موديز ترفع تصنيف المملكة الائتماني عند "Aa3" مع نظرة مستقبلية مستقرة    جمعية البر في جدة تنظم زيارة إلى "منشآت" لتعزيز تمكين المستفيدات    وفاة الملحن محمد رحيم عن عمر 45 عاما    مصر.. القبض على «هاكر» اخترق مؤسسات وباع بياناتها !    ترامب يرشح سكوت بيسنت لمنصب وزير الخزانة    حائل: دراسة مشاريع سياحية نوعية بمليار ريال    "بتكوين" تصل إلى مستويات قياسية وتقترب من 100 ألف دولار    بريطانيا: نتنياهو سيواجه الاعتقال إذا دخل المملكة المتحدة    الاتحاد يتصدر ممتاز الطائرة .. والأهلي وصيفاً    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    القادسية يتغلّب على النصر بثنائية في دوري روشن للمحترفين    (هاتريك) هاري كين يقود بايرن ميونخ للفوز على أوجسبورج    النسخة ال 15 من جوائز "مينا إيفي" تحتفي بأبطال فعالية التسويق    وزير الصناعة والثروة المعدنية في لقاء بهيئة الصحفيين السعوديين بمكة    مدرب فيرونا يطالب لاعبيه ببذل قصارى جهدهم للفوز على إنترميلان    الأهلي يتغلّب على الفيحاء بهدف في دوري روشن للمحترفين    نيمار: فكرت بالاعتزال بعد إصابتي في الرباط الصليبي    قبضة الخليج تبحث عن زعامة القارة الآسيوية    القبض على (4) مخالفين في عسير لتهريبهم (80) كجم "قات"    أمير المنطقة الشرقية يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    بمشاركة 25 دولة و 500 حرفي.. افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض غدا    بحضور وزير الثقافة.. «روائع الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    مدرب الفيحاء يشتكي من حكم مباراة الأهلي    أوكرانيا تطلب أنظمة حديثة للدفاع الجوي    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    أمانة الشرقية تقيم ملتقى تعزيز الامتثال والشراكة بين القطاع الحكومي والخاص    رحلة ألف عام: متحف عالم التمور يعيد إحياء تاريخ النخيل في التراث العربي    «طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    "الجمارك" في منفذ الحديثة تحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة "كبتاجون    الملافظ سعد والسعادة كرم    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    ترمب المنتصر الكبير    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    فعل لا رد فعل    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أجوبة نفسية وبيولوجية وثقافية على سؤال قديم يتجدد اليوم : لماذا الحرب ؟
نشر في الحياة يوم 30 - 04 - 2003

لماذا الحرب؟ سؤال طرحه آينشتاين على فرويد يسأله: لماذا الناس تتقاتل في ما بينها، وهل لرجال الفكر والعلم قدرة على منع تلك الحروب المؤذية للبشرية بصورة عامة؟
يجيب فرويد سنة 1933 على الرسالة - السؤال بشيء من السخرية والتشاؤم.
أولاً: كل مفكر واع ومدرك، لا بد ان يكون مع السلم وضد الحرب، على رغم ان البشرية في حاجة بيولوجية الى قدر معين من الآلام، كما نسميها في اللغة التحليلية: ألم الوجود من الولادة الى الموت.
ثانياً: الحرب لا تتوقف ما دامت الشعوب متفاوتة في مستواها المعيشي، وما دام تقدير القيم يختلف ما بين الجماعات والأفراد، وما دامت الكراهية تشحن النفوس بالعداء وتحثها على القتال، لا سيما انها تتغذى من مصادر نفسية عميقة.
ثالثاً: ان مقاومتنا للحرب وعودتنا الى السلم، تبدو أضعف من الدوافع الى اشعال الحرب والرغبة في كسبها، ولو كان ذلك على حساب دمار الناس وقتلهم بمن فيهم الأبرياء.
