مثلما يختلط الحابل بالنابل في مدينة أم قصر في جنوبالعراق، فإن الأمر هكذا عند مدخل مدينة البصرةالجنوبي على الطريق الرئيسي شمال جسر الزبير بنحو 500 متر، حيث أقام البريطانيون نقطة حماية وتفتيش ينتشر حولها العديد من الدبابات وناقلات الجند التي تقصف بين حين وآخر بمدافعها ورشاشاتها الثقيلة مواقع عراقية مقابلة لها في حي المهندسين جنوبالمدينة. عند مدخل البصرةالجنوبي شاهدت "الحياة" عراقيين من مختلف الفئات، منهم التاجر الذي ينقل البندورة الطماطم من الزبير ليبيعها في البصرة ويعود والمزراع وعائلات هربت لتلجأ عند أقاربها في الجنوب وشباب هائم على وجهه وجنود فارون من أرض المعركة يريدون تسليم أنفسهم. وحين تسأل عن الوضع في البصرة، كل يصور لك الوضع حسب رؤيته الخاصة والشخصية. ولكن الجميع يجمع على ان الوضع داخل المدينة ما زال مستقراً وتحت سيطرة الحكم. وبعضهم تحدث لنا عن نقص خطير في مياه الشرب ونقص أقل في المواد الغذائية. لكن الغريب أننا شاهدنا اشخاصاً يحملون كراتين البيض وأكياس رز وسكر. وعندما استفسرنا من أين حصلوا عليها كان الرد "اشتريناها من السوق في المدينة ومعظم المواد الغذائية الأساسية متوافرة، ولكن الماء شحيح". هذا ما أكده ل"الحياة" رجل أعمال عراقي اسمه سعيد. ك الذي يملك شركة شحن بحري. خرج من البصرة ليرى ما حصل لمكاتب شركته في ميناء أم قصر ليعود الى المدينة. وكان طلب بكل تهذيب اجراء مكالمة هاتفية مع الأردن من هاتفنا الفضائي فأجبنا طلبه وبالفعل اتصل بشركة شحن أردنية معروفة وطمأنهم على الوضع. وبموضوعية شديدة تحدث سعد ل"الحياة" عن الوضع في مدينته العائد اليها. فقال: "ما زالت المعارك تدور بعيداً عن المدينة عند الحدود وضواحيها الغربية والجنوبية، لكن المدينة تشهد قصفاً أعمى بالصواريخ التي تسقط على أحيائها الشعبية مما يتسبب بسقوط العديد من المدنيين جرحى أو قتلى. ومن المناطق التي شهدت قصفاً قوياً في المدينة حي النفط، وحي الحياني الغربي، ومنطقة الميل 5 والأعشار. وفي المدينة متاريس ونقاط حراسة ودوريات مسلحة ومسلحون من أعضاء حزب البعث وقوات نظامية و"فدائيو صدام" و"جيش القدس"، هؤلاء يحملون أسلحة رشاشة خفيفة، وبعض يقوم بدوريات في السيارات تحمل رشاشات "الدوشكا" الثقيلة. لكن ليس هناك جيش أو قوات عسكرية داخل المدينة، إذ ينتشرون حولها المنظمات الحزبية تقوم بتقديم خدمات المساندة والإمداد للجيش مثل توزيع المواد الغذائية وطبخ الطعام في المدارس. ومعظم المواد الغذائية الأساسية مثل الرز والسكر والشاي والدقيق والزيت والصابون وحتى البيض متوافر، لأن السلطات وزعت على المواطنين حصصهم التموينية قبل الحرب ولمدة ستة شهور. الكهرباء مقننة والمياه يوجد نقص فيها وان كانت متوافرة بين حين وآخر. السكان معنوياتهم عالية لكن عندما يحصل القصف تهبط المعنويات ويلجأون الى بيوتهم. وتقوم طائرات الحلفاء بإلقاء المنشورات تطالب بالاستسلام والتعاون،. والذين يتركون المدينة لهم أقارب أو عائلات في مناطق الجنوب مثل الزبير أو أم قصر. وهناك عائلات عدة لها أقارب في شرق المدينة لجأت اليهم، خصوصاً الى حي شط العرب اعتقاداً ان هذه