تجربتان في الكتابة الروائية لا يمكن الاقتراب منهما من دون أن تكون هناك تجربة شخصية تقف وراء الكتابة: إنهما الحرب والسجن. ذلك ان التجربتين تشكلان استثناء، بين التجارب التي قد يمر بها الإنسان. وبالتالي يحاول الحكاية عنها. وهذا هو الفارق بين الروائي المصري فريد محمد معوض، والروائي العراقي جنان جاسم حلاوي. الأول اغترب عن بلده وسافر الى العراق، ولكنه لم يمر في تجربة الحرب سوى من خلال أصدائها وردود فعلها في الواقع العراقي المدني. فهو كان يعيش في بغداد في زمن الحرب العراقية - الإيرانية. وتجربة هذه الحرب وما كان بطل الرواية عبدالرحمن يسمعه في المدينة عنها، يكادان يشكلان تجربة العمل كله، الى أن يعود الى مصر مع جثمان شهيد مصري من شهداء حرب العراق مع إيران. أما الروائي العراقي، فليس من المؤكد إن كان مر في تجربة الحرب. إلا أن التفاصيل الصغيرة، في أكثر من حرب خاضها العراق، سواء في الشرق مع إيران أو الشمال مع الأكراد أو الجنوب مع الأميركيين، وكذلك قاموس أسماء الأشياء التي كان الروائي حريصاً على شرحها في هوامش أسفل الصفحات، وإيقاع الحياة في المعسكرات، والحياة في مدن العراق بعد أن وضعت خوذة القتال على رأسها... تؤكد أن الروائي مر بأكثر من تجربة حرب عراقية. أصل المشكلة أن دار النشر لا تقدم تعريفاً بالروائي. ولا تقدم نتاجه السابق لهذه الرواية. وهي أمور ربما كانت مهمة عندما يقرأ الإنسان نصاً للمرة الأولى لكاتب لم يقرأ له قبلاً. تركت القراءة فيّ انطباعاً ان الروائي إنما يكتب عما عرفه وعايشه ومر به من تجارب. وإن كانت أحداث رواية المصري لا تتعدى جغرافياً مدينة بغداد وبالتحديد حي الأعظمية، الذي كان يعمل ويعيش فيه، فإن رواية العراقي تغطي العراق كله جغرافياً. تبدأ من بغداد حيث البطل عبدالله جلال يدرس، ثم تسافر معه جنوباً الى البصرة. والروائي يشرح أسماء المعالم التي يمر بها، ويركز على الأسماء التي كانت تطلق عليها خلال الحرب مع إيران، ويقارنها بالأسماء التي أطلقت عليها بعد ذلك. في الروايتين نقابل أدب الرحلة: رحلة المصري الى العراق، ورحلة العراقي داخل العراق، من وسطه الى جنوبه ومن جنوبه الى شماله. والبطلان ينتهي بهما الأمر الى الخروج من العراق. "أيام في الأعظمية" 128 صفحة رواية فازت بالجائزة الأولى في مسابقة "هيئة قصور الثقافة" في 1997 ونشرت في 1999. وهي حافلة بالاستشهادات من الشعر العراقي والأمثال العراقية والفولكلور العراقي. والبطل يصف حاله: "منذ أن قدمت من مصر وأنا لا أستطيع أن أبرح الأعظمية، كأنه الحب من النظرة الأولى". وما زال يردد أن: "بغداد لن تموت أبداً"، وهو الشعار الذي لا يزال العراقيون والعرب في أمسّ الحاجة إليه الآن. يعمل المصري المغترب لدى عراقي مهنته تصليح الدراجات. سافر ابنه الى الجبهة ولم يعد، فأصبح ينادي البشر جميعاً باسمه. وكأن الابن أصبح بالنسبة الى أبيه هو كل الناس. والبطل يزاوج بين رحلته الى العراق ورحلته في مصر وفصله من عمله، وتركه أسرته، وحبيبته شروق هناك على أمل العودة ذات يوم. والعراق كان بالنسبة إليه قبل السفر مكاناً في خريطة الوطن ودرساً يقرر عليه في المدرسة. لم يعد أمامه سوى الغربة والاغتراب وهو لا يرى في العراق سوى صور الرئيس التي لا مفر منها: "هوذا العراق أمامك يا عبدالرحمن وها هم الناس. تنظر الى صورة صدام، المعلقة بجوار المرآة. وكنت لاحظت - يحكي الروائي - ان كل العربات تزدان بصوره. ولاحظت قبل صعودي أن سائق السيارة يطمئن الى وقودها وعجلة القيادة ثم يتأمل الصورة. أما مواكب الشهداء فما أكثرها. ما من يوم يمر إلا ويأتي شهيد محمولاً. كان الصندوق الخشبي فوق الأعناق متدثراً بعلم العراق. المشهد يتكرر لكنه هذه المرة، كان كبيراً ويتبعه عدد غفير من الناس. وإن كان البطل المصري يبدو مرتبطاً بخطيبته شروق، فإن البطل العراقي الذي سافر الى الجبهة ولم يعد، ترك وراءه حبيبته أثيل. وهي تسترجع ما قالته لحبيبها قبل أن يسافر. كان قال لها انه مسافر من أجل حماية البوابة الشرقية فترد عليه: "كذب يا أحمد. هذا "مو" عدونا الحقيقي، عدونا الحقيقي من يكره النخيل، عدونا هذا نعرفه جيداً، ضد النفس وضد القدس وضد الأمان". فيقول لها: "كفاك أثيل، للحيطان آذان". تبدأ الرواية عبر ضمير المخاطب "أنت" وتتحول الى ضمير الغائب "هو" والحرب هي أكثر الكلمات تكراراً في الرواية. وتنتقل الرواية بين زمن مصر حيث العدو الداخلي الذي فصل البطل من عمله، وزمن العراق حيث العدو الإيراني الخارجي. ومع أن النص لا يقدم الأساس أو السند الذي يجعل من إيران عدواً، فالرواية يكتمل فيها قوس النص والحي. والبطل يبدأ من مصر وينتهي الى مصر. وإن لم يهزم في العراق، فإن الهزيمة كانت في انتظاره في مصر: رحيل والده، واختفاء حبيبته التي راحت هي الأخرى الى دكرنس. أقبلت على قراءة رواية جنان جاسم حلاوي، انطلاقاً من ثقتي باختيارات "دار الآداب" ناشرة الرواية. ولو كنت كاتبها لسميتها "ليل العراق" لأن ما من حاجة الى تخبئة العراق وراء كلمة البلاد. والرواية تغطي الزمن العراقي من 1981 الى 1991 وهو عقد كامل من عمر العراق، ملأته الحروب. "ليل البلاد" رواية واقعية، تقوم على حشد أكبر قدر من التفاصيل الصغيرة الناتجة من معايشة حثيثة. وتتخللها وثائق هي عبارة عن بيانات الحرب الصادرة عن القادة السياسيين والتوجه الإسلامي هو أبرز ما في هذه البيانات على رغم التوجه العلماني العراقي الذي كان سائداً قبل هذه الحرب. تبدأ الحرب مع إيران ولا تنتهي بوصول دبابات أميركا الى البصرة في الحرب التي سميت بحرب تحرير الكويت، ثم أصبحت حرب تدمير العراق أيضاً. نحن أمام قصة حب: عبدالله جلال ونوال وهي صبية كردية هاربة من أهلها في شمال العراق، تعرّف إليها البطل في بغداد، فأخذها وهرب الى أهله في البصرة. كان البطل هارباً ومتخلفاً عن التجنيد وأجبره والده على تسليم نفسه الى الجيش. فيبدأ الرحلة من أولها