حق الخطأ هو اللازمة المنطقية لحق الاختلاف. وهو حق تقتضيه ممارسة الحرية الفكرية التي تنطوى على إمكانات الإصابة في الاجتهاد أو الانحراف عن مدى هذه الإصابة. فالمجتهد يبدأ اجتهاده مخلصاً في نياته التي تسعى إلى الإضافة، ولكنه قد يضل في الانتقال من المقدمات إلى النتائج، أو ينزلق إلى التعميم في ما لا يجوز فيه التعميم، أو يميل إلى الإطلاق حيث ينبغى التقييد، وقد تغيب عنه معلومات ومعطيات كان في إمكانها تغيير اتجاه تفكيره أو مسار بحثه، فيمضي في ما هو عليه، مفترضاً أنه يتقدم في ما يراه السبيل الأمثل للوصول إلى وجه الحق. ولكن وجه الحق لا يبين عن نفسه لطالبيه في كل الأحوال، فقد يلتبس عليهم نتاج هوى أو تحيز لا شعوري، وقد ينأى لخلل في المقدمات أو طرائق الاستدلال وأساليب الاستنباط، فيتباعد العارف عن الهدف المقصود من فعل تعرُّفه، وينتهى إلى ما نصفه بالخطأ الذي لا ينفي نبل المقصد، وجدية المسعى، وسلامة الرغبة في المعرفة. والخطأ - في مثل هذا السياق المعرفي - علامة تميز، وليس مصدر نقيصة، أو مبرراً للذم أو القدح أو الاتهام، خصوصاً عند العقول التي تعى أن المعرفة نسبية، وأن التقدم في دروبها لا ينتهي بطالبيه إلى الغاية المقصودة في كل الأحوال، وأن كل ما على طالب المعرفة هو الإخلاص لها، والمضيّ في البحث عن أوجهها الغائبة، والكشف منها عن كل ما يظل - دائماً - في حاجة إلى الكشف. وإذا وصل طالب المعرفة إلى غايته كانت جائزته جائزتين: جائزة المحاولة المخلصة، وجائزة النجاح في السعي. وإن لم يصل إلى غايته فلا لوم عليه ولا تثريب، فقد أخلص في إيمانه بمعنى الإضافة إلى ما هو معروف، وبذل ما يستطيع من جهد في تحويل مبدأ الواقع إلى مبدأ الرغبة، أو في الانتقال مما يعلم إلى ما لا يعلم، جاداً في إيمانه بأن المغايرة سبيل الإضافة، وأن عليه أن يبدأ من حيث انتهى السابقون. ولا لوم عليه إن لم يصل، فعدم وصوله يغدو هاديا لمن يأتي بعده، أو له هو، كي يعرف سبيلاً من سبل الخطأ التي لا بد من تجنّبها، فتتضاءل أمام المحاولات اللاحقة إمكانات الانحراف عن الغاية المقصودة. ولذلك قال العلماء إن الخطأ طريق الصواب، والنتائج السلبية تفضي معرفة آلياتها إلى النتائج الإيجابية. وما وُجِد علم قط من دون خطأ، وما تقدمت معرفة من غير تعدد المحاولات التي تجمع بين السلب والإيجاب، وإن لكل محاولة معرفية قيمتها في هذا الاتجاه، بعيداً من سلب أو إيجاب النتيجة التي تصل إليها. ومن المؤكد أن الخطأ في العلوم الطبيعية غير الخطأ في العلوم الإنسانية والاجتماعية. الأول متكرر تكرار التجارب المعملية التي تبدأ من فرض، وتمضي مع محاولة إثباته التي قد تفشل أو تنجح، شأن إثبات الفرض في ذلك شأن محاولات البحث عن حل لمشكلة قائمة، أو إيجاد مدى مغاير لمعطى من المعطيات، أو اكتشاف تقنية واعدة، أو اختراع مفيد، لا يمكن الوصول إليه إلا بعد الكثير من التجارب التي تفيد من الأخطاء الحادثة، أو العارضة، أو المفاجئة، في الوصول إلى أشكال الإصابة. والخطأ في العلم يسهل تداركه، ويمكن التعرف عليه بسرعة، ومن ثم مجاوزته إلى ما يحقق إمكانات أكبر لنجاح المسعى العلمي. وتقبل العلماء للأخطاء التي يسعون إلى تحقيقها هو جزء من إيمانهم