تظاهرات استنكار الحرب على العراق عمت العالم بأجمعه، واجتاحت كل المدن الأوروبية وحتى الأميركية. وعلى رغم ضغطها القوي حتى في الاحصاءات: 60 في المئة في انكلترا، و75 في المئة في ايطاليا و92 في المئة في اسبانيا، فإنها لم تثن بوش وبلير عن خوض الحرب. وبدوا متلهفين الى الإسراع في تنفيذها، كالعشيق المتلهف بأسرع وقت ممكن للقاء حبيبته. حتى انهما بدوا خائفين ليس من نتائج الحرب على المجتمع البشري بل من ألاّ تندلع هذه الحرب وتفوت عليهم فرصة العمر ولقاء الحبيب المنشود، كما يقول فرويد thanatos.
اضطر بوش وبلير في غير مناسبة الى التركيز على الشر المتمثل في صدام حسين، من منطلق الخير الذي يمثلانه، واتبعا منطقاً مغايراً للحقيقة، فيه الكثير من الكذب والخداع والتضليل، فقط لكي يبررا حرباً يعرفان مسبقاً، انه على رغم كل المآخذ على النظام العراقي، لا يوجد سبب يوازي نتائجها المدمرة على الإنسان والقيم البشرية. فهذا الانفصال والانقطاع عن الخطاب العالمي الداعي الى السلم، يشكل خطراً كبيراً قد يتجاوز العراق لكي يطاول كل الدول وعلى رأسها الدول الأوروبية. لأن هذا الانقطاع والانفصال عن الواقع، كما نشاهده ونسمعه، أشبه بحالة ذهانية انفصامية، أي نفي لجزء من الواقع كما لو كان غير موجود، حتى لو تحقق النصر. هذا الخوف من الحرب ومن تفاعلاتها، تعدى حدود العراق لكي يطاول العالم بأكمله. فالشعوب التي تظاهرت في شكل عفوي وانفعالي لم تكن تؤيد صدام حسين ولم تقتصر على حماية الشعب العراقي، انما كانت تتحرك بسبب خوف داخلي من كارثة بشرية لا يسلم منها أحد، لا سيما إذا وجدت أسلحة الدمار الشامل تحت أيدي مجموعة مهووسة وغير مسؤولة كما يقول ادغار موران.
والخوف الأكبر، يزيد الكاتب، في مقال في جريدة Le monde هو انه بعد انتصار أميركا سيتوقف التاريخ، وهذا يعني أن افق التطور البشري ونموه وتقدمه سيتبع خطاً واحداً، لا يمكن مناقشته، وسيلغي بالضرورة كل ما هو مغاير له. أي أننا ننتقل من أحادية صدام حسين في العراق الى أحادية جورج بوش العالمية في أميركا. وتحل محل الديكتاتورية العمياء، ديكتاتورية متسترة بقناع الحرية والديموقراطية قتل الصحافيين.
إذاً ما هي سببية الحرب! لا شك في ان التحليلات الإعلامية ركزت على المكاسب الاقتصادية والجيوسياسية، بالإضافة الى الدواعي التبشيرية التي تهيمن على الفكر الأميركي الساذج.
كي نعطي اجابة على هذا السؤال من الزاوية التحليلية، لا بد من التساؤل: كيف يمكن لشعب متحضر، يؤمن بالقيم الإنسانية وبحقوق الإنسان، أن يقدم على حرب مدمرة يذهب ضحيتها الكثير من الأبرياء، لا سيما من الأطفال والنساء، وان صح التعبير نقول، من الأمهات والآباء والأجداد والأبناء؟
الإجابة على هذا السؤال أتت سواء من المسؤولين الكبار أو من العسكريين، لتبرير هذه الأفعال بطرق منطقية وبأساليب مختلفة. يبدو الكذب وعدم الاقتناع واضحاً مما يفعلون. فلا شيء يبرر ما يحصل، وإن أدى الى اطاحة صدام حسين، وهذا ما حصل.
