَها بدارٍ للإسلام، ولم يتكلَّف له علمُه في فِقه البطش نَسَباً أبعد يقرِّبه من فقه الفقيه المعقودة له بيعةُ التكليف في التخصيص، والحصر، وإقامة السَّند من إرث الدِّيْن.
كيف اجتذب حكَّام، ذوو أيد في إهانة الإسلام، أحزاباً حواملَ متاعِ الدِّين فكرِهِ، وخُلْقِهِ، وأدبه، إلى بيْعة لا تخفى، في دارٍ يتوجب، شرعاً، حصرُها في مراتب دور الحرب، إن لم يكن زعمُ الإسترشاد بالدين مثلوماً، أو مؤيَّداً بنفاقٍ ما؟
"البعث"، الحزب المتقاسم هواءَ الشعوب على جهتي دجلة والفرات، ذو ثبات في إقصاء ما لا يدخل في ملكية عائلته وقرارها. تساوى في ذلك اليساريُّ، والعلماني، والديني، برمتهم. خيارُ انتسابه إلى الحياة خيارُ امتلاكٍ للآخر داخل مزرعته، التي خرج حدُّ توارثها بين الجماعة المتآخية على شعارٍ إلى استفراد القويِّ الأوحد بعقد الدولة لنفسه ولأبنائه، لا غير. ضررُ جماعات الدين الأحزابِ، والحركاتِ رسى على حطامٍ خرجت به، من قتلٍ وإختباءٍ ونزوح إلى الغرب ذاته: غربِ الشيطان. فما الذي نراه، اليوم، من بيعة بعض جماعات الدين لمن لا تصلح له البيعة؟ صور صدام حسين امتزجت بأعلام حركة "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في تظاهراتهما، وانبثقت مكاتب الرعاية، في حدود إعلامها، داخل سورية. ثم ارتفعت عقائر بعض أشدائها في نحوٍ لغوي متقوِّض القواعد عن خيانة الكرد لأبناء العِرق العربي، بوقوف الكرد إلى جانب الشيطان الغربي، في غزوه العراق.
لا بأس. لم نسمع من جماعات الدين هذه، وأقربائها، أسفاً خجولاً على مقتل الكرد بالكيمياء في حلبجة، مثلاً، والكرد مسلمون بعامة. قُتِل عراقيون - شيعة وغيرهم أيضاً. فإذا نحا الكردي إلى ملاذٍ، يقيه قتلاً تواطؤوا في الصمت عليه، خرج الرعاعُ، وجماعات العنصر النقيِّ، إلى تكفيره. عربٌ تآخوا، بقضِّ دولهم وقضيضها، تحت راية التحالف الغربي، في حرب الخليج الثانية، لإخراج نظام العراق من الكويت، ولم تنهض الألسنة إلى تكفير أحد. صدام احتل دولة عربية لها مواثيق وجودها ككيان في المنظومات، وسكت المنتصرون الآن، لصدام. عشر سنين قضاها حاكم بغداد، اللامسترشد بأحكام الشرع قط، في هدر دم العراق ضد إيران، المسلمة طبعاً، بأسلحة كيماوية، وفتاكة أخرى، من خزائن الغرب الشيطاني، فلم يلتفت أحد لتكفير الحاكم، الذي أقام الشقاق دِيْناً بماله في شوارع الفلسطينيين، بمسدساته المكتومة الصوت، وبمنحولين إلى نضال الشعب المغلوب على أمره، مثل أبي نضال، الذي أعدموه ليتّقوا وقوع خزانة أسراره الدموية في أيدي العارفين بوجودها.
