جلست تنتظر صديقتها. أخيراً سيلتئم شملهما بعد شهرين من غياب قسري شاءته ظروف العمل وموجبات الحياة اليومية. المقهى شبه خال إلا من بضع طاولات جمعت حولها شخصين أو ثلاثة. وصلت قبل الأوان بنصف ساعة خشية أن تؤسر في زحمة سير خانقة تحول دون احترامها الموعد. تحبّ هذه الساعات من اليوم عندما يرخي الليل ستاره وينشر أجنحته السود ويعبث القمر في السماء متوانياً. طلبت فنجان قهوة وقطعة حلوى وراحت تقتل الوقت بجريدة اشترتها من بائع متجوّل وهي في طريقها إلى المقهى. تناهى إلى مسامعها صوت مكابح سيارة مصحوب بجلبة صادرة عن مذياع أطلق له العنان فملأ شارع الحمراء بألحانه. غريب أمر الشباب يصرّ على إشراك الآخرين بما يسمعه. تفرّست في مكان الصوت بفضول. لمحت شاباً أسمر فارع الطول، بهيّ الطلعة يترجّل من سيارة أنيقة. دخل المقهى بخطى واثقة وجلس الى الطاولة المقابلة. عبق المقهى بأريج عبيره الساحر. حاولت التركيز على الجريدة المتناثرة أمامها، إلا أنّها شعرت بعينيه تصوّبان عليها. أيظنّ بأنّها ستستسلم له وتذعن لسحره في لحظات؟ رسمت بعزم على محيّاها مظهر الهدوء ورباطة الجأش. طفقت تسرّح بصرها في ما حواليها متجاهلة سهامه، كمن لا تعير الأمر شأناً. التقى نظرها بنظره فالتهب خدّاها خفراً، إلا أنّه لم يتكلّف عناء إخفاء ابتسامته. ما به لا يرفع ناظريه عنها؟ شعور تعجز عن ترجمته ألفاظاً يدب في أعماقها. لاح في عينيه وميض من ثقة وزهوّ ليث وقع على فريسته، افترّ ثغره عن ابتسامة. لم لا يسعها الإفلات من قبضة سحره؟ كان لها من التوتّر ما حال دون تناولها أي لقمة. اختلج قلبها في صدرها. ما بها تستسلم لألسنة السعير المتوهّجة تتسلّل إلى أعماقها؟ مرّر أصابعه في شعره الكثّ الأسود مرّات عدّة. التقطت على حين غفلة نظرةً خاطفة على وجهها في المرآة كأنّها تريد التأكّد من أنوثتها. هل ازداد وجهها بريقاً؟ هل بات ضوء القمر أشدّ وهجاً؟ شيء ما يستيقظ في داخلها وكأنّها باتت تستلذّ بجاذبيته تلتهم عنفوانها. تناول هاتفه مخاطبا أحد الأصدقاء وهو ينظر إليها بعينين متّقظدتين. تعالى نغم في الفناء يبثّه المذياع راسماً على شفتيها ابتسظامة حائرة. كلّ ما في سحنته يحاورها، شعره المتموّج، أناقة هندامه، حركات أصابعه، صوته الدافئ. شيء ما في رجولته المتفجّرة يشدّها إليه، عيناه تخاطبانها فتلبّي نداء الإغراء وتوغل في قسمات وجظهه وتفتن بغنج ابتسامته أو ومض نظراته تناديها بصمت إلى جنة تموّجت ألواناً وقد هبطت أرضاً فتحلّق معه على أجنحة الطيور سعياً لقلبها وراء الحبور...