المخيف في الموضوع لدى الخطباء الأميركيين، هو حصر أهداف الحرب في ملاحقة صدام حسين واطاحته كأن القضية شخصية بينه وبين جورج بوش، مع العلم ان اطاحة صدام مشكلة جانبية قياساً الى ضخامة الوجود العسكري الأميركي والمشروع الأميركي ككل.
هنا يبدو الشخصي غالباً في بعض الأحيان على المصلحة العامة. لا سيما اذا كان هذا الشخص مسؤولاً عن قرارات تورط مجتمعاً أو شعباً بأكمله بكوارث لا رجعة عنها. وأشير هنا في المناسبة، الى عقدة بوش الابن بالأب وكيف تتحكم بقرارات الحرب، بحيث يبدو للقراءة التحليلية ان طريق بغداد أشبه بطريق طيبة بالنسبة لأوديب، أو كما قال غونتز غراس "مأساة شيكسبيرية" اشارة الى شخصية هاملت بالتعامل مع قاتل أبيه.
الحرب حتمية كتبت على الإنسان منذ فجر التاريخ كقدر وكخطى يمشيها. كانت في السابق ولا تزال في الحاضر وستستمر في المستقبل. فهل من سبيل لاتقاء الحرب؟
فرويد يجيب أنه لا مهرب منها، فهي تلبي حاجة بيولوجية مكتوبة في الجينة التي تكون الإنسان. منذ النشأة الأولى تتقاسمه مشاعر مزدوجة متضادة، يربى عليها، ويصبح ساحة لصراعاتها. يتخبط ما بين الحب والكراهية، الأنانية والإنسانية، القسوة والحنان، الكرم والبخل، الشر والخير.
غالباً ما يكبت الإنسان الشعور المنافي للمجتمع لكي يؤسس حضارة مبنية على القيم. وقد يخيل لنا أن الإنسان منذ البداية قائم على الخير، حتى يجعل من نفسه صورة لله على الأرض. لكن الواقع يبين لنا سطحية هذه النظرية التي لا تهدف في النهاية إلا الى تضليله ودفعه الى ارتكاب اعمال الشر تحت ستار الخير.
ويزيد فرويد على ذلك: ان الإنسان نادراً ما يكون كله طيبة أو كله شراً. غالباً ما يكون في بعض الأحيان طيباً وفي حالات أخرى شريراً.
المهم في الموضوع، يستخلص فرويد: ان هنالك قوتين تحركان الإنسان من الداخل:
الأولى، Eros أي الحب: وهي قوة تندفع في سبيل الحياة، في الوحدة بين أبناء البشر، في بناء القيم والحضارة، وبصورة خاصة تهدف الى استمرارية الحياة عبر الانتاج.
والثانية، Thanatos وهي نزعة الموت: قوة تعمل في الخفاء، وتدعو الى الدمار والتفكك الاجتماعي لكي تعيد الإنسان الى حال الجماد التي انطلقت منها الحياة. وهي التي تلعب دوراً أساسياً في القتل والإساءة، وأعمال الشر ضد المجتمع، خصوصاً في أخذ قرار الحرب وإن تحت غطاء الخير.
الواقع ان القوتين لا تحضران في شكل منفصل، بل تتمازجا بأقدار مختلفة بحسب المناسبات، أو تكون الواحدة في خدمة الأخرى.