الإعلام العربي، في بعضه المرئي والمكتوب، أراد من الكرد المنكوبين دوراً في "مقارعة" الغزاة، لا الترحيب بهم. حقٌ ذلك. يتوجب على أهل الملَّة، بأضعف الإيمان، النظر شزراً إلى الغريب الغازي، وهو - في حال العراق - أمر يتوجب أخذه على وجوه الاختلاف في النظر. فما الذي يستنهض في الكردي المنكوب غير المفاضلة بين على العراقيين، لا غيرهم، توصيف حمائله غزوِ غريبٍ و"غزو" من حاكم ابتكر، بعقل العالِم، نكباتٍ كرفاهية الفردوس؟ "الأنفال" لفظ من علوم الدين الغالب، يسترشد به خيالُ المحارب في اقتسام إرث المهزوم مالاً، وعيالاً. وهو لفظ الفداحة ذاته، الذي أنْفَذَهُ صدام في إقليم الكرد: جعلهم، على مجرى منازلات ما قبل العشرة القرون، نَهْبَاً، مُباحيْن. فكيف أجاز صمتُ جماعات الدين استعارةَ الحاكم اللامتقيد بشرعٍ لفظاً لا يتوجب إنفاذُهُ في الكردي المسلم؟ بل ها بعضهم هرع إليه، عبر الحدود المفتوحة للشريك البعثي، بمفخَّخين بأحزمة النَّسف كي يُنجدوا نظاماً ضربَ مآذن مساجد النجف بقذائف الدبابات.
تعالوا نفسِّر قليلاً، بخيال الوقائع ومصادرها الزمنية، هذه الحبكة الساخرة في تآلُف المتنافِرات: الحاكم السوري، المحصول له، في التوثيق، مَلَكَةُ ابتكار الشقاق في همَّة الفلسطيني، باجتذاب حركاته ومتاع بيته، يقف، راهناً قبل الراهن بقليل - أي حدوث الزَّمَعَةِ عن يد كولن باول، في ترتيب الحرية للفلسطيني بالغيرة على قراره !!. لا نعرف إذا نسيت حماس، والجهاد، حصار المخيمات في بيروت، ودكِّها في طرابلس بصواريخ الأشقاء. أو توصيف حارس أرواح المذبوحين في صبرا وشاتيلا، السيد المغدور إيلي جبيقة، وزيراً ذا حظوة لم توهب للفلسطيني. لا نعرف إن كانت أخلاق حماس والجهاد تستطيع استحضار نكبات جماعات إسلامية أخرى بخيال الحقائق، من هاوية التاريخ المقفلة بنسيان محسوب، في سورية، وفي لبنان حركة التوحيد، مثلاً. "حزب الله" سياق آخر لن يتقن نحويو جماعات الدين تلك إعرابَ مخارج حروفه، ومجزومه ومرفوعه، إلا إذا تهيَّأ للرعاع أن إيران ستقدم بطلب انتساب إلى "الطلائع" و"الشبيبة".
أخرجتْ سورية كل حزب لبناني آخر من منظومة الشهادة بالحق الناقص على تحرير جنوب لبنان. وقد وجد العرَّافون في تخمين سياسات الواقع، من جماعات الدين تلك، أمرَ استفراد "حزب الله" بالأنفال إعتاقاً يتوجب إجراؤه على أرض الله المستعبدة، فنصَّبوا الأمرَ مثالاً لتحرير فلسطين بأناس مفخخين، أصدروا جملةً منهم إلى حَرَم العراق، وليس إلى الجولان.
الجولان لعب بالنار في حقائق الممكن وأباطيل الممكن. الإحتلال الوقائي لجنوب لبنان، بعد استنفاد مادَّته بطبيعة التآكل المحسوبة بالربح والخسارة، ليس - قط - على نسق احتلال فلسطين والجولان. ستأتي مثاقيلُ وأوزانٌ من كل عيار إلى مفاوضات التقاسم الأخير لإرثٍ دوَّخ التاريخ ودوَّخه التاريخ. حتى شبعا اللبنانية ذاتها ستنحسر إلى سياق المجزوءات المرتبطة بهدوء السياسة، لأن عمدة "حزب الله" صرَّح بنفسه عن تقيُّد الأمور بموجبات جديدة بعد زيارة باول لدمشق. نعم. رامسفيلد الركيك استعار من الخراب، الذي استحدث به البعثُ روحَ الرعايا المنهوبين، فصاحةَ لغة الوعيد التي لا يتقن أسيادُ الموت فهمَ غيرها: "فليعرفوا أن لديهم جاراً جديداً".
