يبدو أنه لا مناص من أن تجد أميركا نفسها قريباً محشورة في صراع على السلطة مع الشيعة. اذ أن الشيعة الذين يشكلون 60 في المئة من السكان هم القوة الوحيدة التي يمكنها أن تتحدى الوجود العسكري الأميركي، كما أن الجيش الأميركي هو بالمقابل القوة الوحيدة القادرة على منع الشيعة من تولي السلطة. الملايين من البشر ساروا هذا الأسبوع وهم يجلدون أنفسهم ويضربون صدورهم متجهين إلى كربلاء المدينة المقدسة، في انفجار لا سابقة له للتعبير عن مشاعرهم، كان لكل من أتيح له أن يرى هذا المشهد الجنوني والدرامي سواء مباشرة أم على شاشات التلفزيون أن يشعر بالذهول والرهبة. كان الشيعة يعبرون في الواقع عن تعصبهم وولائهم للإمام الحسين بن علي الذي قتل في كربلاء عام 680 م، وكانوا منعوا من تعبيرهم هذا خلال سنين طويلة، كما كانوا يحتفلون في الوقت نفسه بخلاصهم من اضطهاد صدام حسين لهم ويعبرون عن تعطشهم للانتقام وتصميمهم على القبض بأيديهم على زمام مصيرهم. ولقد جاء في المنشورات التي وزعتها الحوزة العلمية، وهي المؤسسة الدينية الأولى في النجف "إننا نريد حكومة تمثل الشعب العراقي جميعه، حكومة ذات إرادة حرة مستقلة". غير أن تظاهرة كربلاء الضخمة، لم تكن بكل المقايس حدثاً سياسياً صريحاً... أو أنها على الأقل لم تكن كذلك بعد. كانت في جوهرها تعبيراً عن هوية دينية. والسؤال الرئيس الذي يطرح نفسه اليوم في العراق هو إلى أي مدى سيتحول هذا التعبير الحماسي العارم إلى حركة سياسية تطالب بإنهاء الوجود الأميركي. فإذا ما حدث ذلك فإن أميركا ستجد نفسها في موقف حرج جداً إذ قد يخرج الجني من القمقم. في الواقع أن أميركا تواجه مأزقاً كبيراً جداً في العراق. فهي إذا ما أطلقت العنان للنضال الشيعي يزدهر من دون ضبط أو قيد، فستضطر تبعاً لذلك لأن تسلم مقاليد الحكم إلى سلطة شيعية ثورية إسلامية على النمط الإيراني. وأما إذا اختارت قمع الشيعة عن طريق حكم عسكري مباشر فقد تجد نفسها في مواجهة ثورة شعبية عارمة يصعب التنبؤ بنتائجها. مثل هذا التمرد الشيعي قد يخلق مشكلة خطيرة للولايات المتحدة، إذ قد يعبئ المتطرفون الشيعة الشارع العراقي بواسطة الشعارات الإسلامية والوطنية بحيث يصعب التصدي للجماهير الثائرة. وأي محاولة للوقوف في وجهها قد تنتهي إلى إراقة الدماء من الجانبين وإلى اضطرار القوات الأميركية بالضرورة إلى مغادرة العراق. ويخطئ من يظن أن ملايين الشيعة في جنوبالعراق وفي الضواحي الممتدة حول بغداد نفسها هم مجرد مجموعات فوضوية من البشر لا هيكلية لها ولا قيادة. فالنفوذ القبلي في الجنوب هو صاحب الغلبة والهيمنة. وأما في المدن الشيعية الرئيسة مثل كربلاء والكاظمية وهي في ضواحي بغداد والنجف والبصرة، فهناك لجان شعبية وميليشيات وشبكات أهلية من كل نوع تظهر على الساحة كل يوم. ولا شك أن التوافد الضخم هذا الأسبوع نحو كربلاء يدل على قدرة رجال الدين على إثارة الشارع. ذلك كان المأزق الذي واجه الانكليز حين احتلوا العراق بعد الحرب العالمية الأولى. ففي البدء، رحب بهم الشيعة في الجنوب إذ ظنوا أنهم جاؤوا يحررونهم من نير الأتراك السنة. ولكن حين وضح بأنهم جاؤوا ليبقوا في البلاد، أخذوا يقاومون الحكم البريطاني، وما أن حل عام 1920 حتى انفجرت حركات التمرد والثورة في الجنوب ولم تتمكن القوات البريطانية من قمعها إلا بصعوبة بالغة. وأما اليوم، فيبدو جلياً أن الشيعة يريدون تولي السلطة السياسية في العراق : وإذا لم ينفردوا بالسلطة الكاملة فعلى الأقل أن تقوم حكومة تهيمن عليها الشيعة ويكون للسنة والأكراد فيها أدوار ثانوية. فإذا ما قبلت أميركا بهذه الطموحات ودخلت في حوار مع زعماء هذه الطائفة ، فسيطالب الشيعة بديموقراطية حقيقية على أساس صوت واحد للرجل الواحد، الأمر الذي يضمن لهم احتكار السلطة نظرا لوزنهم الديموغرافي. وسواء كان هنالك تمرد شعبي أو تقدم نسبي وسلمي نحو الديمقراطية، ففي كلتا الحالتين يعتبر أكثر الشيعة أنهم هم الرابحون. هل تحبذ إيران تمرداً شيعياً؟ لا شك أن إيران تراقب تطور الموقف في العراق باهتمام شديد. فمن الصعب أن نغالي في تقدير المصلحة الإيرانية واهتمامها بمصير الشيعة في العراق الذين تربطها بهم علائق تاريخية تعود إلى قرون من الزمن، وكذلك اهتمام الشيعة في إيران بالعتبات المقدسة في العراق. غير أن النفوذ الإيراني سيمارس على الأرجح بصورة غير مباشرة. فإيران لا ترغب في العمل على تشجيع القوى الشيعية المتطرفة لئلا يؤدي ذلك إلى رد فعل أميركي معاد ضد طهران نفسها. ولاسيما وأن طهران مستهدفة بسبب دعمها لحزب الله في لبنان، وبالتالي فلا مصلحة لها في زيادة تأزيم العلاقات مع واشنطن. وتفضل إيران أن يقوم حكم ديموقراطي في العراق خاضع للهيمنة الشيعية. وكما قال وزير الخارجية كمال الخرازي لصحيفة "لوموند" الفرنسية يوم 11 نيسان أبريل الجاري: "نتمنى بالطبع أن تقوم في العراق حكومة ديموقراطية غير أن المشكلة تكمن في شرعية تغيير الحكومة من الخارج". وأضاف قائلاً: "أعتقد بأن أميركا ترتكب خطأ استراتيجياً إذا ما أقامت حكومة أميركية في العراق حتى ولو كان ذلك لفترة موقتة. ذلك أن العراقيين سيعتبرون ذلك إذلالاً، فهم قادرون على اختيار حكومتهم". إن التنظيمات العراقية الشيعية الثلاثة التي تعارض صدام حسين مدعومة جميعها من إيران. وهذه التنظيمات قد لا تتفق بالضرورة على كل شيء غير أنها قادرة على الأرجح على اتخاذ موقف موحد يقضي بطرد أميركا على العراق والاستيلاء على السلطة. أولى هذا التنظيمات "جماعة العلماء" التي تضم رجال دين عراقيين موالين لإيران يتخذون من "قم" مركزا لقيادتهم. ثم يأتي المجلس الأعلى للثورة الإسلامية ومركزه طهران ويرأسه آية الله محمد باقر الحكيم. وثالث هذا التنظيمات حزب الدعوة. ويعتبر هذا الأخير أهم هذا التنظيمات نظراً الى خبرة مناضليه الطويلة في العمل السري في العراق ضد نظام صدام حسين. وقد لا تجد أميركا صعوبة كبرى في القضاء على المجلس الأعلى وقواته التي تسمى فيلق بدر، غير أن مهمتها ستكون أكثر صعوبة إذا ما تصدت لحزب الدعوة نظراً الى ما يملكه من شبكات تضم عناصر مخابرات وقتلة مدربين. ويقال بأن لحزب الدعوة ثلاثة فروع في طهران ولندن ودمشق لا رابطة مباشرة بينها غير أن فرع طهران هو الأكثر نشاطاً. ماذا عن دور السنة في العراق؟ منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة بعد الحرب العالمية الأولى حين نصب البريطانيون الأمير فيصل على العرش، تولى السنة الحكم في العراق وسيطروا على مؤسسات الدولة والجيش. وهم يعتبرون اليوم "الطرف المذنب" لأنهم كانوا يشكلون لب النظام الصدامي، ومع ذلك فإنه يصعب التصور بأن تعود هذه البلاد المدمرة فتقف على قدميها من دون مشاركة النخبة السنية. ويمكن التنبؤ بأن تحاول أميركا قريباً خطب ود السنة فتختار الأعضاء البارزين من هذه الطائفة لتعدل من وزن الشيعة في كفة الميزان وتتصدى لأي تحد من جانبهم. ولكن كما أن الشخصيات الشيعية العائدة إلى العراق تحت الرعاية الأميركية بعد سنين في المنفى قد تكون فقدت مصداقيتها في العراق الحالي، كذلك الأمر بالنسبة الى الشخصيات السنية الذي لا بد إذا ما تم اختيارها أن تكون معروفة في البلاد ومتمتعة بنوع من الدعم الشعبي. والأرجح أن الشخصيات السنية التي تحتاج إليها أميركا هي من أولئك الذين يتمتعون بقاعدة شعبية في البلاد ويملكون القدرة على جذب تأييد الجماهير، وربما الاعتماد على جنرال سابق قادر على استقطاب ضباط آخرين لمساندة النظام الجديد. ولقد تولى البنتاغون إدارة اللعبة في العراق حتى الآن. فالجنرال المتقاعد غارنر الذي استلم إدارة الحكم هو صديق شخصي لوزير الدفاع دونالد رامسفيلد. ولكن إذا ما تمرد الشيعة وفشل الجيش في معالجة الوضع الأمني فقد يزاح البنتاغون جانبا لتتولى وزارة الخارجية دوراً رئيساً في مساعدة الوكالة المركزية للمخابرات سي آي اي. أمريكا لا تزال في أولى مرحل صعابها في العراق. فهي بحاجة إلى إعادة تشغيل المصالح الرئيسية وإعادة السكان إلى أعمالهم والنفط إلى مجراه. وهي بحاجة إلى إصلاح النظام المصرفي وتثبيت استقرار العملة. ثم لا بد لها أن تعالج المسألة الحساسة الخاصة بديون العراق الضخمة. ولا بد لها في الوقت نفسه أن تعزل العراق عن أي تدخل خارجي وتقضي عن أي معارضة وتجتس الأعداء الذين لا شك أنهم سيحاولون عرقلة مهمتها وتشرف على إعادة بناء هيكليات العراق السياسية ومؤسساته والبنى التحتية. في ضوء كل ذلك، يمكننا التشكيك في أن يكون صقور واشنطن الذين كافحوا بشراسة من أجل "تغيير النظام" كانوا يدركون فعلاً ضخامة المسؤوليات التي ألزموا بلادهم بها. فلقد سعت أميركا إلى دور امبراطوري وصار لزاماً عليها أن تضطلع به. وكما اكتشف البريطانيون في الماضي، فإن معالجة موضوع الشيعة قد يكون أصعب من جميع المهمات الأخرى. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط.