نشرت صحيفة "صانداي تايمز" في ملحق الأحد الماضي، تحقيقاً علمياً ذكّرت فيه بملابسات حادثة اغتيال الامبراطور الروماني يوليوس قيصر التي وقعت يوم 15 آذار مارس سنة 44 ق.م. وكان واضحاً من توقيت نشر التحقيق ان الصحيفة التي يملكها روبرت مردوخ، تريد الايحاء بأن تاريخ الخامس عشر من آذار المصادف اليوم هو ايضاً علامة شؤم لصدام حسين مثلما كان نذير شؤم للقيصر. ويروي المؤرخون ان العرّاف "سبورينا" حذره من علامات الشؤم المرتسمة في أجواء منتصف آذار Ides of March، ولكن الامبراطور تجاهلها وتحدى بحضوره المتآمرين عليه الذين تناوبوا على طعنه بالخناجر 23 طعنة كانت آلمها طعنة بروتوس! وسبق لروبرت مردوخ ان سرب لجريدته الشعبية "ذي صن" خبراً مفاده ان الحرب ستقع قبل الخامس عشر من آذار أو بعده بقليل، الأمر الذي رفع المبيعات خلال ذلك الصباح من ثلاثة ملايين نسخة الى عشرة ملايين نسخة. ويتردد في لندن ان مردوخ استقى معلوماته من صديقه ارييل شارون الذي رافقه في المروحية أثناء غزو لبنان عام 1982. والملفت ان الروس بدأوا عملية اجلاء رعاياهم إثر توافر تقديرات استخبارية تشير الى الخامس عشر من آذار كموعد لبداية الهجوم على العراق. ولكن الأزمة السياسية التي يواجهها رئيس وزراء بريطانيا مع المتمردين الكثر من أعضاء حزبه، جمدت الخطة العسكرية وفرضت على الرئيس جورج بوش تأخير الهجوم الى حين يستكمل شريكه بلير ترسيخ موقفه حيال معارضيه. وهو موقف متذبذب قلص دور "حزب العمال"، خصوصاً بعد تدخل كبار المحامين وعلماء القانون الذين اثبتوا عبر كتاباتهم في الصحف أن القرار 1441 لا يجيز استخدام القوة ضد العراق. وأجمع أساتذة القانون في الجامعات البريطانية على القول بأن عبارة: "اتخاذ كل الوسائل الضرورية لضمان اذعان العراق للالتزامات المطلوبة" لا تمثل الثغرة الشرعية التي يتسلح بها الاميركيون لغزو العراق. وفي الدراسة التي نشرها البروفسور روبرت بلاك، استاذ القانون في جامعة أدنبره، تفسير للصياغة اللغوية المنتقاة بدقة وعناية فائقة بغرض ضمان موافقة الغالبية في مجلس الأمن على القرار 1441. وتقول الدراسة ان النص المعدل للمشروع الاميركي - البريطاني - الاسباني الذي يمهل العراق حتى 17 آذار لنزع سلاحه... هذا المشروع لا يخول أعضاء مجلس الأمن اللجوء الى التدخل المسلح. ومع ازدياد الحملات الداخلية ضد تورط الحكومة البريطانية في حرب تقودها واشنطن، اضطر توني بلير الى استحداث ملحق للمشروع المعدل يحتفظ فيه بحق التحرك العسكري التلقائي. ويتضمن الملحق ستة شروط بينها شرط يطالب صدام حسين بتكذيب نفسه بالعربية من خلال اعترافه أمام التلفزيون بامتلاك أسلحة دمار شامل. الالحاح الأميركي المتواصل أرغم الحليف البريطاني على ابتكار صيغة ديبلوماسية غير مألوفة بهدف احراج صدام حسين ودفعه الى رفض الشروط الستة. ويبدو أن واشنطن هي التي شجعت بلير على اختيار هذا المخرج السياسي مستندة الى اختبارات الحرب النفسية التي شنتها على الرئيس العراقي خلال غزو الكويت. واعتمدت يومها على تحاليل علماء النفس الذين وظفوا عنجهية صدام واعتداده بنفسه لجره الى فخ التحدي والقتال. ويعترف وزير الخارجية الأميركي السابق جيمس بيكر بأنه استخدم الاسلوب الاستفزازي أثناء اجتماعه بطارق عزيز في جنيف يوم التاسع من كانون الثاني يناير 1991. وحمل بيكر الى اجتماع الفرصة الأخيرة كتاباً موجهاً الى صدام حسين يهدده فيه بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا هو لم ينسحب من الكويت. وعرضت نسخة عن الرسالة على سفيرين عربيين في واشنطن قاما باضافة عبارات مهينة لكي لا يتركا للرئيس العراقي أي مجال لقبول الانسحاب السلمي. وإضافة الى كتاب الرئيس بوش الأب حمل بيكر معه شريطاً مصوراً مدته نصف ساعة يظهر شراسة المعركة ومختلف الأسلحة المدمرة التي ستستخدم ضد العراق. وبعد اتصال أجراه السفير برزان التكريتي مع بغداد رفض طارق عزيز الاسلوب الذي صيغت به الرسالة، كما رفض مشاهدة الفيلم أيضاً. وهكذا وفر الرفض العراقي الذريعة المطلوبة لتنفيذ الخطة العسكرية. والمؤكد ان تجربة 1991 اعطت صدام حسين درساً في الحذر والدراية ومقاومة كل استفزاز يراد به إحراجه لإطاحته. وبناء على ذلك الاختبار المرير قرر الرئيس العراقي لإطاحته لقرار مجلس الأمن 1441. كما قرر عدم اعطاء خصومه الحجج القاتلة بحيث انه أمر بإزالة كل مماسح الأحذية المكتوب عليها جورج بوش يقصد الرئيس الوالد من أمام أبواب الفنادق وقصور الرئاسة. لكن وزير خارجيته ناجي صبري رفض شروط بريطانيا الستة على اعتبار أن المعركة السياسية انتقلت الى الساحة الدولية، ولأن تشكيل التحالف العسكري لم يعد وقفاً على إرادة الولاياتالمتحدة وحدها. وللمرة الأولى تصبح مسألة الحرب داخل المجتمع البريطاني، قضية سياسية عامة يشترك فيها النواب والديبلوماسيون والفنانون والكتاب وأساتذة الجامعات وطلابها، ورجال الدين والصحافة، والجمعيات النسائية وكل شرائح الشعب تقريباً. ولقد تعرض توني بلير لسلسلة هزائم معنوية أثناء المناقشات الحادة التي أثيرت في البرلمان وخارجه. وانتقده أساتذة الجامعات لانتهاكه شرعة الأممالمتحدة ونظام التصويت في مجلس الأمن، لأن النتيجة جاءت مخالفة لتوقعاته. واتهموه بالتخلي عن السيادة الوطنية لأن واشنطن شجعته على التنكر لقيم الحرية والعدالة والمبادئ التي يتبجح الغرب بتصديرها الى دول العالم الثالث. وهاجم بعض النواب سياسة التبعية للولايات المتحدة، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بمهادنة اسرائيل وضرب العراق. وطالب آخرون بالابتعاد عن المظلة الاميركية التي شكلت عائقاً أمام التحركات البريطانية، سواء في البوسنة أم في الشرق الأوسط أم في افغانستان. ومثل هذا السلوك الذي دشنه اتفاق تشرشل - روزفلت خلق لدى المسؤولين البريطانيين خوفاً من إغضاب الأميركيين، ومن إشعارهم بأن الانتماء الى التحالف الأوروبي قد ينهي شراكتهم المميزة مع واشنطن. وكان من نتجية هذا التعاون أن أصبحت لندن عاجزة عن اتخاذ أي قرار من دون مساندة واشنطن أو تدخلها. وبسبب هذا العجز المتنامي استغلت فرنسا غياب الدور البريطاني لكي تقدم للأوروبيين والعرب صوتاً آخر غير صوت أميركا. وكان من الطبيعي ان تؤثر حملات الانتقاد والتهجم على شعبية توني بلير، وعلى صدقية موقفه بالنسبة الى حسم مسألة الحرب. ولقد وظف خصومه تراجع مؤيديه لمطالبته بالتنحي بعد اعتراض أكثر من مئتي نائب عمالي على قرار الحرب. وذكّره بعضهم باستقالات رؤساء وزراء سابقين فقدوا دعم نواب أحزابهم. ذلك ان غلادستون تخلى عن الحكم لأن 93 نائباً من حزب الأحرار صوت ضده. وهذا ما فعله نيفيل تشمبرلين سنة 1940 عندما صوت ضده 33 نائباً من حزب المحافظين. ومثله فعل انتوني ايدن عقب أزمة السويس 1956. وفي ضوء هذه الخلفية التاريخية كتب الصحافي مايكل ادامز مقالة في "الغارديان" يحذر فيها بلير من السقوط في الهوة التي سقط فيها سلفه ايدن. وفي رأيه أن ربح المعركة العسكرية ليس