خلال الأسبوع الأخير من شهر شباط فبراير من العام 1942، كان رجل وزوجته يحضران مهرجان ريو في البرازيل ويشاركان الناس حبورهم وضجيجهم، حين جاء من يخبرهما بأن اليابانيين قد احتلوا سنغافورة. على الفور بدت على الرجل علامات الانهيار النفسي، وعاد بزوجته الى بيتهما في بيتروبوليس، ولم يمض يومان الا وعثر عليهما منتحرين معاً في شقتهما الصغيرة. كان ذلك يوم 23 شباط فبراير. للوهلة الأولى سيبدو الأمر غير قابل للتصديق، اذ ما العلاقة بين البرازيلوسنغافورة، ثم ما الذي يدفع شخصاً وزوجته للانتحار لدى سماعهما ذلك النبأ؟ لأن الرجل كان يدعى ستيفان زفاينغ، ولأنه كان قد امضى السنوات الاخيرة من حياته هارباً من النازية والفاشية، وعاش شهوره الأخيرة في خوف من اي انتصار تحققانه. ومن المؤكد ان سقوط سنغافورة بعد ايام من ضربة "بيرل هاربور" وضع الرجل امام احتمال ان تنتصر الفاشية ويسود العالم لون أسود قاتم. ستيفان زفايغ الذي كان في ذلك الحين يقيم في البرازيل مع زوجته الثانية ويحمل جواز سفر بريطانياً، كان نمسوي الأصل والهوى. ومن المؤكد بالنسبة لمؤرخي الأدب ان انتحاره يأتي في سياق انتحار العديد من كتاب فيينا وفنانيها. ففيينا التي تربى زفايغ فيها وعاش كانت مدينة منذورة للموت، كانت مدينة "الكابوس السعيد". والمدهش في حكاية ستيفان زفايغ ليس في كونه انتحر، بل في كون انتحاره قد أتى متأخراً! وصل اقتباس روايات زفايغ الى السينما المصرية. ولكن من المؤكد ان الذين تعرفوا على أدب زفايغ عن طريق ما اقتبس عنه - وبخاصة في السينما العربية - لن يقيض لهم ان يفهموا شيئاً عن حقيقة هذا الأدب. ذلك لأن تلك الاقتباسات لم تأخذ من أدبه سوى سطحه الميلودرامي وقشوره العاطفية. وحتى لئن كان ادب زفايغ نفسه يسمح بمثل ذلك الفهم السطحي له، فإن علينا الا ننسى ابداً ان هذا الكتاب كان من ابرز الذين جعلوا من ادبهم تطبيقاً فنياً للنظريات الفرويدية. بل ويمكن القوى من دون تردد ان السير التي وضعها زفايغ لبعض مشاهير الكتاب ورجال التاريخ من فوشيه الى تولستوي، ومن دوستويفسكي الى ماري ستيوارت الى بلزاك وايرازموس، كانت على الدوام اقرب لأن تكون محاولة لتطبيق الفرويدية وما تتحدث عنه من دوافع سلوكية تعود الى عقد الطفولة الجنسية وما شابه ذلك. بيد ان هذا لا يكفي بالطبع لولوج عوالم ستيفان زفايغ، فهذا الكاتب الغزير الذي كتب عشرات ألوف الصفحات وخلف اكثر من خمسين كتاباً، في الرواية والقصة والسيرة، اضافة الى كتاب مذكراته "عالم الأمس" كان يكتب باندفاع عجيب وكأنه كان يسابق الزمن الاجوف.