بعد ليلة هادئة قضيناها في مركز للشرطة الكويتية، عند المعبر بين أم قصر الكويتية وأم قصر العراقية، صحونا في السابعة صباح أمس على دوي ثلاثة انفجارات عنيفة. وأبلغنا سيرجنت على الحاجز البريطاني عند مدخل أم قصر العراقية ان الأصوات هي لتفجير ألغام في المنطقة وفي مياه الهور الذي يفصل بين شبه جزيرة الفاو وأم قصر العراقية. ثم سمعنا رميات رشاشات ثقيلة من داخل المنطقة السكنية لأم قصر، وأقرّ السيرجنت بزن هناك جيوباً للمقاومة يجري التعامل معها. وتوجهنا غرباً، على الطريق الترابي المحاذي للسياج الجنوبي الممتد الى داخل مدينة صفوان، كانت أم قصر على يميننا، بمينائيها الجديد والقديم وكان كل شيء يبدو هادئاً. دخلنا المعبر الحدودي الكويتي الى صفوان. مدينة بائسة، سكانها بدو وفلاحون، بدت الحال في وجوههم. جلسوا أمام بيوتهم الطينية يتفرجون على العربات العسكرية للقوات الأميركية والبريطانية. لوحوا لنا من بعيد. شاهدنا صورة كبيرة للرئيس صدام حسين عند مبنى مركز شرطة صفوان وقد انتزع نصفها الأعلى وبقي الأسفل. عند الجسر المؤدي غرباً الى الناصرية وشمالاً الى البصرة كانت نقطة السيطرة البريطانية تحرس 40 أسيراً عراقياً بينهم 7 ضباط داخل مربع من الأسلاك الشائكة لا تتجاوز مساحته 20 متراً. حاولنا التحدث الى العراقيين الأسرى لكن البريطانيين منعونا. قام احد الاسرى فنادى علينا: "أنا مدني مو عسكري". طلب الأسرى سجائر ورفض البريطانيون ذلك. تجمعت حولنا أعداد من المواطنين العراقيين شاكين: لا ماء ولا كهرباء ولا علاج عندهم، والقوات الأميركية والبريطانية قصفت محطة الكهرباء قبل يومين. تابعنا السيرنا شمالاً لنرى قافلة طويلة لعربات نقل بريطانية تحمل جسوراً متحركة وأنابيب ومعدات أخرى. وبالقرب من المجمع الصناعي للبتروكيماويات يقع على الطريق الرئيسي اقتربت منا عربة نقل صغيرة فيها ثلاثة عراقيين قالوا لنا ان داخل المصنع "عناصر تابعة لحزب البعث ونحن نريد أن ندخل لنلعن أبوهم، هل تدخلون معنا؟". تركناهم وتابعنا السير، وكانت على جانبي الطريق عربات عراقية تحطمت مع مدافع مضادة للطائرات كانت تجرها. لم يبد الدمار كبيراً كما شهدناه قبل اثني عشر عاماً حين دخلنا الزبير يوم الأول من آذار مارس 1991 بعد تحرير الكويت. وتأكد لنا ان القصف الأميركي يحاول استهداف المواقع العسكرية والمباني التابعة للنظام ليتجنب المدنيين. حذّرنا الجنود البريطانيون في المنطقة من التوغل في المدينة واحيائها، وقالوا أننا قد نتعرض لرصاص العراقيين على سياراتنا أو قد يعتقدوننا غزاة. على الطريق الرئيسي وجدنا مجموعة صحافيين تسللوا عن طريق العبدلي. وقفنا معهم عند مدخل الزبير وكان على جانب الطريق خزان اسمنتي كبير للمياه تسلقنا سوره لنجد ان الجنود العراقيين الفارين خلفوا فيه رشاشات وصواريخ "ار بي جي" مضادة للدروع. على بعد أمتار كانت هناك بقايا عربة نقل عسكرية عراقية محترقة والى جانبها جثة لجندي عراقي. في تلك المنطقة شاهدنا عراقيين غاضبين. قالوا لنا انهم فلاحون في المنطقة، واشتكوا من الوضع. أحدهم قال أنه طالب جامعي، وهذا بدا من حديثه، قال: "نحن محاصرون بين نظام نكرهه وبين غزاة محتلين. نحن لا نريد هذا النظام ولا نريد هؤلاء الغزاة الذين جاؤوا لتدمير بلادنا واحتلالها". سألناه: "ما المشكلة؟" فأجاب: "يبدو لنا أن قوات الغزو اسوأ لنا من نظام صدام حسين". سألناه ثانية "لماذا؟" قال: "صار لهم في المنطقة نحو يومين ولم يعطوا العراقيين الغذاء والماء والدواء الذي قالوا انهم سيوزعونه وفي أي حال نحن لا نريد منهم شيئاً". كان هذا الشاب الذي يبلغ ال 21 أكثر هدوءاً من الخمسيني محمد الشهباب الذي بادرنا: "يقولون انهم سيقدمون لنا مساعدات كاللاجئين، نحن نرفض أن نكون لاجئين عندهم أو عند الكويتيين". وانفعل الرجل وراح يصرخ: "هم اسوأ من صدام حسين، حرقوا آبار النفط ويقصفون علينا". وحين اقترب زملاء كويتيون من هذه الجمهرة سأل احدهم زميلاً كويتياً: "هل أنت كويتي؟". فرد الزميل: "لا لبناني" فصرخ العراقي: "نحن لا نريد كويتيين". فسارعنا مبتعدين مع الزميلين الكويتيين حتى لا يحتدم الموقف. تابعنا شمالا فبلغنا حي الشهداء شمال مدينة الزبير، وأبلغنا عراقيون هناك اننا على بعد 22 كيلومتراً من مدخل مدينة البصرة الجنوبي. استغربنا هدوء الوضع، فلم نسمع انفجارات ولم نرَ حرائق، لكن دخان حرائق آبار النفط أو حفر نفطية كان يتصاعد غرباً. وذكر لنا البريطانيون انهم مع الأميركيين يحاصرون البصرة من الجنوب ويقومون بالالتفاف حولها غرباً متجنبين دخولها. فجأة أخذ الجنود البريطانيون وضعية التأهب للقتال فاضطررنا لمغادرة المكان عائدين الى أم قصر. وعند وصولنا الى صفوان علمنا من زملاء صحافيين ان نقطة تفتيش بريطانية أطلقت الرصاص على سيارة نقل عراقية صغيرة تضم خمسة أفراد فاسقطت قتيلين وجرحت ثلاثة. توجهنا الى أم قصر العراقية التي تركناها قبل نحو 4 ساعات، التقينا عراقياً قادماً من البصرة، حدثنا عما شاهده هناك، قال: "الوضع في المدينة مأسوي بعد غارات أول من أمس التي قتل فيها أكثر من خمسين مدنياً. المواطنون في بيوتهم ومزارعهم محصورون في حين تنتشر في الشوارع قوات "فدائيي صدام" و"الحرس الجمهوري" والعناصر المسلحة ل"حزب البعث"، يقولون انهم بانتظار دخول الأميركيين".