المهم في الموضوع، ان كل هذه الدوافع السلبية التي تتحرك في الداخل تصب في خانة نزعة الموت، ويطاولها الكبت المحكم لكي يستطيع الإنسان ان يتعايش بسلام مع مجتمعه. ولكن، لا يعني ذلك أنها قد محيت أو زال تأثيرها، فهي دائماً تنتظر الفرص السانحة لكي تظهر الى حيز الوجود متخفية بأقنعة انسانية عقلانية، وخيرية مموهة، لكي تحصل على اشباع غرائزها؟
أقول ذلك على اثر مشاهد الحرب في الفضائيات: كيف يمكن أن يبرر استعمال اسلحة الدمار "غير الشامل"، في الأطفال والنساء تحت غطاء تحرير العراق من صدام حسين؟ فلو سلمنا ان هذا الأخير طاغية ويجب ازالته منعاً للقمع الذي ارتكبه، فما هو موقف المسؤولين الأميركيين إذا بدوا بعد انتهاء الحرب أكثر وحشية خلال أسابيع مما ارتكب صدام حسين خلال ثلاثين عاماً؟ أين هو عندئذ خطاب التحرير إذا لم يبق هنالك شعب لكي يتحرر؟ فهذا أشبه بالمريض الذي يتكفل الطبيب بإزالة ورم في جسمه، ويواجه الأهل في ما بعد، فيقول إن العملية نجحت مئة في المئة واستؤصل الورم نهائياً. وعند السؤال عن حال المريض يجيبهم مع كل أسف: توفي لكنه قد شفي.
والملاحظ ان هذه الحرب أعطت فرصة سانحة للمكبوت الحضاري أن يترجم فعلاً على الأرض، فبدت رغبة القتل والتدمير وازالة معالم الحضارة وتحطيم القيم الاجتماعية والحياتية بلا رأفة أو أسف، واضحة بمجرد ما أصبح الجندي في حل من ضوابطه الحضارية المكتسبة. وبدا لنا الجندي المتحضر أكثر همجية وبربرية من الإنسان البدائي. وتظهر الحقيقة الفرويدية: ان الإنسان لا يستطيع أن يفخر كثيراً بمكتسباته الحضارية، فهو يبقى في الأصل متحدراً من سلالة أجداد، قتلة، مجرمين، سفاكي دماء. وأزيد ان الفارق بينه وبين الحيوان، ان هذا الأخير أقل عنفاً وبربرية من الإنسان.
على سبيل المثال: إذا تخاصم ذئبان، يرفع المهزوم رأسه ويعرض رقبته للذبح أمام الذئب المنتصر. بمجرد ان يرى ذلك ينصرف عنه كأن شيئاً لم يحصل. أما الإنسان فيثبت انتصاره بقتله بلا رحمة أو شفقة، ويلاحق عائلته وعشيرته وشعبه بأكمله. فالانتقام صفة انسانية لا نجدها عند الحيوان.
لا أستثني مسؤولية صدام حسين من سببية الحرب. فكل حكم دكتاتوري مكتوب عليه الزوال لأنه يحمل في طياته مشروع الموت، أي العودة الى الجماد. وترك صدام حسين الكثير من الأصنام في كل ساحة كان يطلب أن تعبد لأنه كان من عبادها الأولين، لصورته لنرجسيته، وهذا كل ما تبقى منه، فهو لم يدرك ان الالتفاف الشعبي حوله كان خوفاً ولا حباً، على خلاف ما حدث لجمال عبدالناصر. وهذه الحقيقة لا تظهر إلا عندما يتبدد الخوف. فالنرجسية التي كانت تجتاحه من الداخل كانت سبباً في الحروب التي خاضها ودمرت الشعب العراقي.
نرسيس لم يقتله سوى نرجسيته عندما ألغى أن الأنا هو آخر.
الى جانب ذلك تبرهن حرب العراق كما نتابعها على الفضائيات هذه الصفات البربرية والوحشية. فالانكليزي نسي شيكسبير والتراث الحضاري والفكري، والأميركي نسي الآباء المؤسسين لأهم ديموقراطية في العالم. كل واحد عندما أصبح على أرض العراق، يخلع لباسه الحضاري ويرتدي لباس أبطال أفلام الرعب الهوليوودية.
