بدايةً، وقبل الحديث عن معرض الفنان أندريه ماسون، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ منظّمي معرض الفنان الانطباعي كلود مونيه الذي أقيم في متحف "القصر الكبير" في باريس، اتخذوا قراراً بفتح المعرض في الأيام الأخيرة أمام الجمهور ليلاً ونهاراً، وذلك للنجاح الذي لقيه وقد بلغ عدد زواره قرابة المليون. أربعة أيام وثلاث ليال متتالية، وقف الزوار في صفوف طويلة وكانت درجة الحرارة تقارب الصفر ليلاً. وقد جاؤوا من كلّ الأمكنة لإشباع العين بألوان ترشح بالضوء وللترحال في مشاهد طبيعية عبرت عين الفنان ووصلت إلينا بصورتها المنزّهة الصافية. من المعارض التي سجلت أرقاماً قياسية، هناك معرض واحد استطاع أن يتجاوز معرض مونيه من حيث عدد الزوار هو معرض "توت عنخ أمون وزمانه"، أقيم في العاصمة الفرنسية عام 1967، وجاء لمشاهدته مليون ومئتي ألف شخص. مع نهاية معرض مونيه، افتتح مؤخراً في "متحف مونبارناس" معرض للفنان الفرنسي أندريه ماسون الذي يعدّ أحد أبرز ممثلي التيار السوريالي في الفن التشكيلي ومن الذين ارتبط نتاجهم بأعمال مبدعين كبار طبعوا مسيرة الإبداع الأدبي والفني في القرن العشرين ومنهم عرّاب السوريالية أندريه بروتون والشاعر لوي أراغون وكل من الفنانين ماكس إرنست وخوان ميرو وألبرتو جياكوميتي والكاتب جورج باتاي. ولد أندريه ماسون عام 1896 في منطقة "الواز" الفرنسية ودرس الفنون في "المعهد الوطني للفنون الجميلة" في باريس، أعماله الأولى نهلت من التيار التكعيبي وكان بابلو بيكاسو وجورج براك من أبرز ممثليه خلال السنوات الممتدة بين 1913 و1917. عام 1924، التقى أندريه ماسون بالشاعر أندريه بروتون، وهو العام الذي نشر فيه هذا الأخير بيانه الشهير وحدد فيه رؤيته للآداب والفنون المستندة إلى عوالم اللاوعي، كان بروتون درس الطب، كما كان على معرفة عميقة بأفكار عالم النفس فرويد. وكان ينظر إلى الأحلام باهتمام بالغ لأنها تكشف عما هو خفي وسري في أعماق النفس. بالنسبة إليه، الأحلام وحدها هي التي تقود الإنسان إلى الحرية. وهنا تبرز المخيلة بصفتها قوة إبداعية تأخذ مكانها إلى جانب العقل والمنطق. من أعمال ماسون تبيّن أعمال أندريه ماسون تأثره بمفهوم الجمال السوريالي، وكان محترفه الباريسي المكان الذي يلتقي فيه باستمرار المبدعون الذين ساهموا في إطلاق السوريالية ومنهم بروتون إيلويار وأنطونين أرتو وجورج باتاي ولوي أراغون. يكشف المعرض أيضاً عن مشاركة الفنان في الحرب العالمية الأولى وإصابته بجروح بالغة رافقته آثارها حتى وفاته عام 1987 في باريس. وقد طبعت معاناته بسبب الحرب جميع المراحل التي مرّ بها عمله الإبداعي الذي أراد أن يكون انقلاباً على المفاهيم التقليدية السائدة. عام 1927 بدأت محطة جديدة في مسيرة الفنان تمثلت في اعتماده على تقنية الرسم الآلي واستعمال مواد متنوعة كالرمل والصمغ. كان ماسون يحب الطبيعة المتوسطية وقد أقام في اسبانيا ما بين 1933 و1936 بدون أن ينقطع عن العاصمة الفرنسية. وكان يساهم باستمرار في إصدارات السورياليين، كما أنه أسس مع جورج باتاي مجلة جديدة تدعى "أسيفال". بعد اسبانيا انتقل ماسون مع مجموعة من أصدقائه السورياليين ومنهم أندريه بروتون إلى الولاياتالمتحدة الأميركية وهناك التقى العديد من الفنانين الذين تأثروا بأسلوبه وفي مقدمتهم جاكسون بولوك. لكن على الرغم من السفر الدائم كان ماسون متعلقاً بباريس، المدينة التي عشقها طوال حياته، وكان يتردد عليها باستمرار للقاء مبدعيها والتعاون معهم على إنجاز المشاريع الفنية ومن أبرزها الرسوم التي أنجزها لمسرح "الأوديون" في باريس عام 1965 بطلب من وزير الثقافة أندريه مالرو. لا بد من الإشارة أيضاً إلى الحيز الهام الذي تحتله عناصر الطبيعة في نتاج أندريه ماسون، وهي تأخذ في لوحاته أبعاداً أسطورية وتمزج بين الحكايات القديمة ومفاهيم السوريالية بأسلوب رشيق وحيوي، وقد تمّ العام الماضي، في "متحف البريد" في باريس، تخصيص معرض بأكمله لعلاقة الفنان بالطبيعة.