أمام الكوارث السياسية والعسكرية والاجتماعية التي لا يتوقف العالم العربي عن التعرض لها، منذ ما يزيد عن الخمسين عاماً، أي منذ "نكبة فلسطين" الأولى وأول الانقلابات العسكرية، لا شك في ان كثراً من الباحثين والمؤرخين يرون أنه بات من المناسب الآن استعادة شيء من ماض قريب، حيزه النصف الأول من القرن العشرين، أي تلك المساحة الزمنية الفاصلة بين نهاية الاحتلال العثماني ووصول عصر النهضة في الفكر العربي الى أوجه، من ناحية، وزمن بداية الكوارث التي اليها نشير من ناحية ثانية. فهذه الحقبة التي ثمة ميل، منذ وصول العسكر الى الحكم، الى طمسها وإغفالها، على اعتبار ان "السلطة" فيها كانت موزعة بين الاستعمار والانتداب، و"الطبقات الرجعية"، كانت هي التي عايشت الثقافة العربية فيها ذلك العصر الليبرالي، الذي - لا بد من الاعتراف أخيراً بذلك - انتج كل الثقافات الحية والجدية التي عرفها العالم العربي في الزمن الراهن، من كتابات قاسم أمين والطاهر حداد عن المرأة، الى روايات توفيق الحكيم ومسرحه، وبدايات نجيب محفوظ الكبيرة، ونتاجات طه حسين وأحمد لطفي السيد وأمين الريحاني، وصولاً الى بدايات فن السينما وانبعاث حركة الحداثة الشعرية... إن مراجعة لهذا الماضي القريب جداً - على رغم انه يبدو اليوم بعيداً جداً - قد توجد مبرراً لكل أولئك الذين يشعرون بالحنين الجدي الى ذلك الماضي، رافضين في طريقهم كل ما تمخض عن زمن من النكبات والعسكر والايديولوجيا، بما في ذلك أحلى ثقافاتها. وهؤلاء إن فعلوا، فإنهم في الواقع سيكونون قد ساروا على تلك الطريق نفسها التي سلكها من قبلهم عدد من مفكرين غربيين، لم يجدوا أمام الكوارث الأوروبية - ولا سيما أمام كارثة ظهور هتلر وأتون الحرب التي اشعلها مع نازييه - سوى الحنين الى الماضي يلتجئون اليه. ومن هؤلاء الكاتب الألماني الكبير ستيفان زفايغ. والحقيقة انه لم يكن من قبيل المصادفة لكاتب حساس ملهم وليبرالي من طراز زفايغ هذا ان يجعل واحداً من آخر كتبه التي وضعها قبل انتحاره - مع زوجته الشابة - ذات يوم من العام 1942 في البرازيل، يحمل عنوان "عالم الغد". ذلك ان زفايغ انما انتحر احتجاجاً على تعاسة "عالم اليوم" وضراوته، الذي كان في ذلك الحين عالم الديكتاتورية الهتلرية والضحالة الفكرية وحماسة قطعان الرأي العام راكضة خلف جلاديها... ومن هنا شكّل كتابه هذا ما يشبه الوصية: وصية الاحتجاج ضد الهبوط. إن كتاب "عالم الأمس" قد لا يكون الأشهر بين كتب زفايغ. فهو عرف، قبله، ثم بعد رحيله بالكثير من الروايات العاطفية والميلودرامية التي لطالما نهلت منها السينما - بما فيها السينما العربية - اقتباساً ومحاكاةً، مثل "24 ساعة من حياة امرأة" و"السيدة المجهولة" و"حذار من الشفقة" و"اختلاط العواطف"، وكذلك فإنه عرف، بأقل حدة بعض الشيء، بكتب السيرة التي وضعها لايرازموس وماري انطوانيت وغيرهما. اما بالنسبة الى الفرنسيين فإنه كان الكاتب الألماني الذي ترجم الى لغة وطنه الأم أعمال فرلين وبودلير. وأما بالنسبة الى الألمان فكان من أكبر الضالعين في اعمال نيتشه. بالنسبة الينا هنا، اذاً، ستيفان زفايغ هو صاحب تلك الوصية الفكرية - السياسية التي حملت اسم "عالم الأمس" والتي كتبت بعد عشر سنوات أمعن خلالها هتلر في نسف كل التراث الفكري والثقافي الحديث، وفي نسف منجزات الحضارة العالمية الانسانية كلها بعد ذلك. وكان من بين ضحايا هتلر، هنا، ذلك العالم القديم الذي كان ضياعه السبب المباشر لانتحار زفايغ. فمع وجود اناس مثل هتلر، كان بدا واضحاً لزفايغ ان "العالم القديم" الذي كان عالمه هو، لم يعد له وجود. ففي ذلك الحين كان هتلر ينتصر على كل الجبهات. لكن زفايغ آلى على نفسه الا يتركه ينتصر على جبهة محو الذاكرة. ومن هنا كان هذا النص الجميل والاستثنائي، النص الذي تحدث فيه زفايغ عن عالم البورجوازية المتنورة كما كان واعداً ومزدهراً عند بدايات القرن، على أيدي كتّاب وفنانين كان الكاتب عرف ميدانياً كثيراً منهم وعايشهم وقرأ أعمالهم من أمثال آرثر شنبتزلر وراينرماريا ريلكه وتوماس مان والفرنسيين رومان رولان وبول فاليري. كان من الواضح ان ستيفان زفايغ اذ يكتب عن هؤلاء، انما ينعى عالماً بأسره، عالماً سادته نزعة حداثة انسانية سلمية، وكان أقطابه اناس مبدعون امميون لم يريدوا لغير العقل والتنوير ان يكون وطناً لهم. وزفايغ بكتابته عنهم انما أراد - بالطبع - ان يجعل من نفسه الشاهد المعني على تلك التغيرات التي عصفت بأوروبا، والتي كان مرتبطاً هو بها، هو الذي شهد بأم عينيه "كيف ولدت تلك النزعة القومية الضيقة التي سممت زهرة ثقافتنا الأوروبية". ويعترف الآن بأنه لطالما عانى ذلك العمى الذي أصاب أولئك المثقفين الألمان الذين شاءوا ان يغضوا الطرف، ولو لزمن يسير، عن الخطر الذي كان يمثله أدولف هتلر، لأنهم ما كانوا ليصدقوا في شكل جدي ان رجلاً لم يستطع حتى ان يكمل دراسته الابتدائية، ولم يعش حياته إلا بفضل مصادر دخل ظلت على الدوام غامضة، يمكنه حقاً ان يصل الى مكانة سبق ان شغلها اناس من طينة بسمارك وامرادفون بولو. صحيح ان الاحداث عادت وفتحت العيون ولكن - وكما يحدث دائماً - بعد فوات الأوان. ولأن هذا كله أودى بزفايغ الى وهدة اليأس، وضع كتابه الجنائزي هذا، واختار ان يتوقف عن الهرب الى الأمام: اختار ان يموت احتجاجاً على عالم ليبرالي مشع ينهار أمام غزو الهمجية. ترى، لو نحينا من هذا النص اسماء مان وشنبتزلر وفاليري، ووضعنا اسماء طه حسين ونجيب محفوظ وميخائيل نعيمة، ثم نحينا اسم هتلر ووضعنا ما شئنا من اسماء عربية لمعت "خلال نصف القرن الأخير... هل ستكون الفوارق كبيرة؟ المهم في الأمر ان ستيفان زفايغ قال في هذا الكتاب كلمته. صحيح ان خصمه اللدود، هتلر، لم يعمر كثيراً من بعده بالكاد عاش ثلاث سنوات اكثر منه، لكن الزمن الجميل كان ولّى بغير رجعة. ولربما لأن من هزم الفوهرر وبقية الديكتاتوريين، لم يكن الشعوب ولا مثقفي التنوير... بل همجيات أكثر حداثة وذكاءً.