هل هؤلاء الجنود مسؤولون؟ وهل يجب أن تعاقبهم الإنسانية؟ في رأيي انهم ارتكبوا جريمتين: جريمة بحق المواطن العراقي الآمن في أرضه، وجريمة بحق انتمائهم الحضاري. فأصبح هناك ضحيتان: ضحية فقدت حياتها وضحية فقدت ذاتها الإنسانية. فإذا عادوا غداً الى أرضهم، كيف يمكن ان يوفقوا بين ما ارتكبوا من مجازر وما افتعلوا من مآس وفظائع الإنسانية، وبين مجتمعهم؟ بحكم خبرتي في قراءة ما بعد حرب فييتنام، فإن معظم قدامى المحاربين ذهبوا ضحية العنف الأهلي، وجرائم القتل، والأعمال الكثيرة المضادة للمجتمع، لأن مجتمعهم نبذهم واعتبرهم لطخة عار على قيمهم، فارتدّوا على هذا المجتمع بأعمال انتقامية معادية. لكن، الآن، بعدما تبين النصر، فالأمور ستبدو أكثر تعقيداً.
إذا نظرنا الى أسباب هذه الحرب: نجدها نتيجة لتطور المجتمع الغربي، بتفكيره وبتفوقه التكنولوجي، بفلسفته الحديثة وبمفهومه للديموقراطية.
إذا كان الهدف تحرير العراق، ونشر الديموقراطية فيجب أن نعرف أي نوع من الديموقراطية. الى الآن يتبين لنا الهوة بين البلاد الفقيرة والغنية تزداد عمقاً كلما ازداد تطور التكنولوجيا الحديثة. فالاستهلاك يجب أن يستمر ويزداد لأنه أصبح مقياساً للرفاهية والسعادة في الحياة. ولكن، يغيب عن الذهن ان هذا الاستهلاك يأتي من "أمر اليوم"، من فوق: استهلك، تلذذ، استمتع. أي انه إلغاء تام لما هو الحياة الخاصة والرغبات المميزة، وما على الإنسان الحديث إلا أن يضع جانباً خياراته، ويمتثل للأوامر الاستهلاكية، كي يستحق صفة الحضاري أو الحديث، وإلا كان خارج عصره. كل هذه الأفكار المستمدة من الخطاب العلمي التكنولوجي، ومن الفلسفة الاستهلاكية، تتحكم بالأفراد وبالمجتمعات وبالرؤساء. لأن المطلوب في كل انتخابات وعد بالمزيد من الملذات ومن الامتيازات ومن رخاء العيش. لكن الوفاء بالوعد لا يأتي بالحد من سلطة الرأسمالية انما بتحصيله من موارد البلدان الفقيرة التي لا حيلة لها للدفاع عن نفسها.
الخلاصة ان هذه الديموقراطية المعلبة هي في الواقع ديموقراطية مريضة تترسخ تحت وطأة الإعلام وتشويه الحقائق وتترسخ تحت سلطة الاستهلاك في سبيل خدمة رأسمالية وحشية.
فهي ديموقراطية نرجسية، لا تفكر إلا بنفسها وبتنمية اللذة الفردية كعبادة جديدة، وتتحكم بمنطق إعلامي، يمكن إذا تعرضت لنقص في مواردها أن تتوجه بآلتها العسكرية أو الاقتصادية الى بلد لا يقاوم لكي تعوّض عن هذا النقص.
وأزيد على ذلك ان الديموقراطية النرجسية لا تتحسس مآسي بلدان العالم الثالث ومعاناتها.
والسبب يعود، كما يبين التحليل النفسي الى أن الإحساس بمشاعر الآخر، بآلامه ومعاناته، لا تتم إلا عن طريق التماهي identification فمن دو التماهي لا توجد قيم انسانية وحقوق انسان. فالغربي منذ بدأ الإسلام يظهر، خصوصاً بعد 11 أيلول سبتمبر، لا يرى في المسلم موضوعاً للتماهي ان ما ضمر له الحقد والكراهية. فالإيديولوجيا دخلت في حقل الغاء الآخر لتجعل أي انتماء قومي أو ديني معرضاً لمشاعر عدائية مسبقة قبل ان تعرف قيم الشخص.
