تخفي كل مدينة، في باطنها، مدناً أخرى غير مرئية. بينما تسير في الاسكندرية انظر يميناً، في البندقية، في دمشق، أو في كيوتو اليابانية، ينتابك الاحساس، اذ تنعطف متوغلاً في شارعٍ قديمٍ ساكنٍ، أنك تغادر المدينة الى مدينة أخرى. جاك فيني كتب قبل سنوات رواية عن نيويورك القرن التاسع عشر والقرن العشرين معاً. كتب عن مانهاتن خفية تحيا في أعماق مانهاتن الظاهرة. ايتالو كالفينو كتب عن مدن أخرى، مدنٍ خيالية، هي صور وأحاسيس وأفكار في آنٍ معاً. لكن مدن كالفينو الخيالية باتت من العالم الواقعي بعد ان دُوّنت وتحوّلت جزءاً من التاريخ الكوني للأدب. عالمنا واقعي بمقدار ما هو خيالي. نعرف هذا بينما نقرأ ستيفنسون. بينما نقرأ القزويني أو الإمام الدميري. بينما نقرأ بورخيس أو دي كوينسي. وبينما نتصفّح الطبعة الحادية عشرة من البريتانيكا. في مجلدٍ قديم مطبوع عام 1911 قد نعثر على عوليس الى جانب هوميروس. لكن عوليس يبدو حقيقياً أكثر من هوميروس. نعرف تفاصيل محرجة في حياة عوليس العاطفية. ماذا نعرف عن هوميروس غير عماه؟ في الظلمة اللانهائية، أنشد هوميروس الإلياذة والأوذيسة. من الظلام خرج عوليس ساعياً في ايجه والأدرياتيكي، يبحث عن بيته وزوجته. حين نفكر في سرفانتس اليوم نتخيل الرجل على فرس، يسبق الريح في سهول اسبانيا. ننسى انه كان كاتباً بذراعٍ واحدة. نحسبه فارساً مثل صاحبه دون كيشوت. * يخفي الواقع خيالاً لا يُحد. كل مدينة تخفي مدناً أخرى في جوفها. هل نعرف جزءاً ضئيلاً من التاريخ الخيالي لمدينة بيروت؟ شارع المعرض بوابة الوسط التجاري ليلاً. تنحدر بين المطاعم والمقاهي المكتظة، فتبلغ ساحة البرلمان. الساعة في الأعلى بيضاء مدوّرة. على التلفزيون يحسبها الناظر بدراً. بعد الساحة تعبر شارع الجامع العمري أو شارع الأحدب الى "ويغان". كل هذه الشوارع مرصوفة حجراً. مبنى البلدية عثماني الطراز يختلف بنقش سور السطح عن المباني الأخرى. خلفه تتوازى شوارع يوسف الرامي وسعد زغلول والمطران، بين شارعين ينحدران صوب البحر: اللنبي وفوش. مزيج الأسماء ذاكرة مزدوجة. لكن المتاجر يغلب عليها طابع غربي واحد. فخامة وماركات عالمية. هذا المستطيل يسميه رجل من رأس بيروت: "سوليدير التحتا" و"سوليدير الفوقا" فاصلاً بين المنطقتين بشارع ويغان. وهو يعقد مقارنة تثير الخيال بين حدود سوليدير الشركة التي أعادت إعمار الوسط التجاري بعد انتهاء الحرب في 1990 وحدود بيروت القديمة، بيروت القرن التاسع عشر، المحضونة داخل سور مستطيل بسبعة ابواب. كُتب التاريخ تختلف على عدد الأبواب المذكورة التي كانت توصد ليلاً وتُفتح بعد صلاة الفجر امام الداخلين والخارجين. سبب الاختلاف بوابة السلسلة، وهي لم تكن من بوابات السور، بل كانت سلسلة تعلق في مدخل المرفأ لمنع المراكب الغريبة من الدخول بلا اذن. الأبواب كانت ستة: الدباغة والسراي والدركاه ويعقوب وادريس والسنطية. مع اضافة باب السلسلة تصير "سبعة". بعد ان قصف الأسطول الإنكليزي - النمسوي بيروت لإخراج ابراهيم باشا المصري في 1840 ظهرت ثغرات لا تحصى في السور. ثم فُتحت بوابة ثامنة جديدة هي بوابة ابي النصر، على مسافة قصيرة من بوابة الدركاه يستطيع المعاصرون ان يطابقوا بين خريطة الوسط التجاري اليوم وخريطة بيروت 1830 العثمانية متخذين بعض المواقع الثابتة مرتكزاً: الجامع العمري مثلاً، او سهلات البرج، او سراي الحكومة الكبير حيث هضبة القشلاق سابقاً غرب بوابة يعقوب. وتُروى حكاية عن بوابة تاسعة في سور بيروت القديمة فتحها عجوز من آل القوتلي على مسافة من بوابة السنطية لكي يستطيع العبور بأغنامه الى برّية الرأس في اي وقت يشاء. العجوز المذكور كان صاحب هذه البوابة الثغرة وحارسها في آن معاً. مات العجوز وباد السور واختفى سوق الفشخة وغابت الأبواب. لا نملك اليوم ان نسير في تلك الأزقة التراب القديمة. لكن في ساعات الفجر، إذ يخفت الضجيج ويحمل الندل الكراسي والطاولات الى داخل المطاعم الزجاجية، يقدر الواحد ان يغمض عينيه واقفاً بين المباني الصامتة، وأن يتخيل ما كان وانقضى. لا يرى بيروت الخمسينات والستينات والسبعينات فقط، وزحمة شوارع ما قبل الحرب، لكنه يرى الى ابعد من ذلك. يرى بيروت القرن التاسع عشر. ويرى ثلاث مآذن تتعالى فوق ركام البيوت. ويرى "حارس البوابة التاسعة" خارجاً مع اغنام يتقدمها الكرّاز بالجرس الذي يرنّ. المدن لا تضيع. مخيلة البشر تنقذها دائماً.