تعرضت الأممالمتحدة في الآونة الاخيرة للنقد الشديد والاتهام بالتقصير في حفظ السلم الدولي. وبدا النقد لاذعا مع ضعف المنظمة أمام قرار التحالف الأنغلو أميركي بضرب العراق وهو ما اعتبرته بعض الدوائر السياسية نهاية المنظمة الدولية. وعلى أثر ذلك فتح الباب على مصراعيه أمام تساؤلات كثيرة حول جدوى الأممالمتحدة وفاعلياتها ومستقبلها. وكيفية تجاوز أزمتها. فثمة فريق تنبأ بأن الأممالمتحدة في طريقها إلى الانهيار بعد الغزو الأميركي، مع سبق الإصرار والترصد للعراق، ما ساعد على دفع العلاقات الدولية خارج القانون الدولي واستند هذا الفريق في رؤيته إلى التناقض الصارخ بين طبيعة الأممالمتحدة كمنظمة دولية تقوم على التعددية السياسية والواقع الذي يعيشه العالم اليوم والذي تهيمن فيه دولة واحدة ممثلة في الولاياتالمتحدة الأميركية على مقاليد الأمور السياسية والعسكرية والاقتصادية. فالولاياتالمتحدة وتحديدا منذ إدارة بوش حملت شعار "الحرب الاستباقية" محل شعار "قوة الحق والشرعية" ومع اندلاع الحرب على العراق خرجت المعارضة الشعبية والعالمية في كل بقعة في المعمورة خصوصاً الدول الكبرى. في الوقت الذي توارى تماما دور الأممالمتحدة وأصبحت كما قال أحد المحللين الفرنسيين "اليوم تنزع فيه رايات الدول الأعضاء من على ذلك المبنى النيويوركي الفخم والضخم وترفع عليه راية واحدة مكتوب عليها "هذا المبنى للبيع"؟!. بعبارة أخرى أصبحت المنظمة الدولية تحت القانون الأميركي وبالتالي لا يعود لقوانينها أي قيمة. ويبدو خصوصاً بعد غزو العراق أن جميع صلاحيات الأممالمتحدة انتقلت إلى الولاياتالمتحدة. في مقابل الاتجاه الأول ثمة فريق ثان يستبعد زوال الأممالمتحدة وإنتهاء دورها بعد العدوان الأنجلو أميركي على العراق إذ أن مصالح جميع الأطراف سواء الدول الكبرى أو حتى الصغرى تحتم الإبقاء عليها . كما أنه لا يوجد أو لا يمكن إيجاد بديل مناسب للأمم المتحدة في الظروف الراهنة. والولاياتالمتحدة نفسها لا ترغب في القضاء على الأممالمتحدة ربما لأسباب كثيرة وعديدة. في مقدمها الصعوبات التي لاقتها أثناء شن الحرب على العراق فهي لم تكن نزهة عسكرية كما وصفها أركان الإدارة الأميركية، وثانيها أن الولاياتالمتحدة بحاجة إلى إيجاد غطاء من الشرعية الدولية يبرر حربها على العراق خصوصاً وان القرار 1441 لم يقنع سوى رئيسي وزراء بريطانيا وأسبانيا. ويحسب مصادر قانونية فإن مجلس الأمن هو الجهة الوحيدة التي يمكنها حياكة عباءة قانونية لشرعية الوجود الأميركي في العراق. أضف إلى هذا أو ذاك ان الملف الأكبر والمتعلق بإعادة إعمار العراق لا يمكن أن تنفرد به الولاياتالمتحدة بمفردها وهي تعلم أنها في حاجة إلى قوى المجتمع الدولي الأخرى والتي لا يمكنها قبول المشاركة خارج إطار الأممالمتحدة. الدول النامية كذلك رغم أنها أول من أضير من ضعف هذه المنظمة وانتهاك مواثيقها بخاصة من قبل واشنطن فإنها لا تستطيع أن تنادي بإنهاء دور الأممالمتحدة فما زالت هي الملاذ الأخير والمنبر الوحيد لها كي تعبر عن نفسها وعن مشاكلها وطموحاتها ومصالحها. أيضا يحتاج العرب والمسلمون إلى بقاء الأممالمتحدة حتى تستطيع تطبيق قرارات مجلس الأمن على الجميع من إسرائيل الى العراق بعدالة تامة. والحقيقة أن ما تعانيه الأممالمتحدة يرجع إلى التوظيف المصلحي للأمم المتحدة من قبل واشنطن كما أن الدول الغنية والمتقدمة لا تنظر في الواقع إلى المنظمة الدولية باعتبارها المنبر الأصلح أو الإطار المؤسسي المناسب لحل المشاكل الدولية. ويلاحظ أيضا أنه على رغم من الإزدياد الملحوظ في نشاط الأممالمتحدة وتداخلها المتزايد في الشؤون الداخلية للعديد من الدول من خلال مبررات تتعلق بالإرهاب الدولي أو حماية حقوق الإنسان، إلا أن هناك العديد من الأزمات الحادة التي لا يراد للأمم المتحدة أن تتدخل بشأنها على الإطلاق. وبالتالي فإصلاح الأممالمتحدة ضرورة لتجاوز الأزمة. ولكن كيف يتم؟ على الرغم من أن دعاوي إصلاح الأممالمتحدة من قبل المعنيين بشؤونها لم تتوقف منذ نشأتها بغية تطويرها وتفعيل أدائها للإرتقاء إلى مستوى التحديات الموجودة والمتجددة التي تفرضها البيئة الدولية المتغيرة، غير أن هذه القضية تصدرت، بخاصة منذ انتهاء الحرب الباردة، اهتمامات الدول الأعضاء في المنظمة، علاوة على مراكز البحوث والمؤسسات العلمية استنادا إلى ما سيترتب عليها من انعكاسات مهمة، ليس فقط على خريطة النفوذ السياسي للدول الأعضاء بها، وإنما أيضا على منظومة المفاهيم السياسية والإقتصادية والاجتماعية والثقافية والتي ستحكم مسيرة العمل الدولي خلال المرحلة المقبلة من حياة منظمة الأممالمتحدة عبر مسيرة هذا القرن. والحقيقة ان الإصلاح للأمم المتحدة، يستدعي تفكيرا جديدا وإعادة النظر في المنطلقات الفلسفية للتنظيم الدولي فضلا عن آليات ووسائل تحقيق أهدافه. ويمكن طرح جوانب الإصلاح على النحو التالي: 1- إعادة صوغ ميثاق الأممالمتحدة ، فمنذ نصف قرن لم يتم إدخال أي تعديلات جوهرية على نصوص هذا الميثاق على رغم التغيرات الهائلة التي طرأت على بيئة العلاقات الدولية التي تمارس الأممالمتحدة عملها في إطارها. والحقيقة ان واضعي الميثاق تنبهوا إلى هذه المسألة. لذلك اعترفت المادة 109 منه صراحة بالحاجة إلى المراجعة الدورية له. 2- الحاجة إلى إعادة النظر في الهيكل التنظيمي للأمم المتحدة على النحو الآتي: أ- ضرورة إلغاء بعض الأجهزة الرئيسة التي نص الميثاق على إنشائها بسبب إنتهاء الوظيفة التي كانت تقوم بها ومن الأمثلة الواضحة على ذلك مجلس الوصاية الذي لم تعد هناك حاجة ماسة إليه. ب - إعادة تشكيل مجلس الأمن: فعدد مقاعد المجلس الآن 15 عضوا في وقت وصلت فيه العضوية في الأممالمتحدة إلى 184 دولة. أي أن النسبة بين الدول الأعضاء في المجلس إلى عدد أعضاء الأممالمتحدة تشير إلى اختلال شديد. وأكدت ردود وتعليقات أغلبية الدول الأعضاء ان توسيع عضوية مجلس الأمن يتسق مع مبادئ العدل والمنطق والسلوك الديموقراطي في هذا الجهاز الدولي الخطير إذ يتحقق بتوسيع العضوية توسيع دائرة المشاركين في إتخاذ القرار مما ينعكس ايجابيا على مصداقية المجلس وفاعلية قراراته والإلتزام من جانب جميع الدول. وإذا كان الاتفاق العام بين مختلف الدول على أهمية تعديل المادتين 23 و27 بشأن توسيع عضوية مجلس الأمن فإن هناك آراء مهمة تدعو إلى عدم الإقتصار على تعديل هاتين المادتين وضرورة إجراء تعديل عام على الهيكل التنظيمي لمختلف أجهزة المنظمة الدولية حتى لا يقف ميثاق المنظومة عاجزا عن مسايرة التطورات والمتغيرات الدولية الجديدة والمتجددة وحتى يمكن موازنة دور مجلس الأمن مع جهاز الجمعية العامة التي تمثل كل الدول. وإذا كان الاتفاق العام من جملة ما سبق يدور حول زيادة وتوسيع العضوية فإن هناك مقترحات مختلفة حول طبيعة توسيع العضوية. إذ يرى بعض الدول زيادة العضوية بأعضاء دائمين وغير دائمين مع تمثيل جغرافي عادل ويعني هذا أن تلك الدول المؤيدة لهذا الاقتراح تمثل مختلف القارات الخمس. في حين أن البعض الآخر يركز على زيادة العضوية بأعضاء غير دائمين فقط مع تمثيل جغرافي عادل، ويتبنى هذا المقترح عدد قليل من الدول منها السويد والارجنتين والمكسيك وكوبا وتنفرد الأخيرة برأي غريب مؤداه إلغاء المقاعد الخمسة دائمة العضوية الموجودة حاليا في المجلس لأن الظروف الدولية تغيرت. وطرف ثالث، تمثله فرنسا، يتبنى زيادة عضوية مجلس الأمن بأعضاء دائمين فقط مع تمثيل جغرافي عادل. ومن ناحية أخرى نجد أن هناك دولا تركز على استحداث مقاعد شبه دائمة بمجلس الأمن أي عضوية دائمة بالمجلس من دون التمتع باستخدام حق "الفيتو"، ويشارك هولندا في هذا الرأي عدد غير قليل من الدول. ج - إحداث توازن بين سلطات الأجهزة و الفروع الرئيسية للأممم المتحدة، خصوصا بين كل من الجمعية العامة ومجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية. د- تطوير الجهاز الإداري للأمم المتحدة وإعادة مراجعة إنشاء الأجهزة الثانوية والفرعية للأمم المتحدة مع تطوير الجهاز الإداري للأمانة العامة من ناحية أخرى. ه - توسيع صلاحيات الأمين العام للأمم المتحدة، فدوره حيوي إذا لم يواجه عقبات ومن ثم لا ينبغي أن يقتصر على الجوانب الإدارية والتنظيمية وإنما لا بد له من دور سياسي فعال. 3- الحاجة إلى نظام جديد لتمويل أنشطة الأممالمتحدة من خلال تعدد مصادر التمويل والمساهمات الإلزامية على الدول الأعضاء . 4- وضع قيود على استخدام حق "الفيتو"، مع ضرورة عدم قصر هذا الحق على الدول الخمس فقط، وإنما ضرورة أن يكون هذا الحق لدول أعضاء مجلس الأمن على قدم المساواة . لا شك أن الأممالمتحدة تمر بأزمة، ولكن من الخطأ القول إن الأزمة بدأت في 11 ايلول سبتمبر، فالأزمة بدأت بانهيار حائط برلين وانتهاء الحرب الباردة لأن في ذلك الوقت انتقل العالم من القطبية الثنائية إلى القطب الأوحد، ولكن لم يدرك الديبلوماسيون والخبراء هذا التغيير في حينه. إن الإدراك بوجود أزمة حقيقية في المنظمة الدولية بدأ بعد 11 ايلول سبتمبر أو بالأخص عندما دخلت الأممالمتحدة في كوسوفو، التي شكلت سابقة خطيرة لجهة أن الدول الأوروبية قررت ضرب مدينة أوروبية هي بلغراد من دون قرار من الأممالمتحدة. وطالما حدث ذلك بين الدول الأوروبية، فما الذي سيمنع الغرب من أن يتدخل بالأسلوب نفسه في الدول الأخرى. ومن المؤسف أن الأممالمتحدة اضطرت في بعض الأحيان إلى الإنحناء أمام غطرسة التيار الانفرادي الذي يقوده المتطرفون في الإدارة "البوشية" بدلا من التسلح بأهم ركيزة لديها وهي الأخلاقيات . وبالتالي فإيمانهم بالتيار الانفرادي لا يمنع أنه في بعض الحالات قد يلجأون إلى التعددية بشرط أن تكون تحت قيادتهم. ولذلك فإن تفكيرهم اليوم في عودة القوات الدولية إلى بغداد لا يعني انتصار التعددية والعودة مرة أخرى إلى الأممالمتحدة، إن ما يحدث حاليا هو مسألة مرحلية لأنه من أجل تحقيق العودة إلى التعددية يجب توافر شرطين أساسيين: إما أن يأتي رئيس أميركي يؤمن بالتعددية على غرار الرئيس الأميركي السابق ويلسون الذي أنشأ عصبة الأمم أو على غرار الرئيس روزفلت الذي أنشأ الأممالمتحدة أو ظهور قوة كبرى جديدة مثل الصين أو روسيا أو الاتحاد الأوروبي تستطيع أن توازن القوة وبذلك نعود إلى التعددية. ولكن خارج هذين الاحتمالين لن يكون هناك تغيير. وبالتالي يمكن القول في الوقت الحالي إنه سيظل دور الأممالمتحدة هامشيا، ولكن إذا توافرت الإرادة السياسية لدى مجموعة من الدول تؤمن بالعمل المشترك فحينئذ سنستطيع أن نجد حدا أدنى من العمل المستقل للأمم المتحدة. و السؤال : لماذا لم ينعقد مؤتمر دولي لبحث تلك المسائل ؟ فبعد حرب نابليون انعقد مؤتمر فيينا لإعادة النظر في العلاقات الدولية، وبعد الحرب العالمية الأولى انعقد مؤتمر فرساي، وبعد الحرب العالمية الثانية انعقد مؤتمر سان فرانسيسكو لإعادة تشكيل العلاقات الدولية. ولكن بعد انتهاء الحرب الباردة لم يعقد بعد مؤتمر دولي، فهل ننتهز فرصة 11 ايلول سبتمبر لكي نفكر في عقد مؤتمر يبحث على الأقل النقط الأساسية للإصلاح؟ * عضو مجلس الشعب المصري سابقاَ، أستاذة علوم سياسية في الجامعة الأميركية.