بالضرورة أن يؤدي الى ربح المعركة السياسية. وأكبر مثل على ذلك ما حدث للرئيس جورج بوش الأب الذي ربح حرب 1991 وخسر من بعدها الانتخابات بسبب الوضع الاقتصادي السيئ. ولهذا دعاه ادامز الى الانفصال عن حليفه جورج دبليو بوش لأنه سيتعرض لتكرار دور والده. خصوصاً ان رهانه الأكبر سيكون على دور بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي. وهو بصدد اجراء استفتاء السنة المقبلة للانضمام الى منطقة "اليورو". ومعنى هذا أن فرنسا والمانيا ستعملان على حرمان بريطانيا من الانضمام الى التحالف كعقاب على تبعيتها لأميركا. السفير الأميركي في موسكو الكسندر فيرشو نقل الى الرئيس فلاديمير بوتين رسالة تحمل تحذير واشنطن بأن استخدام الفيتو من قبل روسيا سيلحق الأذى بعلاقات البلدين. وتشير الرسالة الى المجالات التي سيشملها أذى الانتقام وبينها الطاقة والاستثمارات والفضاء وشبكة الصواريخ. واعتبرت موسكو ان التهديد الأميركي يمثل نوعاً من الضغط الاقتصادي بهدف تغيير مواقفها المبدئية. لذلك ردت باعلان ثبات موقفها معتبرة أن الحرب هي خطأ مأسوي سيؤدي الى خلق موجة اضطرابات في الشرق الأوسط. ومع ان بوتين وافق على دعم الولاياتالمتحدة في حربها ضد الارهاب لعلها تخفف من اعبائه العسكرية في الشيشان، إلا أنه متيقن أن إعادة تشكيل المنطقة عبر اسقاط النظام العراقي، سيجدد نشاط "القاعدة" ويعطي العناصر المتطرفة الذخيرة المطلوبة لنشر الفوضى والبلبلة. ويرى المراقبون أن واشنطن تخشى من نتائج التحول الروسي، ومن احتمال تحالفها مع فرنسا والمانيا في مرحلة التباعد الأميركي - الأوروبي. والمؤكد ان بوتين يتطلع الى منطقة الشرق الأوسط كخاصرة استراتيجية يصعب تعريضها للاجتياح الأميركي. وقد يكون الدافع الى دعم الخيار الفرنسي - الألماني ما يمكن أن تجنيه روسيا من فوائد في حال استعادت دورها السابق داخل العالم العربي. أي دور الحاضن والمنقذ من شراسة الثور الأميركي الهائج. على صعيد آخر، تشهد العلاقات الأميركية - الفرنسية تدهوراً على مختلف المستويات: السياسية والاقتصادية والإعلامية. ويتطلع الرئيس جورج بوش الى الرئيس جاك شيراك كمنافس عنيد يمنعه من التحكم بمصائر العالم. لذلك يصفه ب"بروتوس" الذي اشترك في طعنه متناسياً المساعدات الأميركية التي انقذت اقتصاد فرنسا بعد الحرب... ومتناسياً غزارة الدماء التي قدمها جنود أميركا في معركة تحرير فرنسا. وكان من الطبيعي ان يبرز الفرنسيون مواقفهم التاريخية السابقة وتأييدهم المتواصل لانقاذ الأميركيين من الاستعمار البريطاني منذ عهد لويس السادس عشر. ولا يخفي كتاب فرنسا الفصول المشرقة المتعلقة بحملة "لافييت"، وبالهدية الرمزية التي تبرع بها الشعب الفرنسي لصالح الشعب الأميركي. وكان ذلك تلبية لنداء المؤرخ ادوارد دو لابولي الذي جمع التبرعات وعهد الى النحات الفرنسي الشهير فريدريك اوغستي بارثولدي بصنع تمثال الحرية عام 1875. وهكذا تكون فرنسا قد أهدت لأميركا أهم رموزها وأغلى قيمها الممثلة بتمثال الحرية المطل على ميناء نيويورك. أي تمثال امرأة فرنسية تحمل بيمناها مشعل الحرية وبيسراها لوحاً حجرياً حفر عليه تاريخ تحرر أميركا 4 تموز/ يوليو 1776. وكل ما يريد ان يثبته جاك شيراك بموقف قد يكلفه مستقبله السياسي، هو أن الديموقراطية التي يبشر الرئيس بوش بنشرها في العراق والدول العربية لا تحتمل ظهور شخص معارض يحمل قميصه عبارة تدعو الى السلام في وقت يدعو رئيسه الى الحرب! * كاتب وصحافي لبناني.