الأميركيون والانكليز لا يتماهون بالشعب العراقي، لأنهم فقط يجهلون حضارته، وان هذه الأرض التي يدوسونها بجزمهم وآلياتهم، كانت في الماضي مصدراً للحضارات اللاحقة. فمن بغداد انطلقت الترجمات عن الاغريقية التي عندما وصلت الى الغرب، فتحت أبواب النهضة العلمية والفنية. وان كبار الأطباء وعلماء الفلك والرياضيات انطلقوا من هذه الأرض الحضارية المقدسة.
أمام هذا الواقع المؤلم، إذا تناولنا الخطاب السياسي في قرار الحرب، في شكله الظاهر على أنه يهدف الى ارساء القيم الإنسانية وتحرير شعب العراق من الجور والطغيان، فلماذا هذا التفاني وهدر الأرواح وإرساء ظلم مكان ظلم آخر. ولماذا العراق بالذات دون غيره؟
الجواب يأتي من باطن الأمور وبحسب إجماع المحللين السياسيين على أن الحرب لم تكن لتحصل في العراق على رغم ما يقال لولا وجود الثروة النفطية. فالأميركي يذهب الى الحرب من أجل المثل الأميركية ويقتل من أجل المصانع.
الحصول على الثروة النفطية هو من أجل المزيد من الرفاهية والرخاء، فمعنى ذلك ان ما حصل هو غزوة عسكرية تدخل في اطار الغزوات التي عرفها التاريخ مثل التتار وغيرهم، فالإمبراطوريات السابقة بنيت من طريق العنف والغزو. ويقول فرويد ان الغزو يمر في ثلاث مراحل: العنف المدمر المنتصر. تحويل الغنائم الى حقوق. ثم أخيراً شرعنة هذه الحقوق. يقابله إذا تفككت القوى الغازية عنف مقابل، استرداد الحقوق ثم شرعنتها. وهكذا الدخول في دائرة. وهذا ما يخشى ان يدخلنا في صراع قد يمتد الى أجل بعيد. أي إذا انتصر الأميركيون والانكليز نهائياً وتم لهم اقتلاع جهاز صدام حسين الأمني كما حصل، لن تكون نهاية الأزمة بل بدايتها. إذ سيتبين لنا ان التركيز على صدام حسين، ما هو إلا بداية تضليلية للشعب العربي أشبه بالتنويم المغنطيسي.
ويصبح موضوع صدام حسين ثانوياً بالنسبة الى سببية الحرب وليس إلا الحلقة الضعيفة من محور الشر الذي حدده بوش، لأنه كما يقول ايمانويل تود في كتابه "نهاية الامبراطورية" الأقل كلفة، لأن العالم العربي مشتت وفي غيبوبة لا يعرف مدى أجلها. باختصار: إذا أردنا ان نحدد الأفكار الايديولوجية التي تتحكم بالأشخاص وبقرار الحرب، هنالك ثلاثة:
أولاً: تطور التكنولوجيا الحديثة باعتماد الخطاب العلمي وآثاره في المجتمع الغربي، لا سيما ان العرب اضاعوا فرصة عصر الأنوار والأفكار التحررية التي سادت في القرن التاسع عشر بسبب الحكم العثماني، وهي أدت الى انهياره. فالغلبة، يقول فرويد، في القبيلة البدائية كانت لصاحب العضلات والقوة الجسدية. أما الآن فالنصر هو للذكاء وللتطور العلمي والتكنولوجي. والتخلف في هذا الميدان يكبر في شكل حساب رياضي جيومتري مع تطور الزمن.
ثانياً: يسود مبدأ جديد اسمه مبدأ الوقاية. وهو عام وشامل، يطاول كل القطاعات والطرقات والكوارث الطبيعية والصحة طب الوقاية الخ...
واعتمدت أميركا الحرب الوقائية بعد أحداث 11 أيلول. ولكن، كما يقول ج.ب.دوباي في كتابه "الكارثية المستنيرة" فوسائل الوقاية المتبعة على الأسس العلمية قد تحمل في طياتها كوارث أكبر بكثير من الخط المحدد لها للوقاية منه.