والآن، في التسارع العاصف بأبواب دكاكين الجماعتين الإسلاميتين إقفالاً، فلنسترجع ما يضيء فهمنا بإشاراته، أو يعميها في هذا النفق المرصود بأنظمة لم ينتخبها شعب قط، ولنتمثل بركاكة الوقائع التي ألقت بزعيم "حزب العمال الكردي" في المجهول التركي.
في الآن الذي تمرُّ ممحاة العصبية العرقية فيه على أسماء القرى الكردية وبلداتها في سورية، فينكِّل الحرفُ العربيُّ المكتوب بالحرف الكردي المنطوق من لسان القرون الجليلة" في الآن هذا الذي لم يرجع فيه آلاف آلاف الأكراد إلى سجلات الجنسية التي أسقطتهم عصبيةُ الأخ العربي منها في 1962، حظي حزب كردي، من كردستان تركيا، فجاءة، بحظوة أين من كمِّها حيفُ أخيه في سورية. الابتزاز لاختصار مسارب هذه المقالة الذي قايضت به سياسةُ شقيق البعث العراقي أوجلانَ بالماء اتخذته تركيا مدخلاً إلى تسارع نهجها في ترويع القرى الكردية، وتمزيقها، والتنكيل بالهواء فيها. وحين استنفدت مقاصدَها، المستندة إلى توصيف الحزب الكردي بالإرهاب في شرع الغرب، الذي ساء بعض دوله أن يُساء تعاطفُهُ مع ذلك الحزب فيتمادى خارج مراقي نشاطه، بتغاضٍ سوريٍّ عن إسداء أية نصيحة لتفريق "الشغب" في شوارع ألمانيا عن "المناضَلَة" عن الحقِّ في شعاب طوروس" حين استنفدت تركيا ذلك، حشدت رجال الدرك على حدودها مع سورية فباع الخائفون "حزب العمال الكردستاني" بدراهم من هواء.
لم يصدق كردي واحد أن من يغير أسماءَ الطين النبيل في عمارة تاريخه سيعيد إلى الكردي رفاهية لقائه بالطين النبيل في عمارة تاريخه خارج سورية. أسماء أمكنة تتقوَّض بالممحاة العربية، فيما يبقى اسم تدمر، وجرابلس، وبانياس، على حاله. "توبز" الكردية، و"موزان"، و"تربسبيي"، و"هرم رش"...الخ، تتنحى لعدنانية، وقحطانية، وعمرانية، وحفصية، الخ. إنه، في السخرية الضارية، كمن يعيد إلى توت عنخ آمون نسباً عربياً بمفعول رجعي فيسميه توت زيد بن عنخ أمين.
فلنعد إلى ما نكاد نستنفده: صُرِف أوجلان تصريفاً في الإعراب العربي على رغم أعجميته، ففي أي تصريف سيستقر اسم حماس والجهاد الإسلامي؟ الأمثولة رقيقة: نما دعمها في سورية على قدر إغراقهما السلطةَ الفلسطينية في الإهتراء. برزت الجماعتان، ببعض السبق لحماس، في إنتفاضة الفلسطينيين أوائل العقد المنصرم. وكانت الانتفاضة تلك على قدر من الجاذبية في الإعلام الغربي، وفي أروقة الحقوق الكبرى والصغرى بين منابر الخطاب السياسي، فإذا بصاعقة احتلال طاغية بغداد للكويت تزلزل مآثرَ الفعل الفلسطيني، الذي لم يشهد تغليباً لسلاح النار على سلاح الحجر.