حتى يصبح مجنداً في الجيش العراقي. ومن يقرأ هذه الرواية يصبح كمن مر في تجربة التجنيد في الجيش والحرب مع إيران. لكن هناك مشكلة وحيدة وهي أن الفن اختيار للكثير من التفاصيل. في حين أن صاحب هذا النص قام مشروعه على الحشد الروائي. أي أنه يقدم كل ما مر به من أهوال. إنه يصف ص 72 اللقاء مع غجرية في معسكره: "لذة كهربية رعشته، يريد للحظة أن تطول، يريدها الآن نملة تقوده صوب سلالم البرج الشاهق السامق: سلالم لا تؤدي إلا الى سلالم، وقمم لا تفضي إلا الى قمم وهو يتسلق ويضاجع عند كل سلم.... كان ينظر اليها وهي متمددة. وجهها باهت. لحمها مصبوغ. أحمر وأسود ورمادي وترابي وطيني: وجه امرأة يملأها الهم: وجه ينطق بالبؤس والحيرة: وجه لو رأته النمور لأشفقت عليه: وجه ستبكي الغابة من أجله ويغني الفجر له ويذرف الدموع من أجله: وجه لو وضع على أريكة لبان رديفاً للموت الذي يشير الى أصله، إلى الفناء البدائي، الى صرخات غامضة مبهمة، تأتي وتختفي في أعماق غابات نخيل البصرة". لم تكن الغجرية جميلة، لكنها مؤثرة، أكثر إنسانية منه. "هل لاحظت كل هذه المترادفات اللغوية"؟ ومحاولة وصف الشيء الواحد أكثر من مرة؟ أما لقاء عبدالله مع الإيرانيين، وهو يمثل ذروة النص الروائي، فيصفه هكذا ص 214: "استدار عبدالله وأطلق رشقة من رشاشه، اصطدم جسده بكتلة داكنة ولدنة: جسد آخر: جندي إيراني عاجله عبد بسنكه فاخترق بطنه، انحنى الجسد إثر الطعنة وارتمى عليه، أطلق النار في جوفه وارتد الى الوراء. كان نائب الضابط تحسين يجندل بطلقات من مسدسه وعن قرب، أحد المهاجمين الإيرانيين المسلحين بالبلطات والسيوف". وفي هامش سابق ص 27 يكتب الروائي أن عبد مختصر اسم عبدالله وهو ما درجت عليه العامة في العراق. ما من نص روائي عراقي إلا وترد فيه الكويت باعتبارها المكان الذي تهرب منه البضائع المستوردة. لكن الكويت تصبح هذه المرة مكاناً يفكر البطل في الهروب إليه ص 98: "استغرقه التفكير في الذهاب الى الكويت. ولكن كيف سيقيم خارج على القانون في تلك الإمارة الموالية لحكومة بلده؟!". هذه رواية لا تنتهي أبداً. بدأت ولم تنته. وتحت عنوان خاتمة نقرأ: "لم تنته الحرب لأن الحروب لا تنتهي إنما يلد بعضها بعضاً، مثل سلالات الجن. لذا عاف البشر مدينة البصرة الملعونة، فالأرض ملأى بأماكن أكثر شفقة ورأفة ورحمة من هذا الطين الفائر بالخراب والنار". إن المشهد الأخير الذي ما كان يجب أن يعطيه الروائي عنوان "خاتمة"، ينتهي هكذا: "لم يغامر امرؤ للقياه إلا لما مرّت الطائرات بهول عاصف مخلفة وراءها آلاف القصاصات الراقصة في الهواء. سرعان ما تلقف إحداها. وقرأ فيها تلك العبارات العجيبة: "أيها الجندي العراقي سلِّم نفسك الى قوات المارينز الأميركية لتنقذ روحك وأرواح الآخرين. قاوم عبدالله موته وقدم سيرته في دروب القدر الإنساني والحرب، ليجد نفسه أمام الجحيم، أي أمام قوات أميركا، التي حاولت تدمير العراق منذ اثني عشر عاماً مضت.