ثالثاً: تطور الفكر الحديث وفلسفة الاستهلاك أدى الى انعدام المقدس في كل المجالات الحياتية، من الموت الى الجنس. ولا يمكن مجتمعاً أن يعيش من دون مقدسات: فما هو معدم في السجل الرمزي، يعود من الواقع بواسطة العنف. وهذا ما شهد عليه بناء دولة اسرائيل وتقاطع مشروعها مع عودة الشعب الأميركي الى المقدس التوراتي. وليس من الغرابة أن يتجسد هذا المشروع التوراتي في شخصية بوش وأيديولوجيته القائمة على التبشير بالديموقراطية والحرية كرسالة تستمد جذورها من تيار بروتستانتي اصولي Evangelique يؤمن به أكثر من 16 مليون أميركي. وعندما نتكلم على عودة المقدس لا بد من أن يرتهن ذلك بالفدية، الذبيحة Le sacrifice. وهذه الفدية تتراوح ما بين الفداء الاقتصادي والحيواني والإنساني، كما كان يعتمد في معابد الديانات القديمة.
وهذا يدعو الى حضور طرف ثالث يسمى العدو. وبطبيعة تاريخ الشعب الأميركي: العدو هو حاجة عضوية لكيان المجتمع الأميركي. في الماضي كان هذا العدو يتمثل في الهنود الحمر. وبعد فترة غاب هؤلاء، فاستنبطت أفلام هوليوود سكان المريخ. وبعدها الشيوعية المادية المعادية للديانة الأميركية. وعندما غاب الاتحاد السوفياتي، دخل صدام حسين على الخط سنة 1991، واعتبرت الحرب "حرباً محقة" ودعوة دينية. وبعد 11 أيلول أعلنت الحرب العالمية الثالثة، ولكن، هذه المرة، على الارهاب الإسلامي. وهو عدو خفي قد يوجد في أي مكان، فأدخلت العالم في حرب لا يعرف متى نهايتها.
إذا استمرت الأمور في هذا السياق وفي هذه التداعيات، فلا شك في ان الكوارث ستتوالى، لأن العلاقة بين أميركا والعالم أصبحت ثنائية. فغياب الأمم المتحدة كمرجعية لحل النزاعات والخلافات بين الدول، سيفتح المجال للكثير من الحروب. وهذا ما أشار فرويد الى ضرورته لوقف الحرب قبل بزوغ الأمم المتحدة ب12 سنة، أي سنة 1933. أما وجود الجيوش الأميركية على الأراضي العربية فسينقل حتماً المجتمع الإسلامي في حوار الحضارات الى صراع الحضارات.
هنالك احتمالان. الاحتمال الأول: بعد ان انتهى صدام حسين واختفت عبادة أصنامه وزالت معه الأسباب التبريرية للحرب، إما أن يحصل الرفض ويعتبر الوجود العسكري جسماً غريباً على غرار اسرائيل وستبدأ حلقة من العنف الارهابي لا يعرف أحد مداها وما تفرز من منظمات أصولية لا يمكن ضبطها وتيارات قومية تحررية. عندئذ تعم الفوضى العالم العربي والإسلامي لكي تطاول أوروبا وأميركا، فتخلق شرخاً ما بين الشرق والغرب لا يسلم منه مسلم معتدل أو مسلم متطرف.
الاحتمال الثاني: ان يستوعب الفكر الإسلامي هذه الهجمة العسكرية، ويحتويها بظهور اسلام ديموقراطي مستنير يعيد النظر بكل الموروث الذي كان سبباً في انفلاق الفكر ويعيد وصل الإنسان بتاريخه الحضاري بعد انقطاع دام قروناً عدة.
يتبين عندئذ ان الحقيقة والحق لا يبنيان بقوة الدبابات والطائرات لأن هذه القوة وهن زائل.
السؤال الأخير: هل نتيجة هذه الحرب نهاية التاريخ كما يدعي فوكوياما أم بداية تاريخ جديد للإنسانية؟
* محلل نفسي. رئيس المركز العربي للأبحاث النفسية والتحليلية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.