يمثل التنظيم الدولي محاولة قديمة من قبل الفاعلين الدوليين من أجل خلق صيغة مستقرة للتفاعلات المشتركة في ما بينهم. وأدرك هؤلاء الفاعلون أهمية هذا التنظيم بعد تجارب مريرة من الصراع غير المحكوم سوى بقانون الغاب. وعلى عكس ما يظن البعض، فإن هناك الكثير من الأفكار التي طرحت منذ وقت مبكر في تاريخ العلاقات الدولية حول التنظيم الدولي، ولم تكن عصبة الأمم التي تأسست عقب نهاية الحرب العالمية الأولى العام 1918، هي التنظيم الأول في تاريخ التنظيم الدولي، ولكنها كانت الأبرز والأكثر اتساعاً. وجاءت نشأة عصبة الأمم، كمحاولة لتفادي نشوب حروب أخرى، ولكنها حملت في طياتها، كما يقولون، بذور فنائها، لأنها كرست صيغة غير عادلة لإدارة التنظيم الدولي، من خلال التحيز لمعسكر المنتصرين في الحرب العالمية الاولى، ومن ثم، فبعد أن حدث نوع من التغير في موازين القوة، اندلعت الحرب العالمية الثانية وانهارت عصبة الأمم ، بعد أن فشلت في منع هذه الحرب. ولكن هذا الانهيار أكد ضرورة خلق تنظيم دولى أكثر عدلاً، إذا ما أريد لهذا التنظيم أن يكون مستقرا. ومن ناحية أخرى، فإن هذا الانهيار الذي جاء على خلفية حدث خطير مثل الحرب العالمية الثانية، أكد ضرورة حدوث تغير ما في التنظيم الدولي على خلفية الأحداث الكبرى المماثلة على الصعيد الدولي. ومثل هذا الأمر هو ما يثير التساؤل حالياً حول إمكان انهيار الأممالمتحدة، على خلفية ما انتهى إليه الحال من عجزها في إدارة الأزمة العراقية، وقرار الولاياتالمتحدة ومن تحالف معها، العمل خارج مظلة الشرعية الدولية. وفي الواقع ، فإن الأزمة العراقية وإن لم تكن في حجم الأزمة التي عصفت بعصبة الأمم، إلا أنها أكدت مرة أخرى أو كشفت عن حال العجز المستمر في أداء الأممالمتحدة عبر نصف قرن، وهو ما أثار الجدل مجدداً حول ضرورة إصلاح الأممالمتحدة لكي تقوم بدور فاعل في العلاقات الدولية. ويستمد الجدل حول إصلاح الأممالمتحدة عقب الأزمة العراقية أهمية خاصة بالنظر إلى تجاهل الولاياتالمتحدة التام لها وشنها الحرب على العراق خارج مظلة الشرعية الدولية من ناحية، ومخاوف الكثيرين من أن يكون هذا السلوك من قبل واشنطن بداية أميركية لتجاهل تام للأمم المتحدة، وذلك في ظل وجود مخططات وطموحات للإدارة الأميركية الحالية تغلفها رغبة واضحة في الهيمنة بما لا يتفق مع القانون الدولي. وإذا كانت الأزمة العراقية اكدت، من وجهة نظر البعض عجزها عن القيام بدور دولي فاعل لضبط حركة التفاعلات الدولية، فإن البعض الآخر يذهب إلى القول بأن عجز الأممالمتحدة عن حل الأزمة العراقية هو عجز طبيعى، فالمنظمة الدولية التي مضى على تأسيسها أكثر من نصف قرن، سجلُها متخم بالفشل، وليس صحيحا أن الأممالمتحدة حافظت على السلام الدولي خلال هذه الفترة، وإنما الذي كفل هذا السلم هو عامل التوازن العسكري. ومن هنا يحلو للبعض تسمية حال السلام التي تسود العالم منذ الحرب العالمية الثانية، وعدم حدوث حرب عالمية ثالثة، بالسلام النووي، إذ أن الذي حال دون هذه الحرب، في تصور هؤلاء، هو التوازن النووي بين القوى الكبرى. وبعبارة اخرى، فإن عجز الأممالمتحدة عن إدارة الأزمة العراقية لا يمكن تفسيره بعجز موقت في كيان المنظمة، وإنما هو عجز هيكلي، ومن هنا فإنه إذا كانت الأزمة العراقية ليست في حجم الحدث الذي أدى إلى انهيار عصبة الأمم، فإنه ليس ثمة "قلق" على الأممالمتحدة من الانهيار، ولكن مع التسليم في الوقت نفسه بأهمية إصلاح هذه المنظمة الدولية، على اعتبار أن هذه الأزمة كشفت حال العجز التي تعانيها الأممالمتحدة. وفي الواقع، فإن الحديث عن ضرورة إصلاح هيكل منظمة الأممالمتحدة من أجل تفعيل دورها ينصرف في المقام الأول إلى ضرورة إصلاح مجلس الأمن، باعتباره أخطر أجهزة الأممالمتحدة، بالنظر إلى أنه الجهة المنوط بها حفظ الأمن والسلم الدوليين. وأنه فشل فشلا ذريعا في معالجة الأزمة العراقية. والحقيقة أن المجلس لم يواجه منذ أن باشر عمله للمرة الأولى في كانون الثاني يناير 1946 مأزقا تاريخيا بحجم الذي واجهه في هذه الأزمة، والذي نجم عنه قيام كل من الولاياتالمتحدة وبريطانيا وأسبانيا بالتحرك بشكل منفرد بعد أن تبين للدول الثلاث استحالة تحقق الإجماع الكافي لتأييد مشروع قرار داخل المجلس يفوضها باتخاذ عمل عسكري ضد العراق. الأمر الذي يكشف بوضوح الخلل الذي أصاب هذا الجهاز الدولي الخطير والذي ما زالت الجمعية العامة للأمم المتحدة تناقش سبل إصلاحه منذ اكثر من عشر سنوات. ومن المهم في هذا الإطار، الوقوف على ما هو مطروح من سبل لتفعيل دور مجلس الأمن. وفي البداية يمكن القول إن هذا الإصلاح بات حتمياً في ضوء هذا العجز الذي يواجه المجلس من ناحية، وفي ضوء ضرورة توسيع عضويته الدائمة وغير الدائمة حتى يعبر بصدق عن الضمير العالمي وحتى لا ينفرد الأعضاء الخمسة الكبار أو واحد أو اكثر منها بصناعة اخطر القرارات، فالمادة 27 من الميثاق تنص على وجوب أن يحوز القرار على تسعة أصوات على الأقل، يكون من بينها أصوات الأعضاء الدائمين. وتتمثل أهم مقترحات إصلاح مجلس الأمن في أن بعض الدول يرى ضرورة زيادة العضوية في المجلس بأعضاء دائمين وغير دائمين مع تمثيل جغرافي عادل، فيما يرى بعض الدول الأخرى، زيادة وتوسيع العضوية بأعضاء غير دائمين فقط مع تمثيل جغرافي عادل. ويتبني هذا المقترح عدد قليل من الدول ومنها السويد والأرجنتين والمكسيك وكوبا، فيما ترى مجموعة ثالثة من الدول زيادة عضوية مجلس الآمن بأعضاء دائمين فقط مع تمثيل جغرافي عادل. ومن الدول التي تتبنى هذا المقترح فرنسا التي ترى أن المقاعد العشرة غير الدائمة الموجودة حاليا تكفل تمثيلا جغرافيا عادلا. وهناك رأي آخر يطالب باستحداث مقاعد شبه دائمة في مجلس الأمن، اي عضوية دائمة في المجلس دون التمتع باستخدام حق الفيتو. ويشارك هولندا في هذا الرأي عدد قليل من الدول. والتركيز على أهمية تفعيل دور مجلس الأمن لا يعني تجاهل المنظمات الأخرى، ولكنه ينصرف إلى أهمية هذا الدور، الذي يضطلع بحفظ الأمن والسلم الدوليين، والذي يجب تعظيمه في ضوء المتغيرات التي يشهدها النظام العالمى حاليا، وتدفع في سبيل التكهن باستمرار حال القلق على الصعيد العالمى، على عكس ما كان متصورا من أن نهاية عصر القطبية الثنائية ستعقبها حال من الاستقرار. وعلى رغم هذه الاجتهادات المختلفة، فإن هناك معوقات كبيرة في وجه أي إصلاح مقترح للأمم المتحدة، لأن أي إصلاح لا بد أن توافق عليه الدول الخمس الكبرى الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن، التي يبدو من مصلحتها بقاء الوضع الراهن على ما هو عليه. والأكثر خطورة في هذا الإطار هو الجدل الذي برز اخيرا حول إمكان قيام الولاياتالمتحدة في ظل تفردها بقمة النظام الدولي بإحداث تعديل في نظام مجلس الأمن يمكنها من إضفاء الشرعية على سلوكياتها إذا لم يحدث توافق بينها وبين الأعضاء الآخرين الدائمين كما حدث في الأزمة العراقية. ومثل هذا التخوف لا بد أن يدفع أعضاء النظام الدولي إلى خلق تكتل بينه لمنع حدوث هذا الأمر الخطير أولاً إذا ما قامت الولاياتالمتحدة فعلاً بالمضي في هذا الطريق. ويظل مطلب الإصلاح، من ناحية أخرى، مطروحا بقوة حتى يتم تفعيل دور الأممالمتحدة. وهذا الأمر يتطلب حصول تنسيق بين الدول المختلفة صاحبة المصلحة في تحقيق هذا الإصلاح. وهذا التنسيق يمكن أن يتم من خلال المنظمات الإقليمية التي تنتمى إليها تلك الدول، إذ أن ذلك يوفر قوة الدفع المطلوبة لعملية الإصلاح. كما أن هذا التنسيق يمكن أن يتم أيضا من خلال المنظمات الفرعية لمنظمة الأممالمتحدة ذاتها، التي لا تتمتع فيها القوى الكبرى بنفوذ يفوق ما هو متاح للدول الأخرى. ومن ناحية أخرى فإنه يمكن للجهود المطالبة بالإصلاح أن تستفيد من ضغوط الرأي العام العالمي المساند عموماً لحدوث تنظيم دولي يكرس مبادئ الشرعية الدولية، وبدا هذا واضحا من خلال التظاهرات الحاشدة التي شهدها معظم دول العالم احتجاجا على الحرب ضد العراق، التي عكس رفضها للحرب رغبة، من ناحية ثانية، في تكريس عصر الشرعية الدولية من خلال التنظيم الدولي القائم ممثلا في منظمة الأممالمتحدة ومؤسساتها الفرعية. كما يمكن لهذه الجهود أن تستفيد اكثر من منظمات المجتمع المدني العالمي التي باتت تلعب دوراً كبيراً على الساحة العالمية، وثمة الكثير منها يقع في صلب اهتمامه قضية الشرعية الدولية . ولكن حتى يتم تفعيل جهود إصلاح الأممالمتحدة بين المطالبين به، فلا بد أن تكون هناك إستراتيجية واضحة لكيفية تحقيق هذا الإصلاح، بمعنى أن يتم ترجمة المقترحات لهذا الإصلاح في شكل خطة عمل واضحة والدفع بها للجمعية العامة للأمم المتحدة، التي تعد بمثابة برلمان عالمي، حيث يتوافر لها الزخم المطلوب. ويبدو عامل الوقت مهماً في هذا السياق، إذ أن عجز الأممالمتحدة عن حل الأزمة العراقية طرح بشدة أهمية إصلاحها الآن، وهو الأمر الذي يكسب دعوة الإصلاح صدقية اكبر في الوقت الحالي أكثر من أي وقت مضى، وهو ما يجب استغلاله لدفع مطلب الإصلاح. * عضو سابق في البرلمان المصري، أستاذة علوم سياسية في الجامعة الاميركية في القاهرة