المنطقة المتاخمة للحدود مع إيران آمنة. رجل الأعمال العراقي الذي التقته "الحياة" حين كان عائداً بسيارته الى البصرة كانت معنوياته عالية على عكس شاب آخر تقدم منا بخوف حين رآنا نتكلم العربية. وقال لنا: "أنا عسكري في الجيش العراقي وهربت من دوريتي الموجودة في منطقة البصرة وأريد ان أسلم نفسي للقوات الاميركية فهل من الممكن ان تترجم لي أو تحدثهم عن طلبي. وحين قلنا له ان الأمر لا يعنينا، قال: "سأهرب نحو الجنوب الى ان تنتهي الحرب لأنني لا استطيع العودة، فإذا عدت سيعدمونني". وبالفعل كان البريطانيون والأميركيون غير غائبين بأسر من تقدي اليهم عند هذه النقطة. ويخبرهم بأنه عسكري ويريهم بطاقته، ويبدو ان السبب ان معسكر تجميع الأسرى الواقع غرب مدينة أم قصر داخل مقر قيادة القوات البريطانية في المنطقة امتلأ بأربعة آلاف أسير عسكري عراقي، كما أخبرتنا بذلك الرائد راشيل جريمز التي التقيناها عند مدخل معسكر القيادة البريطاني. وأخبرتنا أيضاً أنه يجري تجميع الأسرى في هذا المعسكر واحتجازهم لمدة يومين أو ثلاثة، وبعد التحقيق معهم ومعرفة هوياتهم يجري نقلهم الى معسكر آخر اكبر تحت حماية القوات الاميركية يقع في المنطقة نفسها. وذكرت الضابطة البريطانية ان مندوبي الصليب الأحمر زاروا المعسكر وتفقدوا الأسرى وأخذوا قوائم بأسمائهم وانه يجري تقديم الدواء والغذاء والملجأ للأسرى وتتم معاملتهم وفق اتفاقات جنيف. وفي أم قصر، هذا الميناء العراقي الوحيد على مياه الخليج العربي، ما زالت الفوضى تعم المدينة على رغم ان القوات البريطانية سيطرت عليها قبل أكثر من اسبوع. وراحت تقوم بحملات تمشيط لاعتقال مدنيين مطلوبين، وعلى رغم ان البريطانيين بدأوا يعيدون الخدمات اليها، خصوصاً الماء والكهرباء، بدأ بعض عمال الميناء يعودون الى العمل تحت إمرة البريطانيين الذين يديرون شؤون المدينة. ومن المقرر ان تكون شركة اميركية قد تسلمت ميناءي أم قصر لإعادة تشغيلهما. والفوضى في مدينة أم قصر سببها عدم وجود ادارة مدنية حتى الآن تدير شؤونها. وهذا ما يبدو من طريقة توزيع المياه على سكانها. فالبريطانيون مددوا انبوب مياه من منطقة أم قصر الكويتية الى أم قصر العراقية بطول 2.5 كلم ليحمل المياه الكويتية الى المدينةالعراقية. ويقول البريطانيون إنهم يوزعون مليوني ليتر يومياً على سكان المدينة. لكن الحقيقة التي اعترف لنا بها الميجور بول ستانلي "ان الكميات تقل في بعض الأيام بسبب أعطال فنية، ولكن الطريقة الفوضوية التي توزع بها المياه عن طريق شاحنات نقل أدت الى ضياع كميات كبيرة منها وعدم حصول معظم السكان على المياه إلا القادر منهم وصاحب الواسطة أو من يدفع الثمن لسائقي الشاحنات من المواطنين، وبسبب هذه الفوضى لم يحصل المستشفى الوحيد الذي يعمل في المدينة، مستشفى أم المعارك، سوى على ألف ليتر ماء خلال يومين. وأبلغنا مديره الدكتور محمد الأنصاري انه لا يوجد مياه في المستشفى بسبب "الفوضى وعدم قدرتنا على التصدي للناس الذين يستولون على شاحنات النقل". واقترح الدكتور الأنصاري ان تنقل المياه الى خزان المدينة الرئيسي ويجري ضخها ولو لساعة في اليوم، عبر شبكة المياه السليمة.