بعد مرور اكثر من 37 عاماً على رحيله استطاع الشاعر اندريه بروتون "بابا السوريالية" ان يشغل الأوساط الثقافية الفرنسية عبر مقتنياته التي عرضت بالمزاد العلني الأسبوع الفائت في فندق درو وانتهت بحصد مبلغ 46 مليون يورو. تلك المجموعات بدأ الشاعر جمعها منذ سنة 1922 حتى 1966 سنة وفاته وهي ظلت موجودة طوال فترة غيابه في محترفه الكائن في 42 شارع لافونتين في الدائرة التاسعة في باريس. لم تنجح التعبئة الشديدة التي قام بها انصار السوريالية ومحبّوها كتاباً وشعراء ومسرحيين وفنانين في ايقاف عملية البيع ولا في اقناع الدولة الفرنسية بالاحتفاظ بهذه الكنوز عبر انشاء متحف خاص بالسوريالية وبالشاعر على غرار ما فعلت مع فنانين وكتّاب آخرين. وقد تجمع العشرات امام الفندق في اليوم الأول للبيع منددين ببيع المحترف مثل "السمك في السوق"، مطالبين بعدم خروج اشياء الشاعر من التراب الفرنسي. ووزعوا منشورات تقول: "الى الذين لامستهم الروح الحرة. اندريه بروتون أن يباع في المزاد بثمن بخس. لا". وضمت هذه المجموعة اكثر من 4000 من المعترضين ومنهم: جاك دريدا، اني ارنو، بونغوا، ميشيل بوتور، فرناندو اربال... وكان المحرك الأساسي لمناهضة البيع الكاتب ماتيو بنيزه، فرنسوا بو، لوران مارغاندا. والتأمت مجموعة ثانية دعت الى ترك باب السوريالية مفتوحاً على مصراعيه للجميع، خصوصاً ان بروتون كان طوال حياته ضد فكرة المتحف التحنيطية وضد الذهاب الى الجماهير. ووقع عريضة هذه المجموعة مثقفون وكتّاب معروفون من امثال: عالم اللسانيات بنفيست، جاك لاكاريير ساران الكسندريان... إضافة الى مجموعة تشيلي السوريالية. ومن المفارقات ان الحزب الشيوعي واليسار الفرنسي غيّرا رأيهما من السوريالية وشاركا في التظاهرة امام الفندق منضمين الى المجموعة الأولى التي تدعو الدولة الى انشاء متحف للسوريالية. بلغ عدد مجموعات الشاعر 6000 قطعة قدّر ثمنها اولاً ب30 مليون يورو وكان جمعها طوال فترة حياته الممتدة على مدى 44 عاماً، وهي اشبه بنافذة يمكن ان نطل عبرها على حياة الشاعر وتجربته الشعرية والشخصية. إنها تختصر روح السوريالية وجوهر فكرها حيث الأثر الفني غير محدد في الكتب والأشعار فحسب بل قابل للانفتاح على كل ما هو غريب ومهمل، على اختلاف انواعه. وتعكس المقتنيات عملية الجمع الشعري الهائلة بين مختلف المتناقضات على بعد المسافة ما بينها وولع الشاعر بالأشياء والموجودات المهملة بالدرجة نفسها التي يحتفل فيها بلوحة او منحوتة. وضعت مؤسسة كالميلز كوهن منظمة المزاد العلني مقتنيات الشاعر وأشياءه ضمن طابقين اثنين توزعا على تسع صالات كبيرة اعطي الأساس فيها للوحات اخذت عناوينها بحسب الموجودات. الصالتان الأولى والثانية اخذتا عنواناً هو "الفن الحديث" وقد ضمتا لوحات يعود بعضها الى فنانين كبار "الراقصة الإسبانية" لميرو، "بورتريه لهتلر" لفكتور برونوغ، "امرأة" لهانس ارب، "الفخ" لميرو ايضاً، "المرأة المختبئة في الغابة"، لمارغريت. وقّدر ثمن اللوحة الثانية ب800 ألف يورو، والثالثة بالسعر نفسه والرابعة بين 3 و5 ملايين يورو، والخامسة ب800 ألف يورو ايضاً. وضمت هذه الصالة صوراً ورسوماً ولوحات لفنانين آخرين من امثال بيكابيا، مازراي، ماكس ارنست، دوشان، ريفييرا، ماتالام، برانر، ولفنانين اقل شهرة مثل كلوفيس تروللي، اوليس. واشترى مركز بومبيدو بعض لوحات ميرو وتانغي وأرنست ومان راي ودالي. كما اشترى جدار المحترف والذي ضم 200 قطعة تمثل جزءاً اساسياً من المجموعة وهو ينم عن طريقة تفكير الشاعر ونظرته الى الأشياء، وقد سبق ان عرضه المركز في معرض "الثورة السوريالية" عام 2001 الذي زاره اكثر من 700 ألف زائر في باريس وحدها. الصالة الثالثة اعطيت عنواناً هو "الفن البدائي" وضمت اكثر من 300 قطعة. 150 من تاهيتي، 90 من اميركا الشمالية، 60 من الحضارة ما قبل الكولومبية، 10 من افريقيا وتوزعت الموجودات على اقنعة، تماثيل، منحوتات، وذهبيات من هنود اميركا. الصالة الرابعة اخذت عنواناً هو "الفن الشعبي" وضمت 420 قطعة بين ميداليات، لوحات بدائية من المدرسة المكسيكية، قواقع، حجارة، تعاويذ مصرية قديمة، زجاجات عليها صور صلبان. الصالة الخامسة وهي صالة المخطوطات ضمت 1686 كتاباً و536 مخطوطاً بينها مخطوطة كتاب "اركان 17" والملف التحضيري لكتاب "نادجا" فضلاً عن الطبعات الأولى من كتب بروتون، والكتب المهداة إليه من كتّاب كبار جايلوه من امثال: باتاي اراغون، تروتسكي... وضمت الصالة كماً كبيراً من المخطوطات المكتوبة بخط اليد. وكان الشاعر اوصى بأن تذهب مراسلاته الشخصية الى مكتبة جاك دوسيه. الصالة السادسة وهي صالة "التصوير الفوتوغرافي" ضمت كماً هائلاً من الصور التي اخذها له ولجماعة السوريالية فنانون من امثال: مان راي، دورامار، كلود كاهان، بوفار، بال مير، الفاريس، برافو، اوباك. وضمت الصالات الأخرى كماً كبيراً من القواقع، الفراشات، العكاكيز التي كان الشاعر يستعملها وأشياء اخرى غريبة. ومن يتجول في محترف الشاعر لا يحسب نفسه في معرض فحسب بل يجد نفسه قارئاً لتاريخ السوريالية يختصره محترف الشاعر لا بل لتاريخ الفن والشعر في القرن العشرين. هناك الألق والنور يشعان من كل المعروضات. إنه بحق شهادة لوعي او فكر السوريالية. فالمحترف وما يضمه بين جنباته من اشياء ولوحات يضيء قناعة الشاعر بفكرة الجمع بين المتناقضات والتي كان لا يمارسها شعرياً فحسب او في نصوصه، بل وفي حياته اليومية. ومن المعروف ان الشاعر اصدر في 1924 بياناً سوريالياً شهيراً دعا فيه الى الحرية المطلقة للخيال وكانت له مواقف سياسية مؤيدة لحركة المقاومة الفرنسية، إذ هرب اثناء احتلال ألمانيالفرنسا الى نيويورك وانضم الى حركة "فرنسا الحرة". وندد باكراً بجرائم النظام السوفياتي. وفي 1938 ذهب الى المكسيك وأصدر مع تروتسكي بياناً يؤكد الحرية المطلقة للفن، وكان من اهم المعارضين للكولونيالية ومن الموقعين على بيان ال121 الذي يناهض حرب الجزائر. وكان ايضاً من المؤيدين للبوب آرت، الهيبيز، الحرية الجنسية. في اليوم الأول للبيع حضر عدد كبير من اصحاب المجموعات والتجار والمعجبين الى قاعة المخطوطات حيث خصص اليوم الأول لبيعها، ووضع اكثر من 40 تلفوناً لأخذ آراء المضاربين مباشرة في حفلة حزينة وأليمة تؤكد تشتيت كنوز السوريالية ومعلمها على مشرحة المضاربات، وقد بيعت المخطوطات بما يقارب المليون يورو. وقد فاق الرقم ما كان متوقعاً إذ بيعت الطبعات الأولى من كتب الشاعر "الحقول المغناطيسية" ب12 ألف يورو، "بيانات السوريالية" ب18 ألف يورو. وخرجت ابنة الشاعر اوب عن صمتها وشرحت للصحافة معاناتها وتعبها طوال 40 عاماً من العناية بهذا الميراث الهائل وتركها المحترف كما هو مثلما كان اثناء حياة الشاعر. وأشارت الى عدم مقدرتها مع إلزا زوجة الشاعر السابقة التي توفيت في العام 2000، على الاحتفاظ بالمحترف، وفشلها طوال تلك السنين ما يقارب 40 عاماً، في اقناع وزراء الثقافة الفرنسية بإنشاء متحف او مؤسسة للسوريالية، خصوصاً ان بعضهم زار المحترف وأعجب به ولم يفعل شيئاً. وتساءلت: "اين كان الكتّاب والمنددون بعملية البيع طوال السنين الماضية، ولماذا لم يسمع صوتهم؟ فالمحبة التي يبدونها جاءت متأخرة جداً". وأشارت الى رفضها بيع المحترف كاملاً في نيويورك ولندن، وأنها هي التي اقنعت مركز بومبيدو بشراء حائط المحترف مفضلة بيع كل المحترف بكل محتوياته دفعة واحدة.