لقد كان هنا. ثم، مثل الظل، اختفى. في مسجد الأعظمية، في شمال بغداد، جعل الناس أسطورة من نصف الساعة التي يقولون ان صدام حسين ظهر فيها الأربعاء الماضي، قرابة وقت صلاة الظهر، أمام الناس في الساحة المقابلة للمسجد. قدّم لهم ما يمكن ان يُعتبر وعده الأخير، أو خدعته الأخيرة، للشعب العراقي. قال للجماهير المبتهجة خارج المسجد: "إنني أحارب الى جانبكم في الخنادق نفسها". ثم، كما يقول الآن أشخاص كانوا في الساحة في ذلك الوقت، صعد الزعيم العراقي ومجموعة صغيرة من الموالين له في سياراتهم وغادروا. بعد 12 ساعة من تلك الحادثة، قصفت الطائرات الأميركية المنطقة، ودمّرت جزءاً من المقابر خلف المسجد. ثم تبعتها قوات المشاة بهجوم على المسجد أصيبت خلاله المئذنة بقذيفة دبابة، في حين استُخدم صاروخ محمول على الكتف لفتح باب يؤدي الى منصة تابوت يحوي جسد أبي حنيفة، العالم الإسلامي من القرن الثامن، بناء على اعتقاد، بأن صدام حسين يختبئ في مكان مظلم هناك. لكنه لم يكن هناك. أين ذهب: "بالتأكيد هذه القضية الأكثر أهمية التي لم تُحل في الحرب الأميركية في العراق، خصوصاً ان تكريت، مسقط رأسه، صارت تحت سيطرة القوات الأميركية الآن. ويقول بعض العراقيين ان الدليل الذي رأوا بأم أعينهم يُكذّب الاعتقاد، الشائع في أوساط الاستخبارات الأميركية، بأن صدام قُتل في الغارة التي افتتح فيها الأميركيون الحرب في 20 آذار مارس الماضي أو في الغارة التي وقعت في 7 نيسان ابريل. يعتقد هؤلاء بأن صدام 65 عاماً ربما ما زال يعيش في مكان ما في بغداد، ربما في الأعظمية، وهي منذ عقود معقل لمؤيديه ومؤيدي حزب البعث. ويقول رجال التحقوا بحزب البعث منذ كان منظمة سرية في الخمسينات وبداية الستينات، ان العديد من خلاياه الأولى تكوّنت في الأعظمية، وان الاجتماعات الحاسمة للحزب كانت تُعقد هناك سراً. ويقول بعض الناس ان تركيبة المنطقة، اجتماعياً واقتصادياً، هي منطقة يقطنها أفراد الطبقة العاملة وهم في غالبيتهم العظمى سنّة، مثل صدام حسين ومعظم قادة حزب البعث، تجعل منها معقلاً لمؤيدي الحزب. حتى اليوم تجتمع جماهير في أحياء الأعظمية لمدح صدام حسين ونفي انه كان ديكتاتوراً قاتلاً، ولكي يُقسموا، بكبرياء وتحد، انهم لو مُنحوا الفرصة فإنهم سيقومون بكل ما يمكنهم لإخفائه من القوات الأميركية. ويقول رجل عرّف عن نفسه بأنه يدعى محمد عبدالكريم: "نعم، سندافع عنه حتى القطرة الأخيرة من دمنا، سنكون كلنا فدائيين في خدمة زعيمنا". لكن بعد ساعات من النقاش في الأعظمية، كان واضحاً ان قلة من الرجال كانوا مستعدين لكي يُعطوا اسماءهم الحقيقية أو معلومات أخرى يمكن ان تساعد الأميركيين في تعقبهم. أما بالنسبة الى أين يمكن ان يكون صدام حسين، قال الرجال، وفي حالات كثيرة نساؤهم، انهم لا يعرفون أين هو، وأنهم في أي حال لن يكشفوا المكان، لو كانوا يعرفونه، لصحافيين أميركيين. ويقول هيثم شهاب 55 سنة، وهو أمين المسجد، ان "صدام حسين كان زعيم بلدنا، كان رجل دولة، وكانت لديه سلطة علينا". ويضيف: "لا نعرف مكان وجوده الآن، ولكن حتى لو عرفنا، فلن نخونه. كيف يحق للأميركيين غزو بلدنا وقلب زعيمنا الشرعي؟". في شوارع الأعظمية وأزقتها لا يذكر أحد مناسبة أخرى، قبل ظهوره المفاجئ أمام المسجد الأسبوع الماضي، زار فيها صدام المنطقة، باستثناء اختفائه وراء جدران واحد من قصوره التي بُنيت في المنطقة قبل 15 سنة. لكن تقلّص منطقة نفوذ صدام في بغداد تجعل من التقارير عن ظهوره هناك أكثر صدقية. فيوم الأربعاء، سيطرت القوات الأميركية على معظم وسط بغداد وجنوبها، على ضفتي نهر دجلة شرقاً وغرباً. ودفع نجاح الأميركيين في السيطرة على المجمّع الرئاسي الأساسي في "القصر الجمهوري"، المقاتلين الأساسيين الموالين لصدام الى التراجع شمالاً من ضفتي دجلة، في اتجاه منطقة العاطفية في الغرب ومنطقة الأعظمية. ووجد الصحافيون الذين عادوا الى المسجد اليوم العراقيين في البدء مترددين في القول انهم رأوا أي شيء الأسبوع الماضي. حاول الزعماء المحليون ان يجذبوا اهتمام الصحافيين الى مقبرة الأعظمية، خلف المسجد. هناك، كما عرضوا على الصحافيين، فجوة عميقة ناتجة عما قالوا انه قنبلة أميركية سقطت ليل الأربعاء وقربها مجموعة مقابر قالوا انها تحوي جثث 18 شخصاً قُتلوا في المعارك، بينهم مدنيون ومقاتلون من الفدائيين. بعض القبور كان يُميّز بزجاجة غُرست في الأرض المقلوبة حديثاً ووُضع في فوهتها ورقة بيضاء تقول ان القتيل "شهيد" من أجل الإسلام. فتح الصحافيون الجالسون عند طرف المقبرة، في ظل شمس ربيعية حارقة، نقاشاً عن صدام وسنوات حكمه. وفي خلال دقائق، طغت الرغبة في الدفاع عن الزعيم المخلوع على الرغبة في البقاء صامتين إزاء ما شاهدوه يوم الأربعاء. وفجأة، بدأ رجل تلو الآخر يُقدّم شهادته عن الإثارة التي شعر بها في الساحة عندما ظهر فجأة، السيد حسين. اختلفت الروايات التي قدّمها على مدى ثلاث ساعات أكثر من عشرة رجال، في بعض التفاصيل الصغيرة فقط. قال جميع الرجال ان صدام وفريقه وصلوا في ثلاث سيارات، وان الزعيم العراقي - وهو بدون شك الحقيقي وليس واحداً من "البدائل" التي يُعرف عنه استخدامهم - كان برفقته ابنه قصي وحارسه الأمين عبد حامد حمود. كل الروايات تحدثت عن ظهور صدام بلباسه العسكري، وتسلقه ظهر إحدى السيارات والقائه خطاباً. نقل عنه أحد الحضور قوله: "أُحيي الشعب العراقي ... وأطلب منهم الدفاع عن أنفسهم، عن بيوتهم، وعن نسائهم وأطفالهم، وعن مزاراتهم الدينية". وقال الرجل الذي نقل هذه الرواية ان صدام الذي كان يبكي والدموع على وجهه، تابع قائلاً: "إنني أحارب الى جنبكم في الخنادق نفسها". ولكن ماذا عن القتل الذي ارتكبته الأجهزة السرية لصدام؟ ماذا عن التعذيب والإعدامات؟ ابتسم الرجل الذي كان يرتدي الدشداشة ويرفض اعطاء اسمه، وقال: "إننا أناس عاديون، ولا نعرف شيئاً". ثم أضاف: "في أي حال، هناك اخطاء سياسية تُرتكب في كل مكان. اخطاء صدام حسين كانت قليلة جداً". واشنطن ومصير صدام وفي واشنطن ا ف ب، اعلنت مستشارة الرئيس الاميركي جورج بوش لشؤون الامن القومي كوندوليزا رايس ان واشنطن تعول على العراقيين لمعرفة وربما قريباً ما آل اليه مصير صدام حسين وولديه ومسؤولين آخرين في نظامه. وقالت في تصريح الى شبكة التلفزيون الاميركية "اي بي سي": "قد نعرف قريبا أين يوجد صدام حسين ونجلاه لأن الشعب العراقي سيقول لنا ما يعرف". واوضحت ان "مكافآت ستقدم لإحالة اعضاء النظام الى القضاء". واضافت "يجب ان نركز على كون العراقيين يعتقدون بأن صدام حسين قد رحل لأنهم يعبرون عن آرائهم بحرية".