"لا أريد أن أصنع مجرد فيلم عن فريدا كالو، ما أريده بكل بساطة هو إنصافها". قالت سلمى حايك وكأنها تريد أن يُفهم من كلامها أن "فريدا" ما هو إلا إنصاف لسلمى نفسها قبل أي شيء آخر. أفليست هي فريدا وقصتها تشكل جزءاً لا يتجزأ من حياتها؟ وبالفعل وبإجماع الكثيرين، لم تعد سلمى حايك مع "فريدا" مجرد رمز للجنس والإثارة أو "القنبلة اللاتينية"، تلك الصورة التي كثيراً ما صورتها بها هوليوود، إنما على العكس أثبتت تلك الممثلة ذات الجذور اللبنانية موهبة وبراعة وقدرة تمثيلية كبيرة الى درجة حَمْل فيلم بكامله على كتفيها وإنتاجه ثم إيصاله الى مرتبة عالية من النجاح ليرشح لست جوائز أوسكار منها جائزة أفضل ممثلة. كل ذلك على رغم الموازنة المتواضعة التي لم تتجاوز العشرة ملايين دولار وهو رقم متدن قياساً بكلفة الانتاجات الضخمة. علامات تعجب والغريب في الأمر كله أننا لو رجعنا بالتاريخ الى الوراء وتحديداً الى عام 1983 سنة حصول نانسي هاردين على حقوق نقل كتاب هايدين هيريرا: "فريدا" الى الشاشة لارتسمت علامات التعجب على وجوهنا، إذ لم يكن يومها سمع أحد بتلك الفنانة التي عكست برسومها حياة صاخبة مملوءة بالقسوة والعذاب، وبالتالي كان من الصعب كما تقول هاردين اقناع الاستوديوات بتحويل الكتاب الى فيلم: "لم يشأ أحد ذلك، لا أحد". أما المفاجأة فجاءت صاعقة بعد ما يقارب العشر سنوات، إذ سرعان ما تبدلت الأحوال وجذبت رسوم فريدا كالو وحياتها الملايين، فأصبحت شيئاً فشيئاً على كل شفة ولسان وأضحت بسرعة البرق محطّ أنظار هوليوود ونجماتها، وكان السباق على أشدّه في أوساط الفنانات الطامحات الى دور من هذا الطراز. فمن التي ستفوز بجائزة تجسيد شخصية تلك الفنانة التي عاشت خيبات كثيرة ومع هذا بقيت صامدة حتى النهاية؟ مادونا من جهة وجينيفر لوبيز من جهة أخرى الى أن كانت الغلبة في نهاية المطاف لسلمى حايك التي انتظرت وصبرت قرابة السبع سنوات لتحقيق حلمها، ذلك الحلم الذي لا بد من أن ينصفها وينقلها الى مصاف الأوائل... ولأن حياة الكبار من أهل الفن والفكر والأدب لا يمكن أن تختزل في فيلم محصور بفترة زمنية محددة غالباً ما لا تتجاوز الساعتين من الزمن، فإن المؤكد في الأمر كله أن أهمية "فريدا" وقوته تكمنان بفريدا نفسها، بسلمى حايك هذه الفنانة التي لعبت أجمل أدوارها على الإطلاق وهو الدور الذي لطالما شكّل هاجساً منذ سن المراهقة: إمرأة عاشقة، شغفت بحب فنان لا يتردد في خيانتها، فنانة تقسو عليها الحياة فتلجأ الى الفن كسبيل للخلاص عاكسة في لوحاتها ما تكبدته من معاناة لعل أهمها خيباتها مع دييغو ريفيرا. حقيقة جسدتها جولي تايمور مخرجة الفيلم بابتكارها بعض اللقطات البصرية أهمها اللوحات الحية: لوحات تذرف الدموع... لوحات تعبر من مرحلة الى مرحلة من الجمود المضني الى الحياة، الأمر الذي يشدد على تلك العلاقة التي تربط ما بين الفن والحقيقة. ألم تشدّد فريدا بنفسها على هذا الأمر حينما قالت: "يعتقدون أنني فنانة سوريالية، إلا أنني لم أكن كذلك... لم أرسم يوماً أي أحلام، إنما رسمت حقيقتي؟". أحاسيس وأمانة وحقيقة فريدا كالو نقلتها سلمى حايك بأمانة الى الشاشة. نقلت أحاسيسها وفرحها وحزنها، وألمها ووجعها وحرصها. نقلت تناقضاتها وتمردها وضعفها، حبها الحياة وكراهيتها في الوقت نفسه، جرأتها وعدم إخفائها علاقاتها بالنساء. وكذلك نضالها، علاقتها بتروتسكي وإعجابها به كرجل عدا عن إعجابها بفكره السياسي والتزامها الحزبي الذي كان أغرب وأضعف ما في الفيلم انه مرّ عليه سريعاً. ألم تغمز فريدا نفسها من قناة دييغو وخياناته المتكررة لها حينما قالت له عن تروتسكي في أحد المشاهد: "انه الرجل الرجل الذي يضحي بنزواته إرضاء لمحبوبته"؟ ألم يكن في هذا اتهام لزوجها بعد أن أضحى في نظرها "صورة حية لذلك الرجل البربري المتوحش" الذي لا يتوانى "عن خيانتها حتى مع أقرب المقربات الى قلبها، أختها كريستينا؟". ومع هذا كان حبها له أقوى من أن تفرقه النزوات والهفوات البشرية، فها هي وعلى رغم كل ما تكبدته بسببه تغفر له ذنوبه وتعود إليه... بكل شغفها وشوقها... إمرأة قوية في الظاهر، ضعيفة أمام من تحب، هذا هو التناقض الذي يميز فريدا ويطبع حياتها بألف سؤال وسؤال... أسئلة ترجمتها سلمى حايك على أرض الواقع بدخولها عميقاً في شخصية فريدا مظهرة الى العلن ذلك السحر الذي يطبع "أسطورة الفن المكسيكي" ويجذب إليها الملايين وفي أولى القائمة سلمى حايك التي لم تتوانَ مراراً وتكراراً عن الإعلان انه ما من أحد سواها سيجسد هذه الشخصية، فكان ما أرادت... وعندما تغوص في حياة فريدا كالو تدرك تماماً لماذا أصرت سلمى حايك على هذا الفيلم، وتفهم طبعاً أداءها المتميز فيه: ألم تكن بكل بساطة تعبّر عن نفسها من خلال فريدا وتثأر من خيباتها؟ ألم تعلن بنفسها أنها حينما كانت تنظر في المرآة إنما كانت ترى فريدا أمامها؟ ويبقى، هل كان من الممكن أن تفشل سلمى حايك وفي نفسها كل هذا الإيمان والإصرار والتحدي؟ أبداً، على رغم حجم المخاطرة خصوصاً متى عرفنا أنها أخذت الفيلم ككل على عاتقها وأنتجته مستعينة بأصدقائها من النجوم الذين قبلوا عبورهم الرمزي فيه من أمثال أشلي جاد وأنطونيو بانديراس وإدوار نورتن. "هنا عرفت عن حق أصدقائي ممن يدّعون ذلك"، قالت سلمى هذا إثر انتهائها من الفيلم وفي نفسها عتب على كل الذين لم يثقوا بها... وهكذا لا يستطيع كل من يدرك حجم المعاناة التي تكبدتها سلمى حايك ليخرج "فريدا" في الشكل الذي أتى به، إلا الإقرار بنجوميتها وبريقها وتألقها الفني. فريدا كالو صورة حية لإمرأة مجبولة بالألم، ذلك الألم الذي لم يفارقها منذ نعومة أظفارها ومنذ حادثة الأوتوبيس التي جعلتها مقعدة لسنوات عدة وصولاً الى ذاك الألم الذي تكبدته برفقة دييغو ريفيرا وطلاقها منه ثم اقترانها به من جديد. ألمٌ سيكون حافزها الأول على الخلق والإبداع... ألمٌ يصبح من خلاله للحياة معنى... وهكذا تقفل الستارة على حياة فريدا كالو وقد طُبعت بحادثتين كان لهما الأثر الأقسى في نفسها، وها هي لا تتردد في البوح بهما أمام دييغو فتقول: "حادثتان أساسيتان كان لهما أثر لا يُنسى في حياتي: حادثة الأوتوبيس ولقائي بك، إلا أن لقاءنا كان الأشد وقعاً والأكثر ألماً".