تراجع خطاب الأخلاق، والحق، في استئثار المشهد الجديد لغزوٍ لم تشهد الهمجيةُ مثيلاً له في اقتناص الشقيق الكبير للشقيق الصغير: نُهبت حجارة الشوارع، ورخام الأبنية، والأضابير، والمسامير، ثم عُلِّقت إلى الجدران سُبُحات رسوم صدام حسين في كل منعطف، كحالها في استراق النظر الصامت على هواء العراق من كل مئة خطوة في الشارع، وكل بشر في البيوت.
الخذلان الأميركي للفلسطيني، في مسيرة تشرده، أباح للكثيرين تصيَّدَ الألمِ الفلسطيني على نحو يعيده طليقاً في التيه. وكذا فعلت الجماعتان الاسلاميتان، الفلسطينيتان، المموَّلتان من نفط بعض خزائن الخليج، فأباحتا الإحتكام إلى الإنتصار لصدام حين حوصر، وقُهِرَ بفداحةٍ تجلب الشهيق إلى مرأى جيش محطم، مطعون بأهواء الحاكم الطاغية وخفَّتها.
كان محيِّراً أن تنتصر جماعات مغلوبة على أمرها في أرضها المُحتلة لحاكم يحتل شعباً آخر، لكنها كوفئت بهبات صدام، وباستقطاب بعض النزوع من الفلسطينيِّ البسيط، المتألم، إلى الانتقام. وهي رسالة سارع الزعيم الفلسطيني إلى التقاطها فانتصر، بدوره، لصدام حسين، فتلقَّفها إعلاميوه الغارقون في سذاجة البيان الركيك للشعار المُهلهل، يستعيرون ألفاظ "النشامى" و"الماجدات"..الخ، من لسان أبي المعارك. وكان من انزياح المشهد الفلسطيني عن أفق الحرب في فردوس النفط أن قبلت إدارة م. ت. ف بنصيحة الشريك المصري في الاستدراج إلى المعاهدات: هكذا ولدت اتفاقات أوسلو الناقصة البنود هدية من مخاض "أم المعارك"، لكن حماس، والجهاد الاسلامي، ظلتا على نازع اللعب بألم الفلسطيني في سياستيهما، مختصمتين في ذلك إلى الحَكَم البعثي الآخر غرب دجلة - حَكَمَ الشقاقات المتشيِّع لها، الذي كافأَ "جهاد" "الجهاد الإسلامي" بالترخيص لعبور المفخَّخين من شبانها إلى العراق.
لم يُعجب الأكراد، الملاميْنَ على انعتاق خيالهم من صناعة المقابر، بإمبراطور المقابر الجماعية، الآخذة في انكشاف آلافها. سمى بعض الإعلام العربي مفخَّخي الجهاد الإسلامي بالمجاهدين العرب إسوة بالأيدي البيض للمجاهدين الأفغان في ابتكار السواد، وكفَّرَ الكردَ. همسٌ اختلط بالتصريح، في الهرج الذي تصيَّد منه العقلُ العربي "عنصرَ الإثارة" في السرد كإقفال الصحاف المهرج أبواب دبابات الأميركيين على جنودهم، وهم يشيرون إلى "علاقاتٍ" مَّا للكرد بإسرائيل. لا بأس. وما انتفاع إسرائيل بكرد لا باع لهم في اختراق المستورات العربية مثل كوهين، أو عبدالحكيم عامر؟ تركيا المسلمة، الحائرة بين عمامة الخلافة وقبعة أتاتورك الأوروبية، لها آصرة أمنية مع إسرائيل. لمصر معاهدات مع إسرائيل خرجت بها إلى التفرُّج على اجتياح لبنان، وإعادة احتلال أرض السلطة الفلسطينية، عاجزة إلاّ عن النصح "الأخوي" بخروج الفلسطينيين من لبنان، ووجوب جلوس فرقاء أهل أوسلو حول منضدة البنود الخشبية. إعلامٌ عربي، فضائيُّ الرحاب، طالبانيُّ الهوى نسبة إلى طالبان المأسوف على شباب مجدها ماعاج عن "المؤامرة" الكردية على وحدة عربية مصونة من المحيط