واجهت نيويورك خلال السنة الماضية ثلاث أزمات رئيسية تورطت فيها شرطة المدينة اضافة الى رئيس بلديتها اليميني المتطرف رودولف جولياني، الذي طالما قادته آراؤه المتشددة الى مشاكل مع السكان الذين انتخبوه لخدمتهم. الأزمة الأولى أثارها اعتقال الهايتي الأسود آبنر لويما من قبل شرطي في بروكلين للتحقيق، وتعرضه أثناء ذلك للضرب المبرح ثم الاغتصاب بعصا مكنسة. وقضى لويما فترة في المستشفى لعلاج كسور كثيرة من ضمنها كسر في الفك. وبعد المحاكمة الجنائية للشرطي جاستن فولب، الذي اعترف بالاعتداء، قضت عليه المحكمة بالسجن ثلاثين سنة، فيما ادين ثلاثة من شركائه بتهمة عرقلة مجرى العدالة في محاكمة مدنية لاحقاً. أما القضية الثانية فهي اطلاق 41 طلقة ومقتل الشاب الأعزل الغيني أمادو ديالو من قبل مجموعة من الشرطة البيض أصابته ب19 منها، وبررت الشرطة ذلك باعتقادها انه كان مسلحاً. وذهلت المدينة بأسرها عند تبرئة كل أفراد المجموعة. القضية الثالثة، التي ربما كانت الأكثر إلهاباً للمشاعر بسبب تدخل جولياني فيها لصالح الشرطة، كانت مقتل المواطن الأسود باتريك دوريسمان 21 سنة، الذي كان أعزل أيضاً، على يد الشرطة ومن دون سبب ظاهر. وفي خطوة هدفت بوضوح الى تبرير تصرف الشرطة كشف رئيس البلدية الى الصحف سجل دوريسمان القضائي، الذي بيَّن انه اعتقل مرة بتهمة الاعتداء وحيازة الحشيشة ولكن تمت تبرئته. لكن كان من الواضح أيضا ان رجال الشرطة البيض الذين أطلقوا عليه النار لم يكونوا على علم بسجله. ومما يثير القلق في القضايا الثلاث لم يكن قتل ثلاثة من السود على يد رجال شرطة بيض فحسب، بل ما بدا من تعاطف جولياني مع الشرطة وليس مع ضحاياها. ومن الجدير بالملاحظة في مدينة مقسمة عرقياً مثل هذه ان سمعة جولياني السياسية ارتهنت منذ بداية ولايته بالانطباع السائد عن نيويورك كمدينة مليئة بالعنف والخطر السبب الأساسي هو العدد الكبير من السكان من غير البيض، غالبيتهم من الفقراء، وهو الانطباع الذي غيّرته تماماً ادارة جولياني. اذ من المؤكد الآن ان نيويورك من بين أوفر مدن أميركا أمناً، بعدما رفع رئيس البلدية ميزانية الشرطة ونشر الوفاً اضافية من عناصرها في شوارع المدينة. والأهم من ذلك، أتاح لها اتخاذ اجراءات قاسية ضد "غير المرغوب فيهم"، أي الفقراء والأقليات والمشردين ...الخ. النتيجة كانت الشعور بالخوف لدى من هو من غير البيض أو من أبناء الطبقة الوسطى بسبب تشجيع الشرطة على اعتقال أو احتجاز كل من اعتبر من "المشبوهين"، والأمل في نيل الثناء والمكافأة على ذلك بدل اللوم. وقضى جزء من هذه الاستراتيجية بنشر رجال شرطة بيض في شكل استفزازي الى حد ما في شوارع حيّ هارلم ذي الغالبية السوداء، فيما يشبه رسالة الى السكان مؤداها: "نحن هنا، أردتم أم كرهتم!". وأثارت قضية ديالو غضب الجالية السوداء بشكل خاص، فيما أجج قتل دوريسمان، وتدخل جولياني الذي بدا وكأنه يبرر "اعدامه"، لهيب الحرب العرقية. لكن وحشية الشرطة لم تقتصر على نيويورك. ففي لوس انجليس، وهي بدورها مدينة كبرى تشكل الأقليات نسبة مهمة من سكانها، سلطت الأضواء أخيرا على الأساليب البشعة التي تستعملها شرطة منطقة رامبارتس، ليس فقط بما فيها من العنف، بل بما كشفته وسائل الاعلام من اعمال البلطجة وبيع المخدرات والابتزاز التي يقوم بها رجال الشرطة أنفسهم أثناء "أداء الواجب". هكذا نجد ان سجون أميركا تكتظ لحد الاختناق بأعداد كبيرة من السود المضطهدين الذين يلاحق رجال شرطة "جرائمهم" مدّعين العمل باسم المجتمع لحماية الغالبية من أقلية معذبة مسحوقة أصلا. المعروف ان كل حكومة في العالم تخول نفسها احتكار العنف. لكن الفرق في الولاياتالمتحدة هو أن الدستور يكفل للمواطنين حق حمل السلاح للدفاع عن النفس. وهذا هو السبب في حدة النقاش في أميركا على تملك السلاح، حيث توجد أعلى نسبة في العالم لانتشار السلاح بين السكان، وأيضا السبب وراء تلك المجازر المتوالية التي تشهدها المدارس ويقوم بها التلاميذ أنفسهم. ان هناك تناقضاً عميقاً في بلد يواصل وعظ الكل ضد العنف و"الارهاب" فيما هو الأكثر عنفاً في العالم. كما ان من المخيف فعلا ان نرى مسؤولاً منتخباً مثل جولياني يفاخر بأنه يقضي على الجريمة عن طريق تحريض الشرطة على استعمال المزيد من العنف وليس الحد منه. الواقع ان تعبير "القانون والنظام" أصبح منذ ولاية الرئيس ريتشارد نيكسون شعاراً يمينياً. وبرز للمرة الأولى خلال المؤتمر الوطني للحزب الديموقراطي في شيكاغو في 1968 عندما استعملت الشرطة هذا المبدأ لتبرير قمعها الوحشي للتظاهرات المعارضة للحرب في فيتنام. منذ ذلك الحين وقفت قوات "القانون والنظام" في وجه كل محاولة للمعارضة او النقاش أو الاحتجاج، كما شهدنا في سياتل في تشرين الثاني نوفمبر 1999 اثناء التظاهرات ضد مؤتمر منظمة التجارة العالمية، كذلك ضد كل تحرك من أجل إلغاء التمييز وضمان حق الاجهاض ومعارضة الحروب. الفكرة هنا هي أن كل ما تفعله الحكومة ينبع من الشرعية ووجوب فعل الصواب، الى درجة ان حتى انتهاكات مثل قتل السود العزل يمكن ان تفسر، مهما كان في ذلك من نفاق، على انها تأتي لدعم القانون والنظام. ترتبط مقولة "القانون والنظام" في السياق الأميركي، اذن، بتفسيرها لمصلحة الأقوياء والأثرياء والتيارات المحافظة في المجتمع، سواء كانت في الحكم أم خارجه. ويتضح هذا تماما من النقاشات الدائرة الآن في حملات الانتخابات الرئاسية، حيث يبرز جورج بوش الابن، وليس آل غور، على انه مرشح "القانون والنظام". جوهرالقضية هنا ان مهمة الشرطة حماية مصالح الفئات النافذة في المجتمع، وإبطاء وتيرة التغير الاجتماعي اقصى ما يمكن، اذا سُمح بالتغير اصلاً. وهذا هو السبب في ان الأقليات المضطهدة تربط ما بين الشرطة وعرقلة مسيرتها نحو المساواة والتقدم الاقتصادي. في المجتمعات اللاديموقراطية مثل مجتمعات معظم دول العالم الثالث نجد ترابطاً ما بين الشرطة و"القانون والنظام"، مع الفارق ان التعبير هنا يعني حماية الحكومة، التي يعتمد وجودها على قوات الشرطة والحرس الجمهوري والأمن الرئاسي الخ. وهذا بالتأكيد هو وضع العالم العربي، حيث ترتبط الشرطة مباشرة في الذهن الشعبي - على امتداد ذاكرتي، وعدا رجال شرطة المرور المتواضعين! - بأعمال الاستجواب والتعذيب والاحتجاز التعسفي والمراقبة والتجسس والوحشية. ولنتذكر الخوف الذي يشعر به المواطن عندما يقف أمام مسؤول الأمن في المطار، في وضع يتعدى الاجراء البيروقراطي العادي ليمثّل مواجهة مع النظام نفسه. ومن المثير للاهتمام في البلاد العربية ان الرمز الرئيسي للكفاءة المتناهية ليست مصلحة الضرائب او النظام القانوني بل أجهزة الأمن. من يملك أحدث السيارات واجهزة الاتصال وأفضل الأسلحة وأفخر الملابس وكل ما امكن من مظاهر الترف والتدليل؟ انها عناصر الأمن المسؤولة عن حماية حياة الرئيس ونظامه ومصالحه سواء طابقت مصالح السكان أم ناقضتها. وليس هناك من ملجأ قانوني للفرد العادي في حال إلقاء القبض عليه وسجنه ل"التحقيق" معه. والنظرة السائدة في اذهان مواطني الكثير من جمهورياتنا "الديموقراطية" أو "الثورية" ان مهمة الشرطة هي اخافة الجميع لردع أية محاولة ضد النظام، بدل أن تكون حماية مصالح قطاع معين من السكان. لكن الفرق هو ان النظام الديموقراطي يتيح فرصة تغيير الادارة واساليبها من خلال الانتخابات، فيما ان هذا الخيار ليس متاحاً لنا. النتيجة هي ان الارهاب حل محل فكرة القانون والنظام - الارهاب الذي يمكن توجيهه الى المواطن المنفلت أو الغافل. وينطبق الأمر نفسه على الجيوش، فهي ليست بالضرورة لقتال العدو بالرغم من انفاق المبالغ الهائلة على الذخيرة وأسلحة الجو والمدفعية الثقيلة، غير الصالحة للاستعمال في حالات كثيرة بل لمواجهة المواطنين في حال تفكيرهم بالتغيير الديموقراطي، وأيضا بالطبع لتمكين الوسطاء من الحصول على العمولات الضخمة في صفقات شراء السلاح. المؤسف، في النهاية، تنامي تحالف موضوعي بين العديد من قوى الأمن في الدول غير الغربية ونظيرتها في الولاياتالمتحدة، في حين ان المفارقة في الوضع الشاذ الموصوف اعلاه لا ينطبق على الولاياتالمتحدة، نظراً الى خضوع الشرطة هناك الى القانون والى هيئات المراقبة المدنية والانتخابات ...الخ. المفتاح الرئيسي لمشكلة وحشية الشرطة حيثما تبرز هو المواطنية، أي الفكرة القائلة أن لكل مواطن في مجتمع ما، من ضمنهم الشرطة وقوى الأمن، الامتيازات والمسؤوليات نفسها التي تخضع دوماً للمراجعة واعادة التفسير. إلا أن الترابط في العالم العربي بين الاعتبار الأمني ومواجهة عدو خارجي اسرائيل، الامبريالية... الخ وثيق الى درجة خنقت الخطاب السياسي العربي ومنعته من الالتفات الى افتقارنا المؤسف على الصعيد الداخلي الى عملية ديموقراطية حقيقية - وهو ما عانت منه كل أوجه النشاط الاجتماعي، من التعليم الى النظام القضائي الى الثقافة والمؤسسات المدنية والسياسية. انه وضع يزداد سوءاً بمرور الأيام، ولأسباب تدعو كلاً منّا الى الخجل من أن العالم العربي هو البقعة الوحيدة على الكرة الأرضية التي تبدو وكأنها خارج الزمان والمكان بالمعنى العادي لهما. وكنت قد ذكرت في مقال سابق ان غودو لن يأتي، ولا فائدة من انتظار المنقذ. مشكلة القانون والنظام، مثل كل المشاكل الأخرى، من صنعنا، ولا حل لها سوى ما نقدمه نحن. * استاذ الانكليزية والادب المقارن في جامعة كولومبيا.