بأن الخطأ لازمة من لوازم التجريب المحتملة، وأداة لمعرفة نقيضها. ولذلك لا يلوم العلماء بعضهم بعضاً على الخطأ، أو ينتقصون من قدر الذين تنتهي محاولاتهم بالفشل، أو يرمون المخطئ بسوء النية، وإنما يكشفون للمخطئ خطأه بالتجارب العملية والدليل المادي والبرهان الملموس. ويتقبل المخطئ تصحيح خطئه بسماحة الباحث عن وجه الحق في مسعاه، هذا إذا لم يقم هو نفسه بتصحيح خطئه، وذلك من خلال الاختبار العملي للنتائج التي يتوصل إليها، ولا يعلنها على الآخرين إلا بعد أن يختبر صحتها. وليس الأمر على هذا النحو في العلوم الإنسانية والاجتماعية، فالأمر أكثر تعقيداً والتباساً. أولاً: لأن ذات الباحث هي، إلى حد ما، ومع بعض الاحتراس، جزء من موضوع البحث، فالفصل المطلق مستحيل بين الذات والموضوع، ولذلك تكتسب الموضوعية معنى مغايراً في العلوم الإنسانية والاجتماعية. ويلزم عن ذلك اتساع احتمالات الخطأ نتيجة الصلة المتداخلة بين الذات والموضوع. ولكنه بقدر دواعي الموضوعية التي تضبط تأثير الذات، وتباعد بينها والذاتية، فإن تحرير الذات نفسها من القيود المكبِّلة لحركتها أمر ضروري، بل حتمي في سعي هذه الذات إلى الموضوعية، خصوصاً عندما تصطدم الموضوعية بتحيزات العرق أو الاعتقاد أو السياسة التي قد تهيمن على السياق الذي يعمل فيه الباحث. ولذلك يؤكد فلاسفة العلم سبل موضوعية الذات بقدر تأكيدهم تحرير الذات نفسها بما يحقق لها موضوعيتها. ويتجاوب كلا الأمرين معاً في تأكيد دلالة التسامح التي تجاوز حق الاختلاف إلى تقبل احتمالات الخطأ من جهة، وعدم الخوف من حدوثها ما دام مبدأ التحقق من الصحة أو السلامة قائماً، يمارس فعل المراجعة المستمرة التي يقوم بها النقاد من الخارج، أو فعل المساءلة الذاتية الذي يقوم به الباحث أثناء بحثه، أو بعد الفراغ منه. ولكن لأن الخطأ في هذا المجال قد يمس الأعراف العامة أو الأفكار السائدة التي يخضعها الباحث للبحث، ولأن تقدم البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية مرهون بإتاحة الحرية الكاملة للبحث من دون شروط خارجية، ومن دون سقف تفرضه أية سلطة مغايرة لسلطة العلم المعرفية، فإن مبدأ تقبل الخطأ لا بد من أن يُقرر على نحو واضح، وأن يفصل بحسم بين معنى الخطأ ومعنى الاختلاف في الرأي أو التفسير، فالخطأ نقيض واضح للصواب بما يقبل البرهنة، والاختلاف تعدد في التأويل وتنوع في المدخل إلى الموضوع نفسه. والتسامح الذي لا بد من تأكيده في أحوال الخطأ، وتصحيحه بالحجة المقنعة والمعلومة الحاسمة، هو نفسه المطلوب في اختلاف الرأي، حيث ضرورة المجادلة بالتي هي أحسن، والتسليم بأن المعرفة كلها نسبية ما دمنا في مدى العلم الإنساني، وأنه ما من أحد يمتلك المفتاح الأوحد للمعرفة، أو يحتكر الحقيقة المطلقة أو اليقين الكامل. ولذلك فتقبّل الاجتهاد المختلف هو اللازمة المنطقية لاحترام المحاولة المعرفية للاجتهاد حتى لو انتهت إلى خطأ، فهذا الاحترام هو الشرط الأول لأية معرفة موضوعية في فضاء العلوم الإنسانية والاجتماعية. ويعني ذلك رفض أية سلطة قمعية تعاقب على الخطأ في العلوم الإنسانية والاجتماعية، أو العلوم الطبيعية، ورفض أية قوة خارجية تعاقب على ما تراه هي خطأ، ويراه الباحث حقاً، فلا