الهادر إلى الخليج الفارسي الثائر - وهو فارسي في الخرائط، وفي الأخبار، وفي المعاهدات بين ملل الجوار" ماعاج - كحالِ الشقيِّ على الطَّلل البالي - إلى مناسك الشرع الشيطاني في جمع تركيا، وسورية، وإيران، على مراقبة الكرد وفق اتفاق ثلاثي مكتوب، معلن، واجتماعات دورية. قومية تركية، وقومية عربية، وثالثة فارسية: بين سورية وإيران ورقة حزب الله، وجواذب الطائفة، ومعونات. لكن ماذا بين إيران الثورة الإسلامية وتركيا الثورة التغريبية؟ ماذا بين سورية الإبتزاز بأوجلان وتركيا الناظرة - بعد نسيان عربي لما اذَّعته حقوقاً من قبل في كيليكيا، والاسكندرونة المفقودة - إلى الموصل وكركوك؟. كان مرعباً وصفُ الإعلام العربي - بعضه الفضائيِّ المحلِّقِ بجناحي بن لادن، وبعضه المكتوب المعجب حتى الذهول ب"أداء الصحاف" المهرِّج إدعاءات الترك بالخوف من كيان كردي يُعلن كصواعق الأولمب، والتأسي على أحوال التركمان العراقيين" كان مرعباً وصفه على محمل "الخوف المشروع"، في ميلٍ إلى التركيِّ ضد الكرديِّ" في ميل إلى التخلي عن كيليكا، والاسكندرونة، ضد كردي لم يفخَّخ نفسه دفاعاً عن قصور صدام. نعم. تركيا، وايران، وسورية، يراقبون "عن كثب" رغبةَ الكردي في أن يبقى كردياً.
الشاب، الموصوم ب"المجاهد العربي"، صرح للفضائية العربية بموت آلاف من المفخَّخين أمام أحد القصور. لكنه اشتكى من أمر لم يلفت نظر "الفضائية": فهو لم يجد، بعد دخوله العراق، ماكان موعوداً به من لقاء مسؤولين ينظمون، و"يموِّلون". كان "المجاهد" ينتظر انقلاب كلمات القائد - حفظه الله ورعاه - إلى لحم وعظم في التهديد بإحالة بغداد جحيماً، فإذا برُسُل الجهاد الإسلامي حيارى في التيه: لا حرس جمهوريٌّ، لا دمى عدي، لا صحَّاف. هربوا أجمعين مُذْ هرب الزعيم - أبو المعارك بوزرائه، وإبنيه، وعائلته، تاركاً وراءه ما يؤجج حزنَ الفضائيات العربية في بلدان ترعى حقوق لسانها الناطق، وحزنَ صحافةٍ تستدير من أفق الحرية المكتوبة إلى الطاغية كمثال لما تريده في عالم بلا همسٍ حتى. لقد ترك صدام لحزنهم إسمه المنثور كغبار طلع النخيل المنكوب على الشوارع، والمدن، والمطارات" وترك رسومَه الحجرية، والمعدنية شفاعةً لخيال الإعلام المرئي، الذي رأى بعضه، في إحدى ندواته عن مستقبل مناهج التعليم، أن أي تغيير فيها هو استكمال لتدمير روح العراق، وخطوة على النقلة من بهجة الماضي إلى شقاء المستقبل "المعتم".
"الله. الوطن. القائد.": تلك كانت منظومة الخيال البعثي المرفوعة شعاراً نافراً على بعض الجدران يُرى عياناً. والأرجح أن القائد المناضل عن إباء العائلة في تكريت أزاح الوطن عن السياق المعروف في تخصيص الأوطان بالتعريف، وبقي وحده في سدة عالم الشهادة: صوره على أوراق النقد - رمزِ سيرورة الدولة في المبادلات، وعلى الطوابع، وعلى كل صفحة من صفحات كتب مناهج التعليم، التي رأينا الأطفال يحملونها إلى مدارسهم المنهوبة: صورة الرئيس، إذاً، كانت "المناهج" التي أقلق مصيرُها عقلَ بعض الإعلام العربي.
في معرض التذكير بإزاحة القائد للوطن يتوجب النظر إلى ابتهاج الإعلام العربي بعودته إلى الشارع حياً، مبتسماً، جذلاً، ترفعه الجموع كابتهال للقدر. الفضائيات المرئية من أرض الشقاء العربي كانت تتبارى في ابتكار تشويقها للعامة، والرعاع، والدهماء، والسوقة، والغوغاء. بلا اعتذار من استعادة صفات هي من موجبات عقل التفضيل الطبقي النذل، بعدما عاد الشارع العربي إلى مطابقة نفسه مع الخواء الدليل. خُطب القائد الهارب، المصورة ل"رفع الهمم"، تخرج من محفوظات شهور سابقة، أو تُعرض طازجةً بوصولٍ آمن إلى أيدي مذيعيها. حتى الصحافة العربية العائمة على حريةٍ في الغرب، والأمينة - في الآن ذاته - لمبادئ التربية "الراسخة" في "جمالية القتل"، جارت الفضائيات برسائل مصوَّرة من الزعيم طارت من بلد بلا كهرباء، مع بُراق الشهوات والرغبات، واضحةَ الحروف" واضحة المعاني.
خرج الزعيم إلى الشارع حياً، فوجد المنقَّبون في أرض الأقدار الخفية مساربَ إلى استخلاص العِبَر: لقد انتهى الغرب وغزاته. لا بأس. كيف استطاع معجب بصدام حتى عظامه أن يرى القائد ضاحكاً، مبتهجاً بنجاته، في يوم سقوط بغداد؟ أكانت صورته حياً هي وحدها مبعث النشوة لدى رعاع دهماء غفلوا عن انهيار الدولة برمتها بلا مقاومة يعتدُّ بها؟ القائد - إذاً - هو الوطن - بجلاء. والجيوش التي أنفق القائد المخلوع، والقواد العرب غير المخلوعين مقدرات الدولة على بنائها، هي - بجلاء - ذراع الحاكم في تحطيم الداخل، لا غير.
إذاً، لم ينهض الكرد "الكفرة"، في خطاب الفضائيات والإعلام المجاهد - أسوة بالمجاهدين العرب - إلى المدافعة الواجبة "شرعاً" عن الرئيس، الشديد الإيمان بمطْهَر المقابر الجماعية، صدام، ونجليه عدي وقصي، سابيَيْ قلوب عذراوات بغداد على مبدأ الشرع الطاهر في صوت الشيخ كاظم الساهر، الذي نرى إجازةَ المشيخة له بفُتيا الاستتباع الضروري في منحها لأسامة بن لادن، الفاتك، المجتذب إلى فخِّه أساطينَ الغرب لتلقينهم دروسَ الصحافِ الأُلْهْوب.
بحق الآلهة على ذلك الإعلام العربي - الفضائي المقيم في هامش الحرية ببلدانه، والمكتوب المترف بنعمة الحرية في الغرب - لماذا ليس من حق الأكراد "خيانة" صدام حسين؟ ونحن نستعير لفظ "الخيانة" مجذبةً للتسامح وفق تعبير يناسب خطط العقل العربي في التخوين والتكفير. لماذا ليس على الأكراد إعلان نوازعهم الهوجاء في الحنين - كبشر، لا كقطيع - إلى عالم بلا مجازر لهم ولدجاجاتهم؟ إعلام عربي، في الحدود المضمونة لنجاته من قصاص الشرطي، لا يحسن إلاّ التبشير ب"الخوف من الحرية"، وإشاعة حسِّ الكارثة، والريبة، في كل مظهر من مظاهر عراق ما بعد الطاغية.
* شاعر سوري مقيم في السويد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.