أثارت أعمال القتل والتدمير التي تقوم بها قوات روسيا في جمهورية الشيشان ردود فعل مثيرة للاهتمام، رغم انها متوقعة، من الغربيين المفاخرين بالتزامهم الديموقراطية وحق تقرير المصير. لكن هناك فروقاً جديرة بالملاحظة في موقف النخب السياسية على جانبي الأطلسي، على الأقل بين بريطانياوالولاياتالمتحدة، من القضية. ويكشف تفحص هذه الفروق الكثير عن المنظور العالمي للنخب في كل من المجتمعين، وكذلك عن القيم والمصالح السائدة لديها. رد الفعل الأول عند سماع غالبية الأميركيين أو البريطانيين عن المجازر الروسية في الشيشان هو الاستبشاع. وتوضح الصور عن دمار غروزني والتقارير عن معاناة اللاجئين في مسيرتهم نحو الجنوب المدى الرهيب الذي وصلته "العملية البوليسية" الروسية هناك. بعد ذلك يدور سؤال النخب السياسية في البلدين، التي لا تزال تعتبر نفسها الى حد ما مسؤولة عن مصالح البشر حتى في أبعد البقاع، على محورين: "ماذا يمكننا عمله تجاه وضع الشيشان؟"، و"ماذا كان بامكاننا عمله تجاه الشيشان؟". لكن ما ان يُطرح السؤالان حتى يصطدمان فوراً بذلك الجدار الصلب، جدار "الواقع"، وهو هنا "واقع" السيادة الوطنية ضمن النظام العالمي الحالي. فبلاد الشيشان، حسب ذلك النظام، جزء من روسيا، وتخضع تبعاً لذلك لسيادتها. ويعني هذا ان التدخل في "الحق السيادي" لروسيا في العمل كما يحلو لها في الشيشان يشكل تحديا للنظام بأسره. واذ يقول بعض المعلقين البريطانيين والأميركيين بالحاجة الى قسط من الحماية للأقليات ضمن الدولة السيدة، يمكن الاشارة الى أن هذا النوع من الحماية سبق تجريبه من قبل، وبنتائج تعيسة، تحت نظام عصبة الأمم في عشرينات القرن الماضي. وفي الثلاثينات استخدم أدولف هتلر مفهوم "حماية حقوق الأقلية" لتبرير تدخله العسكري ل"حماية" حقوق الأقلية الألمانية في تشيكوسلوفاكيا. وكان هذا السبب في استبعاد أي حماية خاصة للأقليات من نُظُم الأممالمتحدة عند تأسيسها بعد الحرب العالمية الثانية. يبدأ الفرق في موقف النخبتين البريطانية والأميركية من قضية الشيشان من تناول كل منهما لقواعد نظام سيادة الدولة. ففي وطني الأم بريطانيا وجدت في زيارتي الأخيرة استعدادا أكثر للمقارنة في شكل مباشر بين ما كان على الدول الغربية عمله تجاه قضية الشيشان، وما عملته فعلا الربيع الماضي تجاه انتهاك الصرب لحقوق ألبان كوسوفو. وقال مراقب بريطاني ان "هناك حسب القانون الدولي شرعية لتدخل غربي قوي لوقف مجازر الروس في الشيشان لا تقل عن شرعية عمليات حلف الأطلسي في كوسوفو السنة الماضية". وأضاف: "اذا كان الدافع الأخلاقي للتحرك وقتها قوياً الى درجة جعلت حلف الأطلسي يتجاوز القيود التي يفرضها نظام سيادة الدولة فإن الدافع للتحرك ازاء قضية الشيشان أقوى حتى من ذلك، اذا أخذنا في الاعتبار حجم المجازر هناك". بالمقابل لا نجد لدى الأميركيين رغبة مشابهة في المقارنة بين الوضعين القانونيين للشيشان وكوسوفو. السبب، أولاً، هو ان مفهوم "سيادة الدولة" - أو بالأحرى سيادة الدول الأخرى وليس دولتهم - لا يلعب دوراً مهماً في تصور غالبية الأميركيين للوضع الدولي. بل أن المحاكم الأميركية تخوّل نفسها صلاحية النظر في الكثير من القضايا التي تحدث في الخارج. من هنا فالأرجح أن غالبية الأميركيين لم تعرف أصلاً ان تدخل الأطلسي في يوغوسلافيا يثير عدداً من التساؤلات القانونية، فيما اعتبر الذين يعرفون ذلك ان التساؤلات لا تعني شيئاً مقارنة بالهدف الرئيسي، أي وقف "العدوان اليوغوسلافي". لكن هذا الهدف، كما نعلم، لم يتحقق في الشكل المتوقع. فما إن بدأ القصف حتى ضاعف جيش يوغوسلافيا والميليشات الصربية أعمال العنف ضد ألبان كوسوفو. وكان السكان قبل ذلك واجهوا مقداراً محدوداً من العنف، قيّده الى حد ما وجود ممثلين عن هيئات الاغاثة الغربية ومراقبين مدنيين من منظمة الأمن والتعاون الأوروبية. ثم انطلقت الحملة الكبيرة من القتل والاضطهاد والتطهير العرقي مع بداية القصف الجوي وسحب كل المدنيين الغربيين من الاقليم استعدادا له. أدى هذا التسلسل في الأحداث الى انتقاد واسع في بريطانيا، ولو بعد فوات الأوان، لقرار الأطلسي شن الحملة الجوية على صربيا. وكان الدرس الذي استخلصه كثيرون من البريطانيين أن تدخلاً عسكرياً في الشيشان قد يأتي بنتيجة عكسية مشابهة. أما في الولاياتالمتحدة فليس هناك ميل يذكر من قبل المحللين والمعلقين الى مراجعة تأييد غالبيتهم للحملة على الصرب. وكان هناك أخيرا عدد من المقالات في الاعلام الأميركي يشير الى الفرق الكبير بين هدف الأطلسي في اقامة وضع ديموقراطي تعددي في كوسوفو والواقع الحالي المليء بالعنف. لكن الحقيقة هي ان حفنة صغيرة من المعلقين فقط أنا من بينهم انتقدت بانتظام ومنذ البداية قرار الأطلسي اطلاق حملته الجوية على صربيا. هناك عنصر آخر، اضافة الى الموقف من القانون الدولي، في الفرق بين نظرتي المثقفين البريطانيين من جهة والأميركيين من الثانية الى قضيتي كوسوفو والشيشان. انه العنصر الذي يمكن ان نسميه "الأصولية الاسلامية". اذ يبدو ان الروس نجحوا الى حد كبير، أقله في بعض دوائر النخبة السياسية الأميركية، في اضفاء صفة "الارهابيين الاسلاميين" المتوحشين على كل الشيشان، وبالتالي عدم استحقاق هؤلاء لأي مقدار من التعاطف. انه موقف بالغ السخف بالطبع، ولم يلق نجاحاً يذكر في بريطانيا. لكنه أدى في الولاياتالمتحدة - وأيضاً في اسرائيل! - الى الكثير من التعاطف مع روسيا. ولنا ان نتذكر أن اسرائيل كانت من طليعة الدول التي تجاوبت مع روسيا اثر تفجير عدد من المباني السكنية في موسكو الخريف الماضي، عندما حمّلت السلطات الروسية المسؤولية على الشيشان دون ان تقدم دليلا على ذلك حتى الآن، ثم استعملت التفجيرات ذريعة لتجديد الحرب علىهم. وأرسلت اسرائيل الى موسكو فريقا من "خبراء مكافحة الارهاب" لتقديم المشورة. لا عجب اذن أن تبدو غروزني في السنة 2000 وكأنها بيروت في 1982! في النهاية طبعاً ليس لدى الحكومات الغربية ما تفعله سوى "التعبير عن الأسف" لما يرتكبه الروس في جمهورية الشيشان. والسبب الأهم في الفرق بين موقف الغرب من الشيشان وتعامله مع انتهاكات يوغوسلافيا الأقل حدة في كوسوفو بسيط تماماً. انه قدرة روسيا على الرد العسكري، حتى النووي عند الضرورة، على اي محاولة لاستعمال القوة ضدها. الدرس الذي يمكن ان نستخلصه من هذا مؤسف تماماً، وهو يلغي أي معنى للتحسر في الاعلام الغربي عن "ماذا كان بامكاننا ان نعمل تجاه الشيشان؟". مع ذلك فإن الفرق في طبيعة التحسر في المجتمعين الغربيين المذكورين يكشف عن الاختلاف في القيم السائدة في كل منهما. * كاتبة بريطانية متخصصة في شؤون الشرق الاوسط.