معنى لحرية البحث أو إمكانات تقدمه من دون تقبّل حق الاختلاف وحق الخطأ على السواء. ولذلك عَلّمنا السلف الصالح أن من اجتهد له أجر حتى لو أخطأ، وإذا كان الأجر يتضاعف في حال الإصابة في الاجتهاد. فالمضاعفة لا تنفي معنى الإثابة الكامن في محاولة الاجتهاد نفسها، بعيداً من نتائجها التي لا تنفي عن المعنى حضوره في كل الأحوال، فالأصل تقدير محاولة الاجتهاد في ذاتها، والحثّ عليها، وإزاحة الخوف من احتمال الوقوع في الخطأ. وهو احتمال قد يشلّ النفوس الراغبة في المعرفة والساعية إليها، ويدفعها إما إلى النكوص عن المضي في محاولة الاجتهاد، أو إيثار السلامة وتجنب الوقوع في الخطأ، خوفاً من عقاب مادي، أو قمع معنوي. ولذلك كانت تقاليد العلم في الإسلام كما يفهمه المستنيرون من علماء الإسلام تقدير فعل الاجتهاد في ذاته بعيداً من نتائجه، وتشجيع كل محاولة في المعرفة مهما كانت الصفة الملازمة لآثارها، فالمحاولة في ذاتها لا تقل في قيمتها عن نتيجتها، وهى تستوي وإياها في معنى التقدير الذي يحث العلماء على دوام المحاولة، ويدفعهم على الاجتهاد الذي هو محمود في ذاته، ولا يختلف في القيمة عن نتيجته الإيجابية التي يظل مستقلاً عنها في علاقة السبب الذي تتولد عنه أكثر من نتيجة. ولولا ذلك ما كان للمبدأ الموروث الذي يؤكد أن من اجتهد له أجر وإن أخطأ، ويثاب بأجرين إذا أصاب، أقول لولا ذلك ما كان لهذا المبدأ من دلالة، وضاع مغزى التسوية بين فعل الاجتهاد بصفته محاولة، ونتيجته بصفتها لازمة لأصل محمود في ذاته، مستقلاً ومنفصلاً عن نتائجه. ولا تنفصل الدلالة الأصيلة لهذه التسوية عن قيمة التجريب التي لا بد من تأكيدها في هذا السياق، والكشف عن قيمتها من حيث هي محاولة للخروج على المألوف والمتعارف عليه والشائع وما يدخل في باب الإجماع والتسليم، فالتجريب يبدأ فيه اللاحق من حيث انتهى السابق، مؤمناً بنسبية المعرفة التي لا تصل إلى نهاية قط، وتظل في حاجة إلى إضافة في المدى اللانهائي لتقدمها. ولا إضافة إلا بوعي المغايرة، وضرورة التفكير المختلف، والبحث في المناطق الجديدة في الوقت الذي لا يكف الوعي عن مساءلة ما هو قائم ومعروف ومألوف، فالمساءلة تبين عن إمكانات واعدة، والإمكانات الواعدة تغري بالمضي في أفق التجريب. والتجريب فعل من أفعال الاجتهاد محمود في ذاته، مستقل عن نتائجه التي لا تنقض قيمته الذاتية حتى في أحوالها السلبية، وتزيد من قيمته في أحوالها الإيجابية، وذلك بما يؤكد أنه لا تقدم في الأفق المعرفي من غير تجريب. والأمر في ذلك لا يقتصر على العلم الطبيعي وحده، بل يجاوزه إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية، وإلى الآداب والفنون في الوقت نفسه، خصوصاً حين يغدو الابتكار غاية التجريب، والابتداع علامة الثقافة التي تنفض عنها قيود الاتّباع، وممارسة فعل التجريب الذي هو فعل اجتهاد في كل مجال من مجالاتها. وإذا كان اتساع مجالات التجريب قرين ازدهار الحرية في كل مستوياتها ومجالاتها السياسية والاجتماعية والفكرية والإبداعىة، في المدى المفتوح من حيوية الأمم التي لا تكف عن السعي لمضاعفة تقدمها، فإن حق الخطأ هو الوجه الآخر من حق الاختلاف في فعل الممارسة الخلاّق للاجتهاد الذي هو أصل كل تجريب. وفي المقابل، فإن تقليص مجالات التجريب والاسترابة فيه، ووصفه ببدعة الضلالة، التي تفضي إلى النار، هو الوجه الآخر من تحريم الاختلاف، وتأثيم التنوع والتعدد، تأكيداً لمبادئ الإجماع التي لا تخلو منها ثقافة التقليد، وينبني عليها الوعي الجمعي للأمم التي تعيش تحت وطأة الاستبداد وتترسخ فيها طبائعه. وإذا كانت الديكتاتورية السياسية الوجه الآخر للتعصب الفكرى وذلك بالقدر الذي يتجاوب به الجمود الاجتماعي والتطرف الديني، في الدول المتخلفة التي تنغلق على ذاتها، ممسوسة بصور متخيَّلة عن ماضيها التي تسعى إلى استعادته، كي يكون غدها عوداً على أمسها، فإن تجاوب الديكتاتورية السياسية والجمود الاجتماعي والتعصب الفكري والتطرف الديني يؤكد نوعاً من الأصولية التي لا تكفّ عن استئصال الاختلاف والترويع من الخطأ، حفاظاً على أصل متخيَّل، وحماية لمبدأ الإجماع الذي هو إذعان مطلق لسلطة أعلى في كل المجالات وعلى كل المستويات. وعندما تشيع هذه الأصولية، وتتغلغل في العقول والنفوس، يغلب الاتِّباع على الابتداع، وتختفي رغبة الابتكار لتحل محلها نزعة التقليد، ويتحول حق الاختلاف إلى إثم الخروج على الجماعة، ويغدو الخطأ في الاجتهاد نهاية ضلاله البدعة المفضية إلى النار كما تغدو عواقبه المخيفة باعثاً على إيثار السلامة، والبعد عن الاجتهاد واحتمالاته الضارة، ولزوم الجماعة والإذعان إلى السائد من أفكارها وعاداتها ونواهيها. ويترتب على ذلك ما يمارسه حرّاس الأصولية من عنف يهدف إلى قمع الخارج على تعاليمها التي لا تقبل سوى الإذعان المطلق والتصديق التام. ويغدو الخطأ جريمة لا بد من المحاسبة عليها، والتنكيل بمقترفها، وذلك بما ينفي أجر الاجتهاد عن محاولته، ويحول بين المجتهد وحقه الطبيعى في الخطأ. ولا يقتصر التعصب في هذا المدى على تجريب الخطأ غير المقصود، بل يجاوزه إلى تأثيم الاختلاف وتحريمه بما يجعل منه خطأ لعيناً يستوجب العقاب القمعي... والأمثلة على حالات التكفير أو التخوين أكثر من أن أشير إليها في الممارسات القمعية التي تكرر الواقع المتخلف الذي تبقى عليه الثقافة التقليدية السائدة، وتعمل على تبريره سياسياً واجتماعياً وفكرياً وإبداعياً، وذلك بآليات لا تخلو من وسائل التدجين والاحتواء، التحسين والتقبيح، الترويع والاستئصال. أقصد إلى الوسائل التي يتلاعب بعضها بالمسميات، فيصل مشتقات الإبداع بدلالته الخلاقة بمسمى البدعة بدلالاتها المقترنة بالضلالة، مستبدلاً بالدلالة الموجبة دلالة سلبية، وذلك في السياق نفسه الذي ينفي حق الخطأ، ويستبدل بأجر المجتهد الذي يخطئ العقاب الصارم على المعصية التي اقترنت بالخطأ الذي هو خروج على الإجماع والتقليد، وذلك بما يجعل من فعل العقاب نفسه - من عنفه القمعي - فعلاً لترويع من يفكرون في الاجتهاد، أو الاندفاع في أفقه، التجريبي. ومن ذا الذي يريد من هؤلاء أن يتم التفريق بينه وزوجه كما حدث لنصر أبو زيد، أو يقضي على حياته كما حدث لفرج فودة، أو تنغرس سكين صدئة في رقبته كما حدث لنجيب محفوظ، أو يدخل السجن، أو يطرد من وظيفته الجامعية أو غير الجامعية، أو يفر من وطنه منفيّاً بإرادته، كما حدث، ولا يزال يحدث لمئات، بل آلاف، من أعظم العقول العربية؟!