صباح الخير... يا عراق، بعد ليلة أرقتك فيها القنابل، دعني أمد يداً أضناها الخوف عليك يا عراق، وألمس هامتك وهي تتسامق مع جبال زاخو وتنحدر يدي جنوباً، تمر على القلب، بغداد، ثم تربت على قدميك وهما تغتسلان في شط العرب. عصياً تظل يا عراق... على رغم الخرائط التي رسمها تلاميذ خائبون لم يسهروا الليل في حبك، كما كنا نفعل صغاراً نحفر بالقلم على تعرجاتك حتى طبعناها على القلوب. لكن هؤلاء الغرباء المدججين بالسلاح الذين لا يعرفون رسم الخرائط اختصروا مدنك وشوارعك التي نعرف الى دوائر وأسهم وأرقام باردة كشفرة السكين. يقف تومي فرانكس يضع على الجدار... خريطتك... يا عراق... الخريطة التي نعرف... يشير بعصاه الى ارض الجنوب... ويشرح ماذا ينوي ان يفعله بمدينة المدن البصرة... ويرسم الكومبيوتر سهماً عريضاً اسود باتجاه البصرة... ولكن تومي فرانكس، لا يذكر لنا جيكور وبويب وبيوت محمد خضير ومحمود البريكان وكاظم الحجاج؟ وكل الرجال السمر الفارعين والنسوة الفاتنات الصابرات، ولا يأخذك السهم الى نخيل البصرة والعشار وأبي الخصيب. وينبثق سهم آخر... يتبعه الجنرال بعصاه... الى بغداد. اين يمر هذا السهم الاسود؟ فوق القلب ام تحت الكبد؟ أم داخل شغاف الحاجب الحاجز؟ أي شريان يهتك وأي وريد يقطع؟ هل تراه يمر قرب بيتي في الاعظمية؟ هل شطر اهلي عن بعض اهلي؟ هذه بغداد... ايها الرجل الغريب المدجج بالسلاح... "هذي بلادي لي بها نخلة وقطرة في السحاب وقبر يحتويني هي عندي اجمل من مدن الضباب من مدن لا تعرفني اجوب الشوارع فيها وحيداً" من قصيدة للشاعر العراقي عبداللطيف الراشد نجوب الشوارع بعيدين عنك يا عراق، نجلس في المقاهي. ندخن النرجيلة ونتحدث عن عظمة اميركا. نتفرج على فضائياتنا وهي تطفح بخبرائها الاستراتيجيين يحدثوننا عن عظمة اميركا، قنابلها الدقيقة وصواريخها العابرة القارات وأساطيلها... صرنا نحفظ اسماءها واحداً واحداً، اكثر مما نحفظ اسماء جيراننا. يطل رامسفيلد بائع السلاح بين الفينة والاخرى وهو يبيع لنا اسلحته المتطورة ويشرح بالتفصيل محاسن أو فضائل تلك الاسلحة... وكيف يمكن هذه التقنية الاميركية الهائلة ان تلقي "الصدمة والرعب" في قلب "مصطفى" وتجمد ضحكته اللاهية، وكيف تستطيع ان تلفق بمهارة رأس آيات* وتنتزع ضفائرها الجميلة من جذورها. وكيف صممت هذه التقنية الفائقة خصيصاً لتطفئ بكل دقة وحسم، التماع الاماني في عيني "هند" *. أليست اميركا عظيمة؟ ولكن.. ربما تجيد اميركا ابتكار ديموقراطية النابالم واليورانيوم المنضب وشرائح الكومبيوتر وخلطة الهامبورغر ورامبو.. لكنها بالتأكيد لم تستطع ان ترسم خريطة العراق، مع انها ليست بهذه الصعوبة، فأي تلميذ عراقي في الابتدائية يستطيع ذلك... وهي بالتأكيد لم تعرف كيف تفك لغز مدن العراق وأنهاره ونخيله. وفوق كل شيء لم تعرف كيف تقرأ ما يدور في رأس علي عبيد منقاش آل فتلة... لم تدلها عليه اجهزة الرصد لديها ولا أعتى رجال استخباراتها. ولكننا كلنا.. في قلوبنا العراقية.. نعرف ابن منقاش هذا، على رغم ان اسمه ليس تومي فرانكس ولا يظهر على شاشات الفضائيات ولم يحلم يوماً ان يكون حاكماً مدنياً او عسكرياً. ولكن علي منقاش كان فلاحاً من "الهندية". هذه الناحية الصغيرة، التي لم يذكرها تومي فرانكس على خرائطه لأنه لم يضع في حسبانه ان علي منقاش يتمركز فيها. وعلي منقاش هذا كان فلاحاً من الهندية: "كان لا يعرف أبعاد المسافات خطوط الطول والعرض وترسيم الحدود كان لا يفهم تقسيم الفضاءات او الحظر على الجو وتزييف الوعود. كان لا يفهم ما يروونه عن لغة الزيف والارقام في حرب النجوم كان في الحلم له كوخ من السعف ومشحوف يطر الهور اقمار من الطين وصيف من كروم وله نهر من المد واسماك من الفضة في صمت الغروب وقناديل من التمر تضيء الحزن في ليل الجنوب" من قصيدة للشاعر العراقي محفوظ داود سلمان. علي منقاش كان عراقياً وفي اعماقه وشم العراق. كان فلاحاً. لا وقت لديه يقضيه في المقاهي ولا تلفزيون لديه ليرى على شاشات الفضائيات العربية اولي الامر وهم يظهرون معطرين ومتأنقين وخلفهم جيوشهم العربية الجرارة يتساءلون بدهشة رخوة: "لقد فعلنا كل ما نستطيعه، بذلنا كل جهودنا ولكن من يستطيع ان يقف في وجه اميركا؟". ولكن فعلها - والله - ابن منقاش! ربما كان عليكم ان ترموا ترسانتكم من السلاح الاميركي المتطور في البحر، هذه التقنية الفائقة التي تعطبها ذرة غبار، وتشتروا بدلاً منها بنادق برنو قديمة. ولكن من اين تبتاعون قلوباً شجاعة مثل قلب علي منقاش، قلوباً تتعطر بطين الارض "وتتبختر بعراقيتها" "يتبختر بعراقيته" عنوان قصيدة للشاعر العراقي رعد فاضل، قلوباً لا تعطبها ألوف الصواريخ التي ألقيت على ارض العراق ولا اطنان القنابل الفتاكة ولا هدير الطائرات المقاتلة ولا حرائق النابالم واليورانيوم المنضب. ومن اين لكم أيد ثابتة لا تهزها المحن؟ لقد فعلها ابن منقاش!! كان فلاحاً عراقياً وكان لديه بندقية "برنو" قديمة وقلب شجاع ويدان مجبولتان من طين العراق. انتهكت صفاء سمائه طائرة "اباتشي" ضخمة.. وكما اعتاد ان يصطاد بين الحين والآخر طيراً للعشاء، رفع بندقيته "البرنو" العتيقة.. وسمى باسم الله وباسم العراق وعلي والحسين فتهاوت هيبة اميركا تحت قدميه. * آيات وهند ومصطفى - اسماء احفاد الكاتبة، يعيشون إذا سمحت لهم صواريخ بوش في الاعظمية، آيات ولدت عام 1993 حين دشن كلينتون رئاسته بقصف بغداد، وولدت هند عام ثعلب الصحراء 1998 واحتفل بوش الصغير بعيد ميلاد مصطفى الثاني بحملة حرية العراق وما زال الاحتفال مستمراً. * كاتبة عراقية